وكان سينون الداهية يمزج كلماته بدموع الصلاح والورع، ويشعل فيها جمرات الإخلاص والصدق ... وكان يرسل آهاته من الأعماق! حتى استطاع أن ينفذ إلى سويداء الملك، ويستولي على مشاعر الطرواديين؛ وحتى ثار الطرواديون أنفسهم على قديسهم الوقور لاوكون، راهب نبتيون الأكبر حين نصح ألا تجوز عليهم هذه الكلمات المعسولة، والنفثات السحرية التي يتلجلج بها لسان سينون، وأن يدعوا الحصان مكانه، «فإنه إن دخل طروادة جلب عليها الشر، وكان فأل السوء للضحايا والشهداء، ولا تصدقوا أن الهيلانيين قد تركوا هذا الحصان تكرمة لنبتيون كما يدعي هذا الآفاقي المأفون، بل هم قد صنعوه حيلة منهم لغرض سيء، وها هي ذي ابنتك أيها الملك ... كاسندرا العزيزة فاسألها ... فإن لديها سر السماء ...»
وسأل الملك كاسندرا فأفتت بما أفتى به لاوكون.
ولكن ... من يصدق كاسندرا ولا تزال نقمة أبوللو تنصب فوق رأسها، وقد جعلها إله الشمس عرضة لكل مستهزئ، وضحكة كل ساخر لعاب!
وزاد الناس استهزاء بالقديس لاوكون، حين رأوا إليه تفترسه حيتان عظيمتان على سيف الهلسبنت؛ إذ هو يقدم قربانه لربه نبتيون، فتقتلانه وولديه، عقب تحذيره الطرواديين ألا يقربوا الحصان المشئوم وألا يدخلوه مدينتهم!
وتعاون الطرواديون جميعا فجروا الحصان الهولة، وهدموا بأيديهم جزءا كبيرا من سور إليوم المنيع لتتسع البوابة للتمثال الهائل، فكانوا كالتي نقضت غزلها أنكاثا! •••
وكان الأسطول قد اختبأ في ظلال الأيك النامي فوق جزيرة تندوس، فلما كان النصف الثاني من تلك الليلة الخرافية الحالكة - وكانت طروادة كلها قد استسلمت للنوم العميق الذي يسبق القضاء الصارم عادة في مثل هذه الأحوال - هب سينون الخبيث ففتح الباب السري الذي لا يعرف إلا هو مكانه من الحصان، وخرج الأبطال فقتلوا الحراس النائمين لدى الأبواب، وأشعلوا النيران فرآها الجنود الذين عاد بهم الأسطول في دجى الليل، فانطلقوا سراعا إلى إليوم الخالدة ... المستسلمة ... فدخلوها ... وأعملوا السيف، وشرعوا الرماح، واستباحوا المدينة، وهتكوا الأعراض النقية، وأحلوا حرمة الهياكل، وأضرموا النيران في القصور، وأتلفوا الحدائق الفينانة، وهشموا تماثيل الآلهة في الميادين العامة، وقتلوا الصبية والأطفال، وجعلوا المدينة أطلالا!
وهكذا، وفي سكرة الليل، وهدأة الظلام، تم للهيلانيين الاستيلاء على تلك المدينة العتيدة، وهبت من تحت الثرى عشرة أعوام طوال مضرجة بالدم، ملطخة بالإثم، حافلة بالذكريات، غارقة في الدموع ... تشهد إلى الفتح المجرم، وترى إلى المأساة الظالمة في آخر فصولها!
وكان إيناس اليافع بن فينوس الهلوك من أنخيسيز ، فتى طروادة وأميرها الجميل ذو القسمات يغط في نومه العميق ملء سريره الذهبي الوثير ... مطمئنا آمنا ... لا يدور بخلده أن تحل تلك الكارثة بإليوم في هذه الغفوة من الفجر.
وكان إيناس محببا إلى الآلهة، ولم يكن قد جاء أجله بعد، فسخرت إليه ربات الأقدار طيف هكتور يزوره في نومه، ويريه حلما مفزعا، وينذره: «أن هب يا إيناس؛ فقد سقطت طروادة، وانج بنفسك وبأهلك؛ فالأسطول ينتظرك، واستنقذ التحف المقدسة والآثار العلوية؛ فقد دنسها الفاتحون!»
وذعر إيناس، وهب من نومه لهفان صعقا، وفزع إلى سلاحه، ثم أشرف على المدينة المروعة، فشهد المأساة تحل بها.
ناپیژندل شوی مخ