الست الطاهرة
يونس في بطن الحوت
واحد من أهل الكهف
قيصر
مولانا السلطان
القلم
التابوت
البيت
ابن السلطان
الشمس
ناپیژندل شوی مخ
تذكر يا مولاي
البئر
الشيخ سيد طار
بابا وماما
أسوار المدينة
لا ...
نقل دم
الزلزال1
القبلة الأخيرة
إيكاروس1
ناپیژندل شوی مخ
الصبي الذي كان يحمل اسمي1
قرطبتي وحيدة وبعيدة1
الست الطاهرة
يونس في بطن الحوت
واحد من أهل الكهف
قيصر
مولانا السلطان
القلم
التابوت
البيت
ناپیژندل شوی مخ
ابن السلطان
الشمس
تذكر يا مولاي
البئر
الشيخ سيد طار
بابا وماما
أسوار المدينة
لا ...
نقل دم
الزلزال1
ناپیژندل شوی مخ
القبلة الأخيرة
إيكاروس1
الصبي الذي كان يحمل اسمي1
قرطبتي وحيدة وبعيدة1
القبلة الأخيرة
القبلة الأخيرة
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الست الطاهرة
نحن في عز المولد، صياح الميكروفونات والناس والعربات وحلقات الذكر يصم الآذان، القزم عتريس يدخل من باب الجامع في طريقه إلى المقام، الشحاذون يبتسمون، الزوار يتلفتون إليه ويبتسمون، السقاءون الواقفون في الممر الطويل كتماثيل من الخشب ينظرون إليه بعيونهم الحزينة الجامدة ويبتسمون، عتريس يدخل المقام وينحشر وسط الزحام، وسط الأجسام والأيدي المتشابكة، تتلمس يداه الصغيرتان موضعا على الشباك، يريح وجهه المكرمش العجوز عليه، تتمتم شفاه، يعلو صوته، لكن أصوات الدعاء والتكبير والتلاوة أعلى منه، الزوار يلمحونه ويعجبون، كم يكون عجبهم لو عرفوا أن الست أيضا تكلمه، وحده دون غيره. - من ينادي؟! - يا ست! نظرة يا ست!
ناپیژندل شوی مخ
عتريس يا ست، القزم عتريس. - أنت جيت يا عتريس؟ - جيت يا ست، أبوس الأيادي، أركع عند رجليك.
أشم رائحتك الطاهرة، دخت يا ست، تهت في بلاد الله، وشرقت وغربت. لا شغلة ولا مشغلة. - والسيرك يا عتريس؟
قفلوه في وجهي، قالوا عجزت ولا بقى فيك حيل، من يوم ما وقعت يا ست، وقعت من على ظهر الخيل، كنت أنادي على عادتي بعزم ما في، وأقول نفسك معي يا ست، قلت أعمل حركة من حركاتي المشهورة وأضحك الناس، وقعت على الأرض رأسي تحت ورجلي فوق، الناس ضحكت لغاية ما شبعت، لكن رجلي انكسرت، ظهري انشرخ. - وبعدها يا عتريس! - أخذوني إلى المستشفى، وضعوا رجلي وظهري في الجبس سبعين يوما وحياتك يا ست، سبعين يوما وحق مقامك الطاهر، وبعد ما خرجت من المستشفى سألت عليهم، قالوا لي في مولد الست، يا ناس أرجع لشغلي. - لأ يا عتريس، يهديكم يرضيكم، أنت عجزت يا عتريس، طيب جربوني، عمرنا ما شفنا البهلوان على عكاز، نفسي أضحك الناس، ستضحك الناس علينا يا عتريس، يا ناس ترموني رمي الكلاب؟ رزقك على الله يا عتريس، صرخت بعزم ما في: يا طاهرة! سقت عليك النبي يا حبيبة! - وسمعتك يا عتريس. - عارف يا ست، لكن العمل؟ - العمل عمل الله يا عتريس. - كلمة منك تفتح الأبواب، دعوة منك تحنن القلوب، لأجل الحبيب الشفيع تشفعي لي يا حبيبة. - عند من يا عتريس. - عند أصحاب الأكشاك يا ست، ألعابهم كثيرة، صحيح انكسرت وما عاد في حيل، لكن أقدر أضحك الناس، أحكي لهم حكايتي، أحلف لهم أني يا ما أضحكت ناس وأبكيت ناس. - رح يا عتريس، ربنا يفتح لك الأبواب.
في اليوم التالي عاد القزم عتريس إلى المقام، الشحاذون على باب الجامع رأوه وابتسموا، الزوار لمحوه يتدحرج في الممر الطويل، ولولا قداسة المكان لضحكوا، السقاءون الواقفون كتماثيل من خشب، نظروا إليه بعيونهم الجامدة الحزينة وابتسموا، تزاحم عتريس وانحشر بين الناس، تحسس الشباك الطاهر وشم العطر وراح في الجلالة، وقال: يا ست! - قل يا عتريس! - رحت لهم يا ست، فت عليهم واحدا واحدا. - من يا عتريس؟ - كلهم يا ست، الساحر الأسود، شيطان الموت، الغول العظيم، الحاوي العجيب، حتى الأراجوز فت عليه. - ومن هو الأراجوز يا عتريس؟ - رجل صغير يعلقونه من شعره بسلك، ويحركون رجليه ويديه بسلوك، طول النهار يشتم ويلعن ويسب. - ابعد عنه يا عتريس. - هو الذي أبعدني يا ست. - والباقون؟ - قلت لهم: أشتغل معكم، قالوا: راحت عليك يا عتريس، يا ناس ولو نمرة واحدة، ما عاد فيك حيل يا عتريس، يا عالم ولو تقعدوني على المسرح والناس مصيرها تضحك، الناس غير أيام زمان يا عتريس، طيب أقف على رأسي، مرة واحدة يا عالم، تقع تموت يا عتريس، ونروح في داهية معك. - معهم حق يا عتريس. - تقولين معهم حق يا ست؟ - شعرك أبيض، قلبك تعب يا عتريس. - القلب لا يتعب من ذكرك يا ست، طيب تصدقي بالحبيب! - عليه أفضل الصلاة والسلام. - لو تسمحين لي يا ست؟ - ماذا تريد يا عتريس؟ - أقف على رأسي مرة واحدة قدامك، أثبت لك أن عتريس هو عتريس، بهلوان زمانه ووحيد عصره وأوانه. - هنا في المقام؟ يا للعيب يا عتريس! - من نفسي يا ست، مرة واحدة يا حبيبة، مرة واحدة لأجل الحبيب. - عيب يا عتريس.
دمدم الصوت المنبعث عن المقام، زام في أذنه كالريح، غامت الدنيا في عينيه، امتدت يد فرفعت يده عن الشباك الطاهر في عنف، زعق صاحبها الذي بدت رأسه كأنها القبة: اسع وصل على النبي! انتبه يا عتريس إلى العملاق الواقف إلى جانبه، وخاف أن يدوسه، يخنقه، يرميه من الباب، صرخ: والعمل يا ست؟
جاءه الصوت العميق الهادئ كأن حمامة توشوشه: اسع وصل على النبي يا عتريس. - الأبواب كلها اتقفلت في وجهي يا ست. - إلا بابي يا عتريس، إلا بابي. - يرضيك عتريس يصبح شحاذا يا ست؟ - الأرزاق على الله يا عتريس.
يوما وقف القزم عتريس على باب الست، طول النهار وقف على باب الحبيبة بنت الحبيب، «يصعب» على واحد ويضحك عليه عشرون، الستات تشير عليه، وتقول: شوفوا خلقة ربنا! والأطفال تصرخ وتقول: شوفوا الرجل المسخوط، والمشايخ يستعيذون بالله ويقولون: امش من هنا ورزقك على الله، والشحاذون يطردونه ويقولون: ما بقي غير البهلوان يقف قدام صاحبة المقام، عتريس صعبت عليه نفسه، غضب ودخل المقام ورفع يديه وقال: نفسك معي يا ست، نفسي ضاق يا بنت بنت الحبيب. - رجعت يا عترس؟ - الشحاذة للشحاذين يا ست، وأنا طول عمري فنان. - ما معنى فنان يا عتريس؟ - أمثل، أضحك الناس، أدهن وجهي بودرة، أقف على رأسي، انظري.
وأحس عتريس أن الشباب عاد إليه، وبحركة مفاجئة كان يقف في وسط المقام كالبصلة، رأسه تحت ورجلاه في السماء، وبحركة مفاجئة أيضا هاج الناس، رفع المشايخ وجوههم عن المصاحف، وهجم عليه حارس المقام فأمسكه من رقبته وزعق: يا نجس! يا ملعون، وحق مقام الست الطاهرة لأشدك على القسم!
في الزنزانة المعتمة، على البرش الخشن، نام عتريس وهو يفكر فيما جرى له، ويتذكر حياته القصيرة قصر جسمه، وبالليل طلعت له الست الطاهرة، وجهها مضيء كالبدر، جبهتها صافية كاللبن الحليب، ثوبها أبيض في أبيض كالملاك. - عملتها يا عتريس؟ - أمر الله يا ست. - وفي المقام! - معذور وحياتك. - الدنيا واسعة يا عتريس. - الدنيا ضاقت في وجهي يا ست. - وتتشقلب في المقام يا عتريس؟ - كان نفسي ألعب مرة قدامك، مرة واحدة قبل ما أموت. - هجموا عليك كلهم. - كلهم يا ست، المشايخ والعساكر، الشحاذون والسقاءون، الأفندية والفلاحون. - ورموك في الزنزانة. - على البرش الخشن، في العتمة والرطوبة، وسط الفيران والبراغيث. - تعبان يا عتريس؟ - كل واحد ونصيبه يا ست. - زعلان يا عتريس؟ - كلك نظر يا أم العواجز. - ألا تريد أن تسامحني؟!
فتح القزم عتريس عينيه قبل أن يغلقهما إلى الأبد.
ناپیژندل شوی مخ
تنهد بصعوبة وقال: لا يا ست، أبدا أبدا.
يونس في بطن الحوت
لم أكن أعلم أنها ستكون ليلة سوداء، ولا كنت أتصور أنني سأحمل في آخرها إلى المستشفى، كما يحمل النعش على الأعناق، فبعد أن أعطيتهم المعلومات اللازمة عني، وقيدوا اسمي ورقم بطاقتي على استمارة في حجم الكف، قادوني إلى حجرة في الدور العلوي، في نهاية ممر مظلم، قالوا لي: ليس عندنا غيرها، وسيشاركك فيها محمود بك، عندما يأتي متأخرا كعادته بعد سهرة طويلة في الكازينو، لم يكن يهمني أن أعرف شيئا عن محمود بك، فلم أسألهم عنه، بل دخلت إلى الغرفة وأقفلت بابها ورائي، كنت متعبا من السفر في أتوبيس البراري، محملا برائحة العرق والتراب والزحام، وكان كل همي أن أستسلم للنوم في أسرع وقت، وألقيت نظرة سريعة على الحجرة، لم يكن بها أكثر من دولاب خشبي صغير وسرير مستطيل بدا لي لكآبته كأنه تابوت، فوقه ملاءة بيضاء عليها بقع غامقة، ولحاف حال لونه وبدت آثار العرق على أطرافه المتسخة، وألقيت بنفسي على الكرسي الوحيد الموضوع إلى جانب السرير ، فخلعت ملابسي وألقيتها كيفما اتفق، وأخرجت بيجامتي وأسرعت أرتديها قبل أن يكبس علي النوم.
كانت متاعب اليوم قد ازدحمت علي، فلم تبق في قدرة على التفكير فيها، لقد طردني أبي من البيت في أول النهار، صرخ في وجهي بأعلى صوته: رح في ستين داهية وإياك أن تعتب الباب وإلا قطعت رجلك. وحين حاولت أن أرد عليه بصق في وجهي وصفعني. كان لا بد أن أغادر البيت وأن أغور من وجهه كما قال، ولم يكن هناك فائدة من محاولة الصلح معه أو استعطافه، بعد أن أهانني أمام الناس أكثر من مرة، وبكت أمي وهي تراني أعد حقيبتي وقالت: أبوك يا ابني على كل حال، رح بس يده ومصيره يرضى عنك. صرخت فيها وقلت إن العيشة معه أصبحت تكفر، وإن بلاد الله واسعة، وقلت: إنني سأعرفه شغله وآخذ حقي منه، وإن شاء الله سأحجر عليه وأدخله المورستان، وأعطتني أمي جنيها وضعته في جيبي مع الجنيهين اللذين كانا معي، ورزعت الباب خلفي وأنا أسمعها تدعو لي بأن يصلح الله حالي ويخزي الشيطان عني.
كان لا بد من وضع حد لتصرفات أبي التي زادت عن كل حد، لقد نسينا أنا وأمي وإخوتي الصغار، وكلهم في المدارس ويستحقون التربية، ولم يعد يسأل عنا بقرش واحد، وليته تركنا في حالنا ندبر معايشنا بأيدينا، فدكان البقالة الذي نعيش منه يكفينا ويستر علينا، ولكنه لطخ اسمنا بالوحل، حتى صار الناس كلهم في بلدنا يرددون فضائحه ويأكلون وجوهنا بتظاهرهم بالعطف علينا، لم يكتف بأن يهجر البيت ليعيش مع هانم الغازية - وبعض الألسنة تقول إنها كانت خادمة في بيت العمدة الذي لا يغيب عن مجلسه - بعد أن شاخ وزاد على الستين، بل كان يأتي غاضبا إلى الدكان كل يوم والثاني ويفرغ الدرج بما فيه، ويحاسبني أيضا ويتهمني بالسرقة والإهمال وتطفيش الزبائن. صبرت وشلت الحمل حتى تعبت وصعبت علي نفسي من الذل والنكد والإهانة والشتائم بسبب وبغير سبب، وكان لا بد من أن أفكر في حل يضمن لنا لقمة العيش، ويريحنا من غارات أبي علينا ويسترنا من فضائحه، فقررت أن أسافر إلى المركز وأسأل عن رجل أصله من بلدنا اسمه «حسان»، يشتغل وكيل محام هناك، وأعرف منه إن كان من الممكن أن أرفع دعوى الحجر على أبي، وهكذا سافرت في ذلك اليوم، ووصلت متعبا في المساء إلى الفندق الرخيص، الذي دلوني على تلك الحجرة فيه.
وفتحت عيني فجأة على أثر الإحساس بأنفاس حارة تصدم وجهي، وكان أول ما وقعت عليه وجها أحمر منتفخا، لم أتبين من ملامحه في أول الأمر شيئا، واعتدلت في الفراش محاولا أن أعتذر عن وجودي في الحجرة، وأن أشرح للرجل الذي كان منهمكا في خلع ملابسه أنه لم يكن لي يد في مشاركته في الحجرة في تلك الليلة، وجاءني صوت عميق خشن يقول: مساء الخير. فرددت السلام مرتبكا ورفعت يدي إلى رأسي، فأصلحت شعري واعتدلت في جلستي على الفراش. - كنت تشخر شخيرا عاليا، يظهر أنك تعبان.
نظرت إليه ولاحظت وجهه الضخم ورأسه الأصلع والشعر الكثيف على صدره، وقلت: من السفر فقط، أرجو ألا أقلقك الليلة. - أبدا ... أبدا، أنا دائما نومي ثقيل.
ثم بعد لحظة وهو يرتدي جاكتة البيجامة: غريب؟ - نعم، جئت أستشير وكيل محام من بلدنا في مسألة، وربما أرفع دعوى في المحكمة. - في المحكمة؟ إذن فسوف تنظر أمامي.
اعتدلت أكثر في الفراش وسألت: حضرتك ...
فقاطعني قائلا: نعم، قاض في المحكمة الجزئية، أحضر إلى هنا يومين في الأسبوع، وأرجع لمصر بعد الظهر.
ناپیژندل شوی مخ
وازداد انتباهي فأردت أن أنتهز الفرصة وأستشيره في حكايتي، رحت أشرح له قصتي مع أبي وهو يستمع في هدوء.
وحين انتهيت من سردها عليه سألني وهو يبتسم: ما اسمك؟
ومع أن السؤال بدا لي خارجا عن الموضوع، فقد أجبت: يونس، يونس عبد العظيم.
أطرق برأسه حتى كادت تلامس الشعر الأسود الكثيف في صدره، وقال: يونس هيه، ماذا تريد؟!
أفلت مني الرد الطائش كأنني أصرخ في حلم، فهتفت: أريد العدل!
زاد من تقطيب وجهه ومسح ذقنه بكفه قبل أن يقول: يونس، ويبحث عن العدالة، نفس الحكاية القديمة!
لم أفهم شيئا، فقلت: هل ترى سعادتك فائدة من الدعوى؟
نهض على قدميه وأخذ يتمشى في الحجرة، التي بدت ضيقة وهو يذرعها بخطواته الواسعة المتأنية، ثم وقف فجأة وأشار إلي بيده الضخمة: هل تعرف ماذا جرى له؟
سألت: لمن يا سعادة البيه؟
فقال في عصبية: ليونس طبعا، قلت لك ليونس!
ناپیژندل شوی مخ
قلت وقد ازدادت حيرتي: وأين جرى له هذا؟
قال كأنه لم يسمعني: في جوف الحوت طبعا!
ولم أفهم عن أي شيء يتكلم، فرأيت من الخير أن أسكت، وزادت مخاوفي وأنا أراه يقترب من السرير، ويشخط في كأنه يوقظ ميتا: عار عليك ألا تعرف!
بلعت ريقي وأخذت أفتش في رأسي عن كلمة أهدئه بها، وأعتذر له بأنني رجل غريب، ولا أعرف عن الموضوع شيئا، لكنني اطمأننت قليلا حين رأيته يدور على نفسه، ويسير خطوات في الحجرة ثم يقف في وسطها تماما، ويشبك ذراعيه حول صدره ويحك ذقنه بيده، ثم يخطب قائلا: الحقيقة أن الآراء مختلفة في هذه المسألة، مختلفة كل الاختلاف حتى إنني أعذرك إذا اكتشفت أنها متعارضة مع بعضها، هناك من يقولون مثلا: إن يونس بعد أن يئس من أهل نينوى سار إلى شاطئ البحر، وهناك من يقولون أيضا: إن الله هو الذي طرده بنفسه من المدينة العظيمة، وعلى كل حال، فقد كان من رأيه أنه فشل في مهمته، وأنه لم يعد هناك مبرر لحياته على الإطلاق، تستطيع أيضا أن تقول إنه كان خجلا من أن يراه الله على هذه الحالة، ولم يعرف أين يداري وجهه من الخجل، وبينما كان يرسل بصره على البحر، رأى جسما أبيض هائلا يطفو على سطح الماء من بعيد.
كان يمكن أن يظنه سفينة لولا أنه رآه يغطس بعد قليل، فأدرك بخبرته الطويلة بالحياة في شواطئ البحار أنه حوت عظيم، وتمنى من قلبه لو اقترب الحوت منه وفتح فمه وابتلعه، وانتهز فرصة وجود سفينة على الشاطئ، كان ملاحوها يستعدون لرحلة صيد، فركب معهم، وعندما توسطت بهم السفينة البحر، ورأوا الحوت مقبلا عليهم، والسفينة تهتز كالريشة على سطح الماء وجد يونس الفرصة سانحة لتحقيق أمنيته، فقفز من السفينة إلى الماء، وكان الحوت ساعتها فاتحا فمه الرهيب، فأسرع يونس فقذف بنفسه فيه.
قلت لأؤكد أنني أتابع الكلام وأمنع شرا يمكن أن يلحق بي في كل لحظة: هل تقول سعادتك إنه قذف بنفسه داخل الحوت؟
فقال في حماس الأطفال: عليك نور، تماما كما تقول.
والآراء تختلف هنا أيضا فيما فعله في جوف الحوت.
ماذا تظن أنه فعل هناك؟
قلت وأنا أكتم الضحك: وماذا يستطيع أن يفعل يا سيدي؟
ناپیژندل شوی مخ
إلا إذا كانت اللقمة في المعدة تفعل شيئا!
فهز رأسه في أسف، وعاد يقول: أنت مخطئ، لقد ظل حيا كما يعلم الجميع ثلاثة أيام وثلاث ليال، ولكن ماذا فعل في هذه المدة؟ هذا هو موضع الخلاف.
خلص ذراعيه من على صدره وشبكهما خلف ظهره، وأخذ يسير في الغرفة محني الظهر، وهو يقول: البعض يقول: إنه بمجرد أن دخل جوف الحوت، أخذ يفتش عن ركن منعزل يلجأ إليه، وقد تعب بالطبع ساعات طويلة قبل أن يجد هذا الركن البعيد، خصوصا إذا عرفت أنه كان يسير في الظلام ويصدم بأنواع مختلفة من الأسماك وطيور البحر وصخور اللؤلؤ والمرجان.
وفي ركنه البعيد استطاع أخيرا أن يخلو إلى نفسه، ويحاسبها ويراها واضحة كأنه يضعها على كفه، بكى كثيرا ودعا الله أن يريحه ويغفر له، بل ربما توسل إليه أن يعفيه من عمله، ويمكنك أن تتخيل أنه برغم بكائه وتوسلاته كان في غاية السعادة؛ لأنه وجد أخيرا المكان الذي يستريح فيه راحة مطلقة من العالم والبشر والتاريخ، بل إذا شئت أيضا من السماء ومن الله نفسه، ولكن ربما لا يعجبك هذا الرأي، فأقول لك: إن هناك فريقا آخر يرى رأيا مختلفا، ماذا تظن أنت؟
فقلت وأنا أدعو الله أن ينجيني من هذه الليلة، وأتلفت حولي لأبحث عن باب أو شباك يمكن أن أفلت منه إذا اضطرم الأمر: لا أدري يا سيدي، ولكن ربما كان متعبا مثلا فنام ولم يشعر بشيء.
ولم تفد هذه الإشارة ، بل زادته حماسا في بيان وجهة النظر التي لم أعرفها بعد: غلط! هذا خطأ يقع فيه مثلك أغلب الناس، فيونس لم يكن في موقف يسمح له بأن يغمض عينيه لحظة، على الرغم من أنه لو فتحهما فلن يرى شيئا في الظلام، لقد مضى في رأي بعض الشراح يختبر المكان ويفحصه بكل حواسه، وكان اعتماده بالطبع على يديه قبل كل شيء آخر، كان أول همه في البداية أن يعثر على جدران الحوت أو سطحه، حتى يعرف طبيعة المكان الذي سيقيم فيه، ولما يئس من العثور على حدوده صرف نظره عن ذلك، وبدأ يبذل جهوده للتعرف على الوسط الجديد؛ لكي يستطيع أن يألفه ويتكيف معه، بالطبع كانت هناك عقبات كثيرة، وكان لا بد له أن يواجهها ويتغلب عليها، أو على الأقل يعترف بها ويستسلم لها، فالأسماك المتوحشة - وبخاصة سمك القرش - التي كانت تسبح في جوف الحوت، لم تكن تخلو من الخطر عليه، وكان لا بد له أن يبحث عن شيء حاد يتسلح به، وكان من السهل عليه أن يعثر عليه أيضا في هذا العالم المعتم المزدحم بكل شيء (طبيعي أنك لن تسألني عن طعامه وشرابه، فالسؤال هنا سطحي جدا؛ إذ لم تكن المشكلة عنده أن يجد الطعام، بل كانت المشكلة الحقيقية أن يختار بين أصناف الطعام الحي والميت التي لا آخر لها، والتي كان يكفي أن يمد يده ليقبض عليها، وطبيعي أيضا أن السؤال عن المكان الذي كان يبيت فيه سؤال تافه أيضا؛ إذ كيف يتعب في البحث عن فراش وثير يمكنه أن يصنعه من الأعشاب أو من أخشاب السفن الغارقة التي كان يبتلعها الحوت). هذان هما الرأيان المتصلان بحياة يونس في جوف الحوت، أما إذا كنت تريد أن تسأل سؤالا يستحق الاستماع إليه، فيمكنك أن تسأل عن صلته بالعالم الخارجي، وكيف كانت تتم، هنا أعترف لك بأن المسألة تزداد صعوبة، ولكن الراجح على كل حال أنه لكي يعرف الزمن مثلا، أو ليتنفس هواء نقيا منعشا، أو ليطمئن على أن النور ما يزال يسطع في الخارج كلما طلعت الشمس - كان ينتظر حتى يفتح الحوت فمه من حين إلى حين - وقد تمتد المسافة بين كل فتحة وأخرى أياما أو شهورا، بل قد تمتد في رأي البعض سنين طويلة، فيلقي نظرة على العالم الخارجي أو يفكر جديا في الخروج من جوف الحوت، وإن كان تفكيره كما تعلم يظل تفكيرا فحسب. أما عن الحوت نفسه فالآراء مختلفة جدا في شأنه، حتى لتستطيع أن تقول: إن هناك مدارس عديدة تقف لبعضها البعض بالمرصاد، وتتحمس إلى حد قد يصل إلى إراقة الدماء من أجل هذا الرأي أو ذاك، فالبعض يقول: إنه كان حوتا عاديا مثل الحيتان في بحار الدنيا ومحيطاتها، والبعض الآخر يقول: إن الحوت هنا مجرد رمز، وإنه في الحقيقة كان يعيش في أعماق العالم نفسه حين كان يعيش في جوف الحوت، لا بل يذهب البعض إلى حد القول بأن الحوت هو الله نفسه، ابتلع يونس لا لكي ينتقم منه أو يمتحن صبره أو يعذبه؛ بل لأن ذلك كان أمرا طبيعيا لا بد أن يحدث ذات يوم، وأنه لم يبتلعه ويدخله في جوف حوت؛ إلا لكي يؤكد له بصورة ملموسة أنه مثل غيره من الناس، يعيش دائما داخل حوت هائل لا يمكنهم أن يهربوا منه.
تلك يا صديقي هي بعض الآراء في هذه المسألة، وهناك بالطبع آراء أخرى كثيرة مفصلة ومدعمة بالحجج والأسانيد.
لا أريد أن أشرحها لك حتى لا أطيل عليك، فالظاهر أنك تريد أن تنام وأنك، ويظهر أنني كنت بالرغم من مقاومتي الطويلة قد نمت بالفعل، فأحسست بيد تهز ضلوع صدري كأنها تريد أن تخترقه: يونس ... يونس!
فتحت عيني المحمرتين، وفركتهما طويلا قبل أن أميز القاضي الذي كان محنيا علي، كأنه يستمع إلى دقات قلبي ويصيح: يونس! قلت لك: أنت يونس نفسه! يونس في بطن الحوت!
لا أدري إلى الآن ماذا فعلت، كل ما أذكره أنني صرخت صرخة حادة، مفاجئة، مفزوعة كصرخة المقتول وهو يحس بالسكين القاضية تخترق صدره، قبل أن تصل إلى القلب ، وقبل أن أغيب عن الوعي خيل إلي أن الأبواب المجاورة لنا تفتح عنوة، وصوت أقدام مسرعة تصعد السلم، وأناسا كثيرين تزدحم بهم الحجرة، ويتعالى صياحهم وضجيجهم كأن كل واحد يزعق في بوق، بل لا أخفي عليكم أنني - وأنا ما زلت راقدا في المستشفى أعالج من أثر الصدمة - لا أعرف الآن إن كان ذلك كله قد حدث لي في حجرة الفندق، أم أن ذلك الشخص الذي ظننته القاضي محمود كان مجنونا اقتحم غرفتي، أو كان مجرد كابوس ثقيل جثم على صدري لحظة وأنا في عز النوم، إنني على كل حال ما زلت أعالج من الصدمة.
ناپیژندل شوی مخ
وما زلت أفكر في البحث عن وكيل المحامي حسان، وفي إمكانه رفع دعوى الحجر على أبي، الذي نسينا أنا وأمي وإخوتي الثلاثة، وطردني من بيته كما قال إلى الأبد.
واحد من أهل الكهف
كان ينحدر من شارع الموسكي في طريقه إلى ميدان العتبة، وكان اليوم من أيام يوليو القائظة، الحر يكتم الأنفاس، والجو ملبد بالغبار، ورائحة العرق واللهب والزحام تثقل الصدور، وضجيج العربات والناس والباعة تحث الأرجل على الفرار من هذا الجحيم. وكان يسرع إلى الرصيف بحثا عن الظل حين سمع صوتا ينادي: صابر، لم يلتفت في أول الأمر، فلم يكن يدور في وهمه أن يعرف أحد اسمه في مثل هذه المنطقة المزدحمة من المدينة، وحتى لو عرفه أحد فلم يكن يتصور أن ينتبه إلى وجوده، بينما الناس جميعا مشغولون بالفرار إلى بيوتهم، ومسرعون كالوحوش الضالة إلى مكان يحتمون فيه من الغضب الجهنمي، الذي أعلنته السماء على الأرض، ولكن الصوت عاد ينادي في إلحاح: صابر، صابر محمد مرزوق!
ورأى عربة فخمة سوداء تميل إلى جانب الشارع حتى تحاذيه، وذراعا بضة تخرج من نافذتها وتشير إليه. توقف كالمأخوذ وفتح فمه، يريد أن يعتذر عن هذا الخطأ غير المقصود، ولكن دهشته زادت حين رأى وجها نسائيا يفتح له الباب، ويصيح به في نبرة قاطعة: اركب! ولم يتمالك نفسه من إطلاق صيحة جعلت بعض المارة يتوقفون ويلتفتون نحوه في اشمئزاز وحب استطلاع: بريسكا! وجذبته اليد البضة إلى داخل العربة، قبل أن يتمكن من الإفاقة من دهشته، فألقى بجسده على المقعد الأمامي والصوت الحاسم ذو البحة التي يعرفها يقول كأنه يصدر أمرا عسكريا: «أغلق الباب، ليس عندنا وقت، على الله لا نكون أخذنا مخالفة.»
وأسرعت العربة تنهب الأرض التي بدت كأنها لوح من الفحم، تمده الشمس في كل لحظة بمزيد من النار، فيئن ويتلوى ويزفر ويدخن، ولم يكد ينتبه إلى نفسه وهو ما يزال بين مصدق ومكذب لوجوده في داخل العربة، حتى تذكر أنه لم يسلم عليها، على بريسكا القديمة العزيزة، التي تجلس الآن إلى جانبه، ويداها على عجلة القيادة. أراح ظهره المتعب إلى المسند المريح، والتقط نفسا عميقا ثم مد يده في خجل: نسيت أن أصافحك، فأحس بيد تفتش عن يده، ولا تكاد تلمسها حتى تفلت بسرعة إلى عجلة القيادة، وصوت رقيق يقول معاتبا في شبه سخرية: هل نسيت أن الكلام مع السائق ممنوع؟
ابتسم، رفع عينيه يتملى من الوجه الذي لم يكن قد وجد الفرصة حتى الآن ليشبع منه، كان هو نفس الوجه الأبيض المستدير، الذي طالما تفرس في تقاطيعه السمحة المنسقة، وأنفه الدقيق الطويل كأنف نفرتيتي، وشفتيه الضيقتين المزمومتين اللتين طالما بذل من المحاولات؛ ليستخرج منهما كنوزهما الشحيحة، والعينين الواسعتين الشديدتي السواد المندهشتين دائما لسبب وبغير سبب، يظلهما حاجبان ثقيلان طالما قال عنهما إنهما حارسان عنيدان، كل واحد منهما عبد أسود ممدد فوقهما يذود المتطفلين العطاش عن البئر العميقة. وابتسم لذكرياته التي بدت له طائشة وطفلية وسخيفة، واختلس نظرة أخرى إلى الوجه المحبوب؛ ليرى إن كان قد تغير فيه شيء، كان الشعر الفاحم قد صفف بطريقة لم يسترح إليها جعلته يحن إلى الخصلة الطويلة، التي كانت تتدلى منه ذات يوم، وتهتز مع هزة الرأس في حرية وبراءة وطيش، وكانت هناك صرامة لم يألفها تكاد تحفر تجعيدة على الجبهة العريضة المتكبرة، وتكسو الوجه كله بمسحة من الجد والتسرع والعزيمة التي لم يألفها فيها. وضحك فالتفتت إليه التفاتة سريعة ، لا عن اهتمام حقيقي، بل ربما لتثبت له أنها لم تنس وجوده إلى جوارها، أو لتخفف قليلا من جو المقابلة الذي خلا حتى الآن من المجاملة. وضحك مرة أخرى وهو يقول لنفسه: وماذا يهمني؟ أليست هي بريسكا العزيزة نفسها؟ قبل أن يتجه نحوها بصوت يحاول ألا ينفض عنه ضباب الحلم: من كان يتصور أننا سنتلاقى؟
قالت بغير أن تبتسم أو تلتفت إليه: وفي هذا الحر!
فاستطرد كأنه يحاول أن ينتزع نفسه من الضباب فلا يستطيع: وبعد اثني عشر عاما.
فقالت في فتور لم يلاحظه: ألم تخطئ في العدد؟!
فأجاب مؤكدا دون أن يفطن إلى الاشمئزاز الذي بدا في حركة شفتيها الممتعضتين: بالعكس، أستطيع أن أعدها باليوم. بل بالساعة إذا أردت. إنها اثنا عشر عاما وشهران و... قالت مقاطعة وعيناها لا تزالان تتابعان الطريق الذي أصبح يسير الآن لدهشته محاذيا للنيل: تقصد أننا عجزنا إلى هذا الحد؟ فأجاب في خجل من اكتشف غلطته بعد فوات الأوان، وفي صوت متحمس يكاد يسترضيها: بالعكس، أنت صغرت عن سنك (أراد أن يطري جمالها الرائع، ولكنه خاف أن يتحول إلى خطيب).
ناپیژندل شوی مخ
أما أنا فقد زدت عن سني الذي تعرفينه.
سالته كأنها تسامحه: أعرفه؟
فود لو يستطيع أن يهزها من كتفها ليذكرها، وهو يقول في ضحكة أزعجه رنينها الأجوف: هل نسيت أن عمري ثلاثمائة عام؟! والآن زدت عليها اثني عشر!
ضحكت ضحكة خيل إليه أنها صادرة من أعماق قلبها، وأسعده أنه استطاع أن ينتزع منها هذه الضحكة الصافية بعد هذه السنين الطويلة، وهو على حاله المتواضع الذي كاد في غمرة حماسه أن ينساه، وساعده على أن يعود إلى ذكرياته انهماكهما في قيادة العربة، كان ذلك حين تعرف عليها لأول مرة في المدرسة الثانوية في طنطا، كان يجلس في الفناء كعادته بعد الظهيرة يذاكر دوره في مسرحية «أهل الكهف»، ويجرب الإلقاء بصوته الجهوري حين سمع صوت الأستاذ حامد ينادي عليه في لهفة وفرح: ميشلينيا، يا ولد يا ميشلينيا!
وأسرع يجري نحو مصدر الصوت، وهو يكاد يكذب عينيه . كان الأستاذ حامد يقف هناك بقامته النحيلة، ونظارته السميكة تعكس أشعة الشمس الغاربة، وشعره المنفوش يكاد يغطي أذنيه، وذراعه الطويلة الضامرة العروق تشير إليه، وكانت هي تقف معه، صغيرة وعبيطة في سن التلاميذ، تلبس بلوزة حريرية بيضاء وجونلة رمادية مخططة، وإلى جانبها رجل ضخم في ملابس عسكرية أدرك لأول نظرة أنه أبوها، قدمه الأستاذ حامد مدرس التاريخ والمشرف على فريق التمثيل إليهما، وهو يربت على رأسه ويقول: حضرته الأستاذ ميشلينيا! ثم وهو يسلم عليهما في خجل وبغير أن يرفع عينيه إلى وجهها: خلاص العقدة انحلت يا سيدي، ووجدنا بريسكا، سعادة البيك الحكمدار من مشجعي فن التمثيل، كان يعارض في أول الأمر، ولكنني استطعت أن أقنعه، إن شاء الله تكون حفلة ناجحة ونكسب الكأس، لكن المهم كل واحد يحفظ دوره عن ظهر قلب، اللجلجة والتهتهة ممنوعة أمامي على المسرح! لم يستطع يومها أن يراها عن قرب، فقد تصبب عرقا وكاد يغرق في هدومه، واستأذن منصرفا وصوت الحكمدار يدوي في أذنيه: شدوا حيلكم، بس إياكم أن تأخذوا الحكاية جد!
وتتابعت المقابلات من ذلك اليوم، في كل يوم بعد الظهر يبدءون البروفة، ولا ينتهون منها قبل غروب الشمس.
هل يستطيع أن يذكر في حياته أسعد من تلك الأيام؟ ألم يكن يجري إلى المدرسة كالعصفور، بغير غذاء في معظم الأحيان، وبسندوتش تدسه أمه في جيبه على الرغم منه حتى لا يموت من الجوع؛ ليكون أول من يرى سامية وهي تنزل من العربة البوكس، التي كانت توصلها إلى باب المدرسة؟ ألم يكن ينتظرها على الباب ويذهب إلى لقائها وكأنه رآها صدفة، ويتحاشى عيني الشاويش مجاهد الغاضبتين وهو يصافحها، ويصحبها إلى الردهة الواسعة التي أقاما فيها المسرح؟ ألم يكثر من أكل سكر البنات لكي يجلو صوته فيرن على المسرح كأنه يوسف وهبي أو جورج أبيض، ليقول في صوت يتعمد أن يكون مؤثرا ليصل إلى قلبها برغم أنف الشاويش مجاهد، الذي يجلس في الصالة على كرسي يحضره له، ويكشر في وجهه كلما سمعه بمد رقبته، ويلوح بذراعيه ويجري نحو سامية في لهفة لا تخفى على الأصم: ها أنت أخيرا يا بريسكا! وتقف هي - كما يقتضي الدور وتعليمات الأستاذ حامد الصارمة - مذعورة في بهو الأعمدة، تتلفت وراءها خائفة صامتة كالتمثال وهو يسألها هي دون غيرها: عجبا! أهذا استقبالك لي؟! أما كنت ولا ريب تتوقعين رؤيتي الساعة؟ بل ربما كنت لا تحبينها.
ويزداد ذهولها وشحوب وجهها الحلو الصغير، كما تزداد تكشيرتها ودهشتها من جرأته، وهو ينطلق كالراديو: لا بأس، بالرغم من هذا لا أكتمك أن مرآك في هذه اللحظة قد صيرني سعيدا، سعيدا يا بريسكا إلى أقصى حد.
وهل ينسى أنها كانت تتلجلج وتنسى دورها الطويل خلال الفصلين الطويلين، وأنه كان يحفظه بدلا منها ويلقنه لها كلمة كلمة؛ لكي يحميها من تشنجات الأستاذ حامد العصبية، ومن شد شعره وصراخه الذي لا ينقطع: يا ناس! احفظوا دوركم! حرام عليكم! الفن تعب، تضحية، استشهاد، هل تريدون أن يأكل الناس وجهي في المديرية كلها؟ هل ينسى أن عبد العزيز سيد أحمد ومحمود الحلواني كانا ينافسانه على دوره ولا يكتمان غيظهما منه؟ ألم يقل له عبد العزيز يوما بعد انتهاء البروفة: ولد يا صابر! والنبي تأخذ أنت يمليخا، يا شيخ أنا زهقت منه ومن بؤسه، رجل غلبان لا له في الحب ولا في الستات، يعني مهما يكن، راع لا طلع ولا نزل، بس شاطر يصرخ ويقطع قلبي: إلى الكهف! إلى الكهف! إنا أشقياء، أشقياء، هذا العالم ليس عالمنا. خذه أنت يا صابر، ومعه قطمير فوق البيعة! ألم يحسده محمود الحلواني أيضا وإن لم يصارحه بكلمة واحدة؟!
لقد كان يتابعهما بعينيه الصامتتين في كآبة لا تخفى عليه، وإن حاول أن يداريها بصمته وعدم اكتراثه، كان يقول له وهو يركز عينيه على وجهه الصغير وقدميها النحيلتين: حلال عليك يا عم بريسكا المفعوصة، الحمد لله أنا «مرنوش»، فإذا نظر إليه نظرته التي تقول: اطلع منهم! قال له في استخفاف: ومتزوج وعندي عيال، الواحد منهم عمره ثلاثمائة سنة، المهم ربك يختمها على خير!
ناپیژندل شوی مخ
كانوا جميعا يغارون منه ويتمنون أن يقفوا وقفته أمامها، وأن يكلموها بكلام لم يقولوه هم، ولكنه يصدر عن قلوبهم الوحيدة الخاوية، وأن يصرخ الواحد منهم فيها أمام المدرسة وأمام المتفرجين وأبيها الحكمدار والحكومة كلها: بريسكا! لا تتركيني! لا تتركيني وإلا سقطت في الجحيم! صحيح أنهم لم يروه ينفرد معها، فالشاويش مجاهد رابض في الصالة ووجهه أسود من الليل، وعيناه تطلقان شرارا، ولم يشكوا لحظة في أنه يمكن أن يتجرأ ويلمس شعرة منها، كما أنهم كانوا يلاحظون كيف تعامله كما تعاملهم جميعا في أدب وبرود وتعال، وكأنها فعلا الأميرة بنت الملك دقيانوس، وهم مجرد مشعوذين مساكين معفرين بتراب الزمن والكهف والنسيان، ولكنها الغيرة التي كانت تأكل قلوبهم وتسعد قلبه، وتجعله يبدو أمام نفسه منتصرا من غير أن يدخل في معركة!
ما كان أجمل هذه الأيام! إنه لا ينسى ذلك اليوم الذي تأخرت فيه عربة البوكس عن الظهور بعد البروفة، انصرف زملاؤه وتركوه يقف إلى جوارها عند سور المدرسة، ربما لم يخالجهم الشك في أن البوكس لا يلبث أن يحضر، وفيه مجاهد بوجهه الذي يقطع الخميرة ويجلب النحس، ثم إن عم حسان بواب المدرسة العجوز كان يقف معهما ويهز رأسا أسفا على شبان هذه الأيام، وعلى التمثيل والكلام الفارغ الذي يضيعون وقتهم فيه، وعندما طال انتظارهما أحضر لهما كرسيين، ومضى الوقت وهما يترقبان العربة في كل لحظة، كان يتكلم طول الوقت معها أو مع عم حسان (وإن كان بالطبع يقصدها هي) ليضيع الوقت، عن صعوبة التمثيل، عن المجد الذي ينتظر الممثل في حياته، والبؤس الذي ينتظره في موته، عن عائلاتهم التي تعيش كالمواشي ولا تفهم شيئا في الفن، ومع ذلك تجاهر باحتقاره، وعندما هتفت زائغة العينين مصفرة الوجه: يا خبر! الليل دخل! أخذته الشهامة وعرض عليها أن يوصلها، وعندما أبدت معارضتها في أول الأمر، وتلفتت إلى عم حسان كأنها تستنجد به - وهو ولا هو هنا - قال لها في صوت تعلم من كثرة الإلقاء على المسرح كيف يحافظ على ثباته: المسافة قريبة، ثم إنني لن آكلك! كانت السماء صافية في ذلك المساء كما لم يرها من قبل، فلم يكن يهتم في يوم من الأيام بأن يلاحظ إن كانت صافية أو غير صافية، وكان القمر بدرا كاملا، يمشي معهما كأنه طاقة فتحت عليه من ليلة القدر، وديعا، طيبا، مبتسما كأمير صغير يسبح في قارب فضي ويراقب رعيته من النجوم التي تحرسه من حوله.
قال لها وصوته يرتجف: ماذا تنوين أن تفعلي في المستقبل يا بريسكا؟ قالت وهي تراعي المسافة التي تفصل بينهما: أبي يريد أن أدخل الجامعة، فقال وكأنه يخاطبها من فوق خشبة المسرح: هذه إرادة أبيك، وأنت؟ فقالت في تهور وقد شجعتها نبرته القوية: سأمثل.
فسأل في توسل: إذا قمت مرة بدور بريسكا، فهل ستتذكرين ميشلينيا؟ قالت في غباء خيب أمله: لم لا؟ وإن كنت لا أفكر في التمثيل على المسرح.
قال مفزوعا: لن تمثلي على المسرح، أين إذن؟
فقالت ضاحكة من سذاجته في استهتار روعه: في السينما طبعا!
قطب وجهه، وسار صامتا إلى جانبها لا يجد كلمة يقولها، كان يريد أن يستطرد في الحديث عن روعة التمثيل وعظمته، عن مجده وتعاسته، عن عذابه ولذته، فيجد طريقا للحديث عما يحسه نحوها، ولم لا يفعل ويزيح الحجر الثقيل عن قلبه، ويقول لها: إنه أحبها من أول يوم وقف فيه أمامها، وقال لها في صوت جمع فيه كل لهفته وشوقه، وسخطه وتحديه لزملائه وللأستاذ حامد ولأبيها وللمدينة بأسرها: بريسكا العزيزة! إني أترقبك منذ وقت طويل، ولكنه لم يفعل، وشعر بيأس يخنقه، أهذا هو آخر التعب والتفكير والحفظ والتمثيل؟ أهذه هي اللحظة التي كان ينتظرها ويعمل لها، ويرتب الكلمات المحفوظة لاستقبالها؟ وتلاطمت الأفكار في رأسه كالأمواج العكرة الغاضبة، وتمخض الصراع في نفسه أخيرا عن حركة من يده، خيل إليه أنها ستغير تاريخه إلى الأبد، مد يده فلمس يدها، لم تبد معارضة، رفعها إلى فمه وقبلها فسحبتها كأنما لسعتها شظية، وقالت في استهتار أغاظه حتى تمنى لو يستطيع أن يصفعها: ألا تخشى أن يضعك أبي في التخشيبة؟! سحب يده إلى جانبه ، ومضى صامتا مطرق الرأس، ولم يطل صمته، فقد رأى نور كشاف يلمع من بعيد، وما هي إلا لحظات حتى كان البوكس يقف أمامهما وعم مجاهد - كما كانت سامية تسميه - يخرج منها كعزرائيل، ويفتح لها الباب فتدخل وهو يقول لها: لا مؤاخذة يا ست هانم، البيه كان مع النيابة في جناية قتل، وتركاه واقفا في مكانه دون أن يقول أحدهما كلمة أو يلتفت إلى وجوده. وقفت العربة فأيقظته من حلمه.
وجاء صوت سامية الضاحك: وصلنا يا يمليخا! تفضل معي.
وأغضبه أن تناديه بيمليخا مع أنه لم يكن يكره شيئا كما كان يكره هذا الدور، الذي كان يقوم به عبد العزيز، وأين يأس يمليخا وانهزامه ونحول صوته وجسمه من حيويته وحماسه، بل تهوره وعذابه؟ قال وهو يحاول أن يفتح الباب فتسارع بمساعدته: تريدين ميشلينيا، هل نسيت أيضا أنني ميشلينيا؟ واندفعت تصعد السلم وهي تشير إليه ضاحكة: وهل عندي وقت لأتذكر كل شيء، أسرع، أسرع، أمامي نصف ساعة فقط، أغير فيها هدومي وأذهب للإستديو.
انطلقت تجري على السلم الرخامي الجميل وهو في إثرها، أسخطته إجابتها التي كان يتمنى أن تكون أكثر احتشاما، كما أغضبه أنها لم تعطه الفرصة ليتفرج على العمارة الفخمة من الخارج، ود لو يسألها عن الحي الذي تسكن فيه، ولكنه أشفق على نفسه من سخريتها، وفتحت باب الشقة امرأة عجوز، صغيرة الوجه، وتعجب لضيق عينها وتكشيرة حاجبها، التي بدا له أنها لا تتناسب مع الطرحة البيضاء الوقور، التي كانت تضعها على رأسها، قالت سامية دون أن تحييها: اعملي شاي بسرعة يا أم محمد، عندي صداع، لا تنسي الأسبرين على المكتب، ثم التفتت بسرعة لصابر الذي وقف في الصالة مذهولا، يتأمل قطع الأثاث الفخمة، ويتعجب من تكويناتها الحديثة الجريئة، ويحدق في اللوحات والمصابيح التي تطلع كأوراق الشجر المضيئة من كل الجدران، وقالت دون أن يبدو عليها الاهتمام أو الاستغراب لذهوله: واعملي للبيه شاي أيضا، أو تحب الكوكا كولا يا يمليخا؟! انتزع نفسه من تأملاته وقال غاضبا: قلت لك ميشلينيا! ثم في خجل من صياحه في بيت غريب عليه، وهو ينظر في تودد إلى العجوز: أشرب الشاي مع الهانم. قالت أم محمد وهي تنظر إليه نظرة ودودة، دون أن يبدو عليها أنها اهتمت بالإصغاء إليه: «حسني بك منتظرك من ساعة، قاعد في الصالون.» جرت سامية كالفراشة وفتحت بابا وهي تهتف: صحيح؟ هاللوا! تعال يا حسني، ليس عندي وقت للسلام والكلام، عارفة كل شيء (وهنا ظهر على باب الصالون رجل يقترب من الأربعين، أذهل صابرا بياض جلده الشديد وصغر وجهه، ودقة شاربه المرسوم بعناية فوق شفة غليظة داكنة، لا تتناسب مع رشاقة الوجه واتساع العينين اتساعا شديدا).
ناپیژندل شوی مخ
نسيت أعرفكم ببعض، حضرته الأستاذ حسني، مخرج فيلمي الجديد مصرع العشاق، أليس كذلك يا حسونة؟ أو نسميه اسما آخر لا فيه موت ولا دم؟ مصرع الأحباب مثلا؟ اسم شيك، أو أقول لك: نسأل الأستاذ ميشلينيا، حضرته الأستاذ صابر، صابر محمد مرزوق، زميلي في التمثيل، أيام زمان (ومدت في الميم إلى حد أخاف صابر، حتى خيل إليه أنها شدته من رأسه، فخشي أن يصطدم بالسقف)، أليس كذلك يا ميشو؟ (وهنا خيل لصابر أنها تنادي على كلب) عن إذنكم، أغير هدومي، لحظة واحدة، اقعدوا مع بعض.
وجلس صابر على كرسي أشار إليه الأستاذ حسني، لم يرفع وجهه إليه فقد كان لا يزال مبهورا بالجو البلوري الذي وجد نفسه فيه فجأة كأنه في قصر مسحور، مأخوذا بالثراء والفخامة في كل شيء، وغارقا إلى أذنيه في كلمات سامية، التي نزلت كالمطر فوق رأسه فلم يدر هل هي تجامله أم تسخر منه، وقبل أن يفيق جاءه صوتها، صوت بريسكا المحبوبة الذي أصبح خليعا وجريئا وغير مبال: مثل والنبي يا ميشو، قل له يا حسونة.
حتة صغيرة من أهل الكهف، كان اسمها أهل الكهف، بتاعة الحكيم، أليس كذلك؟ علشان خاطري، أنا سامعة.
وقبل أن يفيق مرة أخرى جاءه صوت الأستاذ حسني الهادئ الناعم، الذي خيل إليه أنه يشم له رائحة العطر: «لو تكرمت يا أستاذ، ولو سطرين ثلاثة، تأكد أنني أقدر المواهب ، وربما يكون لك نصيب تشتغل معنا، أنا أخرجت لسامية ثلاثة أفلام، وأمامنا الآن فيلم».
لم يدر صابر بماذا يرد، تكوم على نفسه كأنه يدافع عنها ضد هجوم مدبر خسيس، ولما عاد الأستاذ حسني يلح عليه في صوت حاد، لم يخطئ فيه نغمة صادقة تشجعه، ألقى بظهره على المسند الناعم، وقال في هدوء: معذرة، بعد أن يحضر الشاي.
وصرخت سامية من وراء باب غرفة النوم الموارب تلعن أم محمد وتستعجلها وتهددها في نفس واحد، وجاءت صينية زجاجية تزينها خطوط ذهبية وفوقها أكواب الشاي. مد صابر يده فتناول كوبه وأحس بنشوة الدفء بعد الجرعة الأولى، نشوة يكاد يغرق فيها تعب اليوم كله، وأغمض عينيه، وتمنى لو يستطيع أن يتمدد ويستريح وينسى كل شيء، وقبل أن يغفو جاءه صوت سامية من وراء الباب: نسيت أسألك يا ميشو، أين كنت الآن؟ قال وهو يغالب النعاس: كنت أتسوق من الموسكي، سألت من جديد: هدوم مثلا؟ قال في صوت لا يخفي ضيقه: لا، بقالة للدكان، سمن وزيت وصابون وتوابل من كل الأصناف، أصلي أنا الآن أعمل مكان أبي. سألت للمجاملة: يعني تاجر؟ أجاب كأنه يؤكد حزنه على المصير الذي انتهى إليه: نعم، على قد الحال، والدي مات وأنا في التوجيهية، حضرتك كنت انتقلت من البلد مع البيك الحكمدار، ترك لي ثلاثة بنات وولدين، كان لا بد من وجودي معهم لأباشر الأرض وأقعد في الدكان، سألت من جديد في استهتار تعجب كيف تقدر عليه: وعندك أولاد يا ميشو؟ فأجاب في حسرة ولكن في استسلام: خمسة، بيبوسوا إيديك.
فاجأته صيحة من الأستاذ حسني: اسكت أنت! الرجل يريد أن يمثل، ياللا يا أستاذ، قل لنا قطعة على الماشي.
قال صابر معتذرا وقد أعجبه اهتمام الأستاذ حسني به: ولكنني لا أذكر شيئا. ألح الأستاذ حسني: أي شيء. قال صابر في إخلاص كاد أن ينفجر له حسني ضاحكا، لولا أنه تحكم في نفسه: الحقيقة أنني نسيت أغلب دوري مع الست هانم، كانت دنيا وراحت. سأل حسني في عطف وكأنه يتمنى لو يستطيع أن يبكي: كان دور ميشلينيا نفسه؟ فأحس صابر أن الإلحاح عليه زاد عن حده، وأنه من الجحود وقلة الذوق أن يقابله بالصمت والجمود، فتحامل على نفسه وشد عضلاته ووقف في وسط الصالة، أطاح رأسه بهزة واحدة إلى الخلف وكشر ملامحه، عقد جبينه وزم شفتيه بكل قوته ومد ذراعيه إلى الأمام كالمستجدي، وقال: «نهاية الفصل الثالث، بهو الأعمدة، الوقت ليل والمكان مضيء»، ثم انفجر في صوت فوجئ به حسني، وذعرت أم محمد فأسرعت تجري من المطبخ، ووقفت خلفه تنظر إليه في ذهول: نعم، نعم، الوداع، يا، يا، لست أجسر! الآن أرى مصيبتي وأحس بعظم ما نزل بي، لا مرنوش ولا يمليخا رزآ بمثل هذا، إن بيني وبينك خطوة، بيني وبينك شبه ليلة، فإذا الخطوة بحار لا نهاية لها، وإذا الليلة أجيال، أجيال، وأمد يدي إليك وأنا أراك حية جميلة أمامي، فيحول بيننا كائن هائل جبار: هو التاريخ!
ويبدو أن لم يكن قد انتهى حين أطلت سامية فجأة من الباب، بقميص نوم وردي شفاف، ومدت ذراعيها ضاحكة ضحكة رنت في أذنه، كوقع وعاء نحاسي يرتطم فجأة بالبلاط: الوداع يا ميشلينيا!
لا يدري صابر حتى الآن ماذا حدث له في تلك اللحظة: تراخت عضلاته، تفكك جسده، انهار على الأريكة كأنه تمثال من القش، لم يستطع أن يثور، لم يستطع أن يبكي، لم يفكر أيضا لا في الثورة ولا في البكاء، بل ربما لم يفكر في أي شيء بالمرة.
ناپیژندل شوی مخ
وأسرع حسني إلى غرفة النوم متأففا، وهو يؤنب سامية بصوت يحاول أن يكون مرتفعا، ودق جرس الباب في هذه اللحظة فدخل رجل ضخم، شعره مجعد وطويل وفاحم، وعيناه شديدتا السواد مخيفتان، إلى حد أن صابر لم يستطع أن يثبت عينيه فيهما أكثر من لحظة واحدة، كان صوته أجش، وبدا لصابر أنه ثور غبي وهو يقول: هل هذه مواعيد يا عالم، من الصبح أنتظركم، والناس تسأل عنكم، والبلاتوه جاهز، والمنتج الذي كان موعده معك يا سي حسني على البار، وكاتب الاسكريبت يا ست سامية، منتظر هناك على نار.
إن لم تنزلوا حالا ضاعت علينا الفرصة، أعوذ بالله من هذا الحر، الدنيا نار، بسرعة يا ست سامية، اعملي لك قلب.
كان الرجل الضخم قد وقف أمام باب غرفة النوم فسده بهيكله الجبلي وصوته الأجش وكل شيء هائل فيه، لم يلاحظ وجود صابر، بل وقف في مكانه كأنه يكتم أنفاسه، ورن جرس التليفون، وسمع صابر صوت سامية تتكلم في نفس واحد، ووجد صابر نفسه ينهض من على الكرسي، وقد خيل إليه أنه استراح قليلا، ودون أن يحس به أحد مشى على أطراف أصابعه إلى الباب الخارجي ففتحه في هدوء، حتى العجوز الطيبة أم محمد، التي كانت تقف لحظتها في المطبخ وتعطي له ظهرها، بحيث يرى طرحتها البيضاء فوق رأسها بوضوح، لم تحس به وهو يغلق الباب وراءه.
قيصر
- أفسحوا الطريق لقيصر.
من هنا سيعبر موكبه.
عما قليل ستهل عليكم طلعته. - قيصر، يا ظل الله في الأرض.
أصوات الرعية تهمهم من بعيد.
والحاشية تحف بالعربة الإمبراطورية.
الموكب لا ريب قادم في الطريق، أنا إذن سأبصره بعيني هاتين، بل ربما استطعت أن أندس بين صفوف الجند العظام، وأن أهتف مع الهاتفين، وأمد يدي فألمس - أقول ألمس! - العربة الإمبراطورية المزينة بالورود، المتوجة بالذهب والفضة، ومن يدري؟ فلعلي أستطيع أن ألفته إلى وجودي، ولعل الشجاعة أن تواتيني فأمد يدي بشكواي، سيطرق قيصر العظيم برأسه، وربما ابتسم، وربما مال على أذني ليقول لي: «أنا لم أنسك قط، أنا لن أنساك في يوم من الأيام.» ولكن هل أستطيع حقا أن أنفذ من الستار العظيم الذي يطوقه بالرجال والسلاح؟ هل أستطيع حقا أن أعبر السياج المتين الذي تصنعه الهيبة والجلال حول مجده الإمبراطوري؟!
ناپیژندل شوی مخ
وا فرحتي بين العالمين!
من كان يصدق أنني سأرى قيصر؟
هل يمكن أن يتحقق الحلم في لحظة واحدة؟
يا إلهي! ماذا يحدث لو أن قلبي خانته الشجاعة؟ سترهبه الأبواق التي تزعق من حولي، ستخيفه مواكب الجنود التي تزحم المكان، سيتلفت حوله فيجد نفسه غريبا، مفقودا، عبر به الموكب، وانفضت الجموع، وخرس الضجيج.
جاري يصيح وحنجرته تكاد تنشق: الموكب في الطريق. وامرأة عجوز تداعب حفيدها وتشير بيدها النحيلة قائلة: عما قليل يمر من أمامنا قيصر. وطفلة تفتح عينيها وتهتف بصوتها اللطيف: أليست هذه هي العربة يا أبي؟
لكنني لا أرى على مدى البصر شيئا.
ماذا يحدث لو لم يأت قيصر؟ اليأس لن يتسرب إلى نفسي، سوف أرى القيصر على أية حال، وسوف أهتف بملء صوتي: أنا رجل من شعبك الأمين يا مولاي، وسوف يضحك قيصر حتى يميل ظهره إلى الوراء، أما أنا فسوف أجري وراء الركب لألحق بعربة قيصر، وسوف يبعدني الحرس عن موكبه برفق، ومع ذلك لن أبعد حتى أعرفه بشكواي، وأبسط له حالي، سيقول لي في آخر الأمر: اذهب إلى دار الطعام والكساء.
قل لهم لقد بعثني قيصر إليكم.
دار الطعام والكساء قريبة من هذا الشارع.
سأتوجه إليها بعد قليل، بعد أن أكون قد رأيت الموكب وحادثت قيصر، سأتقدم في غير وجل ولا خوف؛ لأقول للأمين على خزائن الطعام: هذا أنا يا سيدي، لا لن أقول له يا سيدي - ألسنا جميعا سواء! - أتعرف من أين أنا آت إليك؟ سيفتح الأمين فمه من الدهشة، ستتسع عيناه اتساعا كبيرا عندما أقول في صوت لا تخونه الثقة: لقد بعثني قيصر إليك! قال لي: اذهب يا أحب رعيتي إلي، اذهب إلى الأمين ليفتح لك خزائني، فكل منها ما تشاء، أشبع بطنك التي هدها الجوع، اكس جسدك الذي أكلته الرياح وهصرته أمطار الشتاء، سوف لا يصدقني الأمين في أول الأمر، وسوف يزمجر غاضبا ويأمر أتباعه أن اطردوا هذا الرجل من دار الطعام، لكنه لن يعرف في سطوة كبريائه أنني قد انتصرت عليه، نعم! لقد بلغته شكواي، وماذا بوسعي أن أفعل أكثر من هذا؟
ناپیژندل شوی مخ
أنا لن أيأس كما قلت، ففي يدي ورقة دفعت عليها رسم الضريبة، وسطرت عليها شكواي ونمقتها بالخط الجميل، وحشوتها بعبارات المدح والثناء على قيصر العظيم، كيف تصل ورقتي إلى يد قيصر؟ قد تأخذني الحيرة أو تذهب بلبي، فغير بعيد من هذا الحي سأجد قصر العدالة، حقا إنني لم أدخل أبوابه من قبل، غير أنني سأصعد سلالم المرمر، وأمضي إلى الردهة الكبرى، سوف يسألني الحجاب: ماذا تريد أيها الرجل؟ وسوف أرد عليهم في عزم ثابت: أريد أن ألتقي بقاضي القضاة.
إنه مشغول بإقرار العدل في البلاد.
ولكني أريد أن أسمعه شكواي.
وهل نستطيع أن نعرف الرجل الذي تشكو منه؟
حسن أيها السادة، إنه قيصر!
سيعجب الحجاب من أمري، وسيمد أحدهم يديه ليطردني بعيدا عن قصر العدالة، ولكن سأقنعه أن قيصر هو الذي بعثني، وسوف أفلت من أيديهم لأجري في ردهات القصر باحثا عن قاعة المحاكمات، وسوف أظل في القصر، حتى أجدها، هناك أصرخ بملء صوتي: يا قاضي القضاة! يا قاضي القضاة! ألا تسمع شكواي! وسيرفع القاضي وجهه إلى الجريء الذي دنست قدماه قدس أقداس العدالة وسيقول لي: ممن تشكو أيها الرجل؟ وسوف أقول بلا أدنى خوف: أنا أشكو قيصر أيها القاضي الجليل!
ماذا عسى أن يفعل القاضي؟ إما أن يعطف على شكواي، ويؤجر المحامين للدفاع عنها، فأنا رجل فقير لا أملك حق الدفاع عن نفسي، وإما أن يثور ساخطا: ضعوه بين المتهمين.
أما أنا فلن أغضب أو أثور، يكفيني أنني أسمعت القاضي شكواي، وسواء علي أن أقف بين المظلومين أو بين المذنبين، ألم أوفق إلى دخول قصر العدالة في آخر الأمر؟!
أنا أنتظر موكب قيصر، سوف ينحني علي، ويقرب وجهه من أذني، ويقول لي: ستجدني في القصر غدا.
ها هو القصر بلغته بعد أن تمزقت قدماي وغطى الغبار بشرتي، وها أنا ذا أتقدم من الحراس الأشداء، إنهم يظللون جدران القصر بهيبتهم، ويتسامقون عن جانبيه كالأشجار العتيقة المتكبرة، سوف لا أهاب شيئا، سوف أقول لهم: لقد بعثني الأمير إلى هذا القصر، سيضحك الحراس بلا مراء، وسيتخذون مني أضحوكة لهم، وربما هجم أحدهم فقبض علي بين ذراعيه كأنني دمية عاجزة، لكن هذا كله لن يخيفني، لن يضيرني أن أنتظر يوما أو يومين، أو أن أقف عند البوابة المرمرية شهرا أو شهرين، فسوف أبعد عن القصر وفي نفسي أحسن الذكريات، ألست قد عرفت الطريق إليه؟ ألست قد ألفت الحراس، وضاحكتهم، وحفظت ملامح وجوههم؟ ألم أفلح - إلى هذا كله - في أن أعطفهم على حالي، وأن أسرد عليهم حكايتي وتاريخي؟ ألست قد لمست يد الحارس؟ وأليست يد هذا الحارس ستلمس يد رئيسه الذي يفوقه قوة وبأسا، وهذا الأخير من ذا يشك في أنه سيسلم على كبير حراس قيصر؟ أما كبير الحراس فإنه يسلم على قيصر نفسه في كل يوم مرات، أفلا أكون بهذا قد لمست يد قيصر؟!
ناپیژندل شوی مخ
ربما وجدتهم في المرة التالية يقولون لي: تفضل، لقد أذن لك قيصر، وهو ينتظرك في شوق وقلق في الردهة الكبرى!
سأمضي في طريقي غير هياب. - هل تسمح أيها الحارس المبجل؟! - أراك رجلا من الشعب! - إني لكذلك يا سيدي. - إذن فقد أخطأت الطريق. - ولكن قيصر هو الذي بعث بنفسه إلي يا سيدي.
ويفطن هذا الحارس الغبي إلى خطئه حين يهرع إلى حارس آخر أعلى منه رتبة ليقول لي: تفضل مكرما، نحن ننتظرك من سنين وسنين، ألست أنت (وهنا ينطق باسمي)؟ - نعم أنا هو يا سيدي. - ادخل، ادخل، إن قيصر العظيم مشتاق إلى رؤياك!
وأصعد سلالم الرخام الناصعة، حريصا حتى لا تنزلق قدمي، وأمرر يدي لأنعمها بملمس الأعمدة الملساء، وأسير في معبر طويل لا تكاد نهايته أن ترى، وحين أبلغ قاعة فسيحة عليها حراس متدثرون بسترة زرقاء، تلمع فوق أكتافهم نجوم وأقمار ذهبية براقة أسألهم: أنبئوا قيصر أن رجلا من شعبه الأمين قد جاء.
ولكن هذا مكان حاجب الوزير، فأرد عليهم ساخطا: من قال لكم إنني أريد مقابلة الوزير، فيجيبني أحدهم وهو يحاول أن يرضيني: أردنا أن نقول إنه وزير قيصر.
وأنصرف عنهم لأواصل سيري، عما قريب سأجد قيصر وسأمثل بين يديه، كيف يصدق أخوتي وصحابي أنني مثلت بين يدي قيصر؟ من كان يظن أن هذا سيحدث لرجل مثلي، وأدور من قاعة إلى قاعة، مبهورا بالسحر الذي يتخايل أمام ناظري، في الثريات، والطنافس، والرسوم، والمرايا، والرياش، والتحف الغالية، لكني سأمضي قدما حتى أجد قيصر، وسوف تشغلني عما أرى أفكاري التي تضطرب في خاطري، وخطابي المنمق الطويل الذي سألقيه بين يديه، ويقفز أمامي رجل طويل غرق جسده في ثوب رمادي، يبدو وكأنه قد خرج من بين الجدران ليقول لي: أي شيطان جاء بك إلى هنا؟ فأقول له وشجاعتي لا تفارقني: لقد بعث قيصر إلي.
فيقول وهو يرفع حاجبيه من الدهشة: ولكن هذا الجناح مخصص لكبير وزراء قيصر.
فأسأله في صوت رزين: وأين إذن أجد قيصر؟
اذهب إلى القاعة الكبرى، وهناك فلتسأل كبير التشريفات.
وأقلب الورقة التي كتبت فيها شكواي بين يدي، وحين أفرغ من قراءتها - للمرة الواحدة بعد المائة - يعاودني الأمل في لقاء قيصر، لكني أصحو على أصوات تناديني من خلفي: أيها الرجل، أيها الرجل!
ناپیژندل شوی مخ
فألتفت لأجد جماعة من الحراس يتقدمون نحوي، وأجفل لرؤيتهم، وتطرف عيناي إذ تقع على ملابسهم المزركشة بالألوان الحمراء والزرقاء، ويقبض واحد منهم على ذراعي ليقول لي: إنا نبحث عنك منذ ساعات.
فأقول لهم: وأنا أيضا أبحث عن قيصر!
فيعتذر إلي حارس طويل القامة في أدب رقيق: لقد أخطأنا حين تركناك تدخل القصر، فأتعلق بثيابهم وأنا أستنجد، ألست رجلا من الشعب! - نعم ... ولكنه يريد رجلا آخر!
وأعود معهم أشق ردهات القصر، وأعبر دروبه، وأجوز قاعاته، وأتفرج على بدائعه وكنوزه.
ويلاحظ الحراس أن رجلي أصابهما الوهن، فأنا أعرج بهما، وأنني في حاجة إلى الراحة بعد جهد المسير، أنا ما زلت في موقفي على أفريز هذا الشارع، ها قد انقضت ساعات الظهيرة، ولا بد لي من أن أرى قيصر، سمعت أناسا يهتفون وتبح أصواتهم، بعضهم يقول: إنه قد رأى الموكب، وهو يعبر الحي القريب، ولكن عاقته الجماهير المتدافعة عن مسيره، والبعض الآخر يؤكد أنه قد سمع الأبواق على طول الطريق، وهي تؤذن بقدوم قيصر، وفريق ثالث يقسم الأيمان على أنه قد شاهد العربة الإمبراطورية وهي تخطر في الطريق كالعروس الجميلة في ليلة الزفاف، ثم يعتذر عن تقصيره في الوصف قائلا: إن أحكم حكمائنا، وأبلغ شعرائنا لن يستطيع أن يصف لكم روعة الموكب الإمبراطوري، ونتحرق نحن شوقا إلى رؤية هذا الموكب ، وقد يحلم بعضنا بالذهب يتناثر من يدي قيصر على جانبي الطريق، وقد يطعم الجياع في طعام هنيء يأمر به قيصر، والحفاة في أحذية جديدة يوصي بصنعها قيصر، والمظلومون في العدل الذي يأمر به قيصر، لكن الشمس تغرب، والشفق يصبغ بحمرته الدامية وجوهنا الشاحبة كشحوب أنواره، والأصوات التي كنا نتصور أنها تصم آذاننا أصبحت موجات من الصدى، تنغمها الريح في الفضاء، وفريق منا أضناهم التعب فانصرفوا إلى بيوتهم، وهم يعدون أنفسهم برؤيته في زمن قريب، أما أنا فأقلب بين يدي الورقة التي كتبت فيها شكواي، ودفعت عليها رسم الضريبة، وأقول في نفسي أفلا يصدق الحلم فأجثو أمام قيصر، وأقبل قدميه وأبكي!
يا ظل الله في الأرض!
لم لم يعبر بي موكبك؟
يا سيد البحار والأراضي!
أنا أنتظر موكبك!
ألن يأتي هذا اليوم في عمري أبدا؟
ناپیژندل شوی مخ
أنا لن أذهب إلى بيتي كما فعل غيري، فسوف أنتظر، وأنتظر، إلى صباح الغد، وبعد الغد، وأيام المستقبل كله.
على هذا الجانب من الطريق سأسمر رجلي الضعيفتين حتى أسمع الأبواق تنفخ من بعيد، والرعية الأمنية تهتف، والعربة التي تجرها الجياد المطهمة تسير أمامي، عندئذ سأمرق وسط الزحام، وأشق السياج المتين الذي يطوق قيصر، وأقف بين يديه، وألقي عليه بشكواي، حقا إن شكواي طويلة مستفيضة، ولكن قيصر لن يسأم منها، سيأمر بوقف الموكب ليراني.
سيوصي بإخماد كل الأصوات ليسمع صوتي.
وبعد أن أفرغ من شكواي التي ستستغرق أياما وأياما سيميل على أذني، ويسر إلي بهذا السؤال: من أنت أيها الرجل المسكين؟
فأرفع إليه عينين تملؤهما الدموع، وأقول: أنا رجل من شعبك الأمين يا مولاي.
فيميل على أذني للمرة الأخيرة ليقول لي في حنان عظيم: يا أقرب الناس من قلبي.
انتظر حتى أراك في موكبي التالي.
ولكن متى يمر الموكب؟
ومن أين؟
من الشارع الآخر؟
ناپیژندل شوی مخ