64

نحن أيها الخطيب شبيهان، كلانا أدرك الهدف وأخطأ سواء السبيل؛ أراد لنا نحس الطالع في صبانا أن يخدعنا المعلمون - والمعلمون أحيانا ما يخدعون، ويبشرون بما لا يؤمنون - فأوصونا بأن نجعل من النجم غايتنا، فأبت علينا الأمانة البلهاء إلا أن نكد ونكدح لنبلغ النجم، وفاتتنا الحيلة التي يدركها الألوف إدراك البداهة في غير عسر ولا عناء، وهي أن نلتمس النجم في صورته على صفحة الماء، وأولو الأمر لا يفرقون بين النجم وصورته، فكلاهما في أعينهم لامع لألاء، وبربك لا تقل إننا إذ نروم النجم في سمائه تستقيم منا الظهور، وتشرئب الأعناق، وتشمخ الأنوف؛ أما إذا أردنا الصورة فلا بد من «انحناء»؛ فتلك حكمة القدماء، والحكمة إنما تساير وسائل النقل في تطورها، فلا ينبغي أن تكون حكمة الطائرة مثل حكمة «الحمار» ...

كانت تلك الأسطر بعض ما كتب إبراهيم في إحدى لحظات يأسه؛ والحق أني حين قرأتها تبينت فيها ما يشبه نبرات الأحدب فيما يكتبه، وكثيرا ما يختلط علي الأمر فلا أدري من منهما الكاتب لما أقرؤه؛ إذ تكون النغمة نغمة أحدبية؛ وأما المضمون فيوحي بجوانب أعرفها من حياة إبراهيم. •••

إن ثلاثتنا - الأحدب وأنا وإبراهيم - لم نجتمع قط حتى الآن في مكان واحد وفي لحظة واحدة لنتفق معا أو لنختلف على شيء بعينه؛ فكل منا منصرف في دنياه إلى ما خلقه الله له: الأحدب في مجال اهتماماته الأدبية قراءة وكتابة، وإبراهيم في حياته العلمية دراسة وشهادات ومؤلفات، وأنا في سعيي إلى كسب العيش والتعامل مع الناس وفق ما تواضعوا عليه من نظم وقواعد؛ لا، لم يحدث لثلاثتنا قط حتى الآن أن تم لها لقاء يجمعها، لكن كل واحد من الثلاثة قد أصبح على وعي بوجد الزميلين الآخرين، وما يربطهما به من خيوط.

كانت تلك هي الصورة عندما عاد إبراهيم (هو الآن الدكتور إبراهيم الخولي)، عاد إلى مصر واثقا من نفسه، مؤمنا بدعوة إلى ثورة علمية في حياتنا، تتناول منهج النظر، فتحوله من قراءة الكتب لاستخراج الأحكام من بطونها، إلى قراءة المشكلات الحية على «الطبيعة» لالتماس حلولها من واقعها. كان إبراهيم عندما سافر في بعثته العلمية خلوا من هذين العنصرين معا، فلا هو على ثقة من نفسه، ولا هو ذو دعوة محددة المعالم والأهداف.

لكنه لم يكد يضع أصابع قدميه في ميدان العمل، حتى نزلت عليه اللكمات واللطمات أشكالا وألوانا من هزء وسخرية وازدراء وتصغير، وها هنا ارتد إلى طبيعته التي لازمته منذ السنوات الأولى من عمره، وها هنا كذلك جمعته المصادفة المبصرة مع صنويه الأحدب وأنا لأول مرة، ولم يطل بينهم إجراء التعرف بعضهم إلى بعض؛ لأنهم أحسوا جميعا - وفي لمحة خاطفة - أنهم إن لم يكونوا إخوة توائم فهم كالإخوة التوائم؛ يختلفون فيما بينهم اختلافا بعيدا، لكنهم جميعا يتفقون على محاور رئيسية، هي نفسها المحاور التي أشرت إليها الآن حين قلت عن إبراهيم إنه ارتد إلى «طبيعته» الأولى التي لازمته منذ السنوات الأولى من عمره، والتي كان من أهم عناصرها أمران: أولهما اندفاع نحو المجهول بشجاعة ظاهرة، والثاني فرار إلى انطواء في جحره ليحتمي في ظلمته وبين جدرانه؛ فهذان العنصران اللذان يبدوان وكأنهما نقيضان، وهما في الحقيقة متكاملان، وهما اللذان تجتمع عليهما طبائع الأشخاص الثلاثة، ثم يختلفون بعد ذلك ما شاء لهم الاختلاف أن يتباعدوا.

عاد إبراهيم من إنجلترا واثقا من نفسه، مؤمنا بدعوته، فاندفع في دنيا العمل شجاعا، فتلقى ضربات من هوان، فلاذ مسرعا بانطوائه في عزلة أو ما يشبه العزلة، وحاول - وهو في تلك العزلة أو ما يشبهها - أن يحافظ على ثقته بنفسه وعلى نشر دعوته من وراء الجدران، فلما حدث أن اجتمع بصنويه لأول مرة، اجتمع الثلاثة جميعا على أن تكون لهم هذه الوقفة الواحدة - كل في مجاله وفي حدود كيانه - وهي الوقفة التي تحتمي في حصنها وتهاجم على الورق؛ ومن هنا جاء التكامل بين التوائم الثلاثة؛ إذ كتب الأحدب بنبرته الحادة الساخرة؛ وإذا كتب إبراهيم بتحليلاته الهادئة العلمية الموضوعية، وإذا سلكت أنا في مسالك الحياة العملية منخرطا في قوالبها وتقاليدها، فالصور الثلاث كلها تنطوي على جوهر واحد، قوامه العمل على التغيير بالثورة الصامتة، أو هو المهاجمة من أبراج القلاع التي يلفها الضباب، بما يشبه ما تصنعه القبرة التي أنشد لها الشاعر «شلي»، فقال عن تغريدها الذي يسمع وكأنه آت من وراء الحجب، إنه يسمع من مصدر مجهول لا تراه الأبصار؛ أو قل إن الجوهر الذي نلتقي عنده ثلاثتنا، هو كحقيقة البحر المحيط عندما يسكن ماؤه ولا يهتاج بموجه القوي المخيف؛ فإن ليونة الماء وسيولتها - عندئذ - تغري حتى الأطفال بالعبث بها واللعب على ظهرها وعند أطرافها، فهم لا يرون ما وراء ذلك الضعف البادي من قوة يدأب بها البحر المحيط - حتى في سكونه - على إذابة الحديد وتفتيت الجلاميد.

عاد الدكتور إبراهيم الخولي من إنجلترا واثقا بنفسه مؤمنا بالدور الذي يعتزم القيام به، لكنه وجد نفسه محاطا بجماعة من أصحاب النفوس الفقيرة، التي تعوض خواءها الداخلي بقتل من يصادفها في الطريق ممتلئا بدفعة الحياة؛ إنها نفوس عاجزة ويعزيها عن عجزها أن ترى العجز في الآخرين، إلا أن للفقر صورا شتى؛ فمنها اليباب القفر الذي تلتهب رماله برقدة الشمس، ومنها الصخر الأجرد الذي صلد صدره وتصلبت أطرافه، ومنها السماء لا تجود بالغيث، ومنها الوردة تذبل وتذوي، ومنها الجيوب تخلو من المال ... لكن لا اليباب القفر، ولا الصخر الأجرد، ولا السماء اليابسة، ولا الوردة الذابلة، ولا الجدول غيض ماؤه، ولا الجيوب الخالية من المال، بمستطيعة أن تصور الفقر بأقوى مما تصوره النفوس الفقيرة؛ ولقد وجد إبراهيم نفسه محوطا بزمرة من تلك النفوس التي لا تملك الخصوبة لنماء الزرع فتفتك بكل زراع تراه ناميا، وهي نفوس جماعة من الكبار الصغار: كبار الأجسام والأعمار صغار الهمة صغار الأحلام؛ أقصى قدراتهم أن يصنعوا صنيع التلاميذ في استذكار دروسهم كما هي مكتوبة في دفاتر، فكذلك هؤلاء العاجزون: أقصى ما يطمحون إليه أن تعبث أفهامهم المحدودة بأسطر يقرءونها قراءة العاجزين ويدركون مراميها إدراك العاجزين، وهؤلاء هم الذين أحاطوا بإبراهيم وضحوا حوله وضجوا حوله بالطنين، ولما كان من طبيعة إبراهيم منذ أول نشأته تلك الحساسية الشديدة التي تدفعه أمام نذالة النذل وجهالة الجاهل وعدوان المعتدي أن يسرع فينطوي، على أن يضرب بسهامه من وراء الجدران. كان ذلك هو الذي حدث له بعد عودته بقليل، وربما استمر معه حتى يومه الراهن.

وكانت تلك السهام من إبراهيم إلى أعدائه ومنافسيه، حجاجا عقليا يدور كله نحو ترسيخ النظرة العلمية في كل ما ليس متصلا بالذات ووجدانها، والهدف النهائي من معركته مع معارضيه هو الدعوة إلى بعث جديد في الفكر العربي، لا يتاح له أن يتحقق إلا باصطناع منطق جديد ومنهج جديد. •••

أما هنا فلنوجه أنظارنا نحو الأحدب صاحب الوجدان الملتهب، لنرى ماذا كان يكتب، وكيف كان يحيا، في الوقت نفسه الذي كان صنوه إبراهيم يقاتل من يقاتله في مجال الفكر العلمي.

الهدف البعيد للتوائم الثلاثة - كل في ميدانه وبأسلوب حياته - هو الإسهام فيما يؤدي بمصر خاصة، وبالوطن العربي كله عامة، إلى بعث جديد نواكب به العصر وفكره وحضارته، فإذا كان الدكتور إبراهيم الخولي بحكم دراسته قد تصدى لنصرة العقل ومنهجه؛ فقد كان نصيب رياض عطا (الأحدب) بحكم عاطفته الحادة وحساسيته المرهفة، هو التصدي لنصرة الضعيف المحروم، وكان سلاحه في ذلك أن يعيش هو نفسه عيش الضعف والحرمان، حتى ولو توافرت له أسباب القوة والمتاع؛ لأن ذلك من شأنه تغذية القلم بمداده إذا كتب.

ناپیژندل شوی مخ