وفي باريس، خلال فترة الشهر ونصف الشهر التي قضاها ملحقا باليونسكو، أراد له الله أن يلتقي بسيدة مصرية جاءت موفدة من القاهرة لتشارك في المهمة نفسها التي طلب منه أن يضطلع بها، فوجد فيها رمزا يمثل أرفع القيم التي تتميز بها مصر، فحمد الله أن قذفت المصادفة أمام عينيه بهذا الرمز النبيل ليخفف من غلوائه فيما كان التسرع في الأحكام قد شطح به إليه؛ لأنه كان كلما رأى وجها من أوجه الكمال الحضاري وهو في إنجلترا، أسرعت المقارنة بمصر إلى ذهنه إسراعا يميل به إلى طمس الجانب المشرق الجميل ليظهر الجانب المعتم القبيح؛ فكان عزاؤه ذلك الحب القوي العميق الذي يكنه لوطنه، والرغبة المسعورة الجامحة في أن يرى ذلك الوطن الحبيب غير مسبوق على الطريق الحضاري الطويل.
ولقد قص علينا إبراهيم عن نفسه ساعة كان فوق السفينة يعبر القنال الإنجليزي في أول طريقه عائدا إلى مصر؛ فالبحر هائج مائج، والسفينة تعلو وتهبط مقذوفا بها على رءوس الموج كأنها الكرة على أقدام اللاعبين المهرة الأشداء، والراكبون يسقطون من دوار البحر صرعى، وهو واقف ممسكا بحاجز السفينة، مرتديا معطف المطر يتقي به الرذاذ العنيف الذي يغمره ويغمر عشرات الصرعى إلى جواره، واقف ينظر ناحية الشاطئ الإنجليزي، ويدس يديه في جيوبه، فإذا في جيبه الأيمن ورقة، يظل يسأل نفسه قبل أن يخرجها: ماذا يا ترى تكون هذه الورقة؟ وهو لا يذكر أنه قد وضع ورقا في جيب هذا المعطف، ثم يخرجها، فإذا هي قصاصة منزوعة كما اتفق من كراسة قديمة، ومكتوب عليها بخط رديء، خطته يد مسرعة مترددة: «أحببتك ولم أصرح»، والكاتبة هي صاحبة البيت الذي كان يستأجر غرفة فيه.
ولبث إبراهيم ينظر إلى الورقة في يده، والرذاذ العنيف يخبط وجهه وصدره، فأسرعت إلى ذهنه صورة تلك السيدة نفسها، حين كانت الحكومة أيام الأزمات قد أصدرت تعليماتها بأن تطفأ المدافئ في كل مكان من الساعة الحادية عشرة إلى الساعة الثالثة عصرا، توفيرا للفحم الذي قلت مقاديره، إما بفعل ثلوج الشتاء وإما تحت وطأة الحرب - لا أذكر الآن أيهما - فكنت أراها في الأيام التي أقضي فيها النهار بالمنزل لأكتب فصلا من الرسالة تجمعت مادته بين يدي، كنت أراها وهي تنظر إلى ساعتها لحظة بعد لحظة، حتى إذا ما حانت الساعة الحادية عشرة دارت على غرف المنزل تطفئ مدافئها بغير رقيب إلا من ضميرها الوطني.
طفق إبراهيم وهو يعبر القنال الإنجليزي عائدا إلى بلاده، يلف في رأسه شريط ثلاثة أعوام قضاها في بريطانيا، لفا سريعا تتداخل به الصور بعضها في بعض، لا يكاد يقف عند واحدة حتى تزول لتحل محلها واحدة، ثم ازداد الأمر خلطا ومزجا حين راح يلف في رأسه - في الوقت نفسه - شريطا آخر لفا سريعا كذلك، تتلاحق فيه الصور واحدة في إثر واحدة، تضع أمام عينيه مشاهد ومواقف مما كان قد مر به في مصر قبل أن يغترب عنها للدراسة، فكأنما كان الشريطان عندئذ يتدافعان ويتسابقان ويتشابكان؛ فصورة من هنا تستدعي صورة من هناك، كل ذلك والسفينة تتخبط فوق الموج الصاخب، وصرعى الدوار يزدادون عددا، والرذاذ الحاد يضرب وجهه وصدره كأنه قطع الزجاج.
هذه هي صورة الطالب الإنجليزي «فلتشر» يلقاه في المحاضرات ويتصادقان ويتبادلان الرأي والنظر، قد كان في نحو عمره، ويعلم عنه أنه قد أمضى وقتا ضائعا حتى تنبهت شركة كان يعمل بها عملا يدويا مما تصلح له سائر الأيدي، ويدرك صاحب الشركة أو مديرها أن الفتى موهوب في الفكر النظري، فيقرر إرساله إلى جامعة لندن على نفقته، غير مقيد إياه بشرط العودة إلى شركته بعد إكمال الدرس، فماذا ينفع دارس الفلسفة شركة تعبئ الزجاجات بما لست أذكر من ضروب السائل، ولم تكد هذه الصورة تعود إلى الذاكرة يغشاها الضباب الأصفر الداكن الذي يكتنف لندن في أوائل الشتاء حتى تندفع إلى صفحة الذاكرة صورة من ماضي الحياة في مصر؛ فحيث كان إبراهيم مدرسا ناشئا جاءه غلام في صحبة أبيه ومعهما خطاب من صديق يوصيه بالغلام خيرا لأنه موهوب، ولكن أباه لا يملك من وجه الدنيا قرشا يدفعه أجرا لتعليمه، ويسألهما عن ظروف الغلام فإذا هو في الشهادة الثانوية من أوائل خمسة، لكن المدرسة الثانوية التي يريد الالتحاق بها - كأي مدرسة ثانوية أخرى في ذلك الحين - تطلب القسط الأول قبل الدخول، برغم أنها على يقين من أن مجانية الطالب مكفولة له بحكم القانون؛ فمن أين للوالد الفقير أن يدفع وهو خادم في مسجد رزقه الله هذا الولد النابغة؟! فلا يدري إبراهيم ماذا في وسعه أن يصنع سوى أن يدخل إلى ناظر المدرسة في مكتبه ويقص عليه النبأ: «ماذا لو قبلناه بغير مصروفات، وخطاب المجانية آت من الوزارة في حينه؟» فيقول الناظر، وقد مس الموقف قلبه الطيب: «ومن ذا يدفع عني الاتهام إذا جاء من الوزارة مفتش فوجد طالبا لم يدفع أجر تعليمه قبل الدخول؟» وخرج إبراهيم ليبلغ الوالد والولد، فيبكي الوالد مرددا كلمة: «يا خسارة! يا خسارة»، ويحتضنه الولد ويربت له على كتفيه: «لا عليك يا أبي، لا عليك، لا عليك يا أبي، لا عليك»، وإبراهيم واقف على السلمة الأولى من مجموعة السلالم القليلة المؤدية إلى مكتب الناظر، ينظر إلى الوالد والولد ...
وهذه صور تتلاحق عن نعومة الصلات هناك بين كل إنسان وكل إنسان، فهل شهد في أكثر من ثلاث سنوات شخصين يعتركان؟! أبدا أبدا، لم تقع عينه هناك على عراك، كأنما هم صور تتحرك صامتة على صفحة مرآة، لا تصطدم منها صورة بصورة؛ فالزوج والزوجة، والبائع والشاري، والجار والجار، والصديق والصديق، وكل إنسان وكل إنسان، يلتقيان في همس ويفترقان في صمت؛ تأتيه هذه الصور حتى لكأنه يشهد سينما صامتة، وفجأة يقتحم الشاشة الذهنية صورة من ماضيه في مصر يسكن في شقة في منزل متواضع، يعلوها مسكن تنزل فيه زوجة وأبناء زوجها، وأما الزوج فيشتغل في الصعيد ولا يحضر إلا حينا بعد حين؛ وتحتها - في فناء البناء الأرضي عند المدخل - غرفة يسكنها صانع بليلة وزوجته، يخرج الزوج بعربته وعليها إناء ضخم مليء بالبليلة وتحته موقد النار، والدخان المخلخل يتصاعد منه؛ أقول: إن الزوج يخرج بعربته تلك ليعود مع المساء؛ وحدث ذات ليل بعد أن انتصف، وهدأت الحركة في البيت والشارع، وسكتت الأصوات إلا من دبيب المارة على فترات متباعدة، أن انفجرت معركتان في آن واحد، إحداهما في الشقة العليا والأخرى في الغرفة السفلى، فمن أعلى جاءت أصوات تشق هدأة الليل:
الشاب ابن الزوج :
لا بد أن أقول لأبي متى تخرجين ومتى تعودين.
الزوجة :
امش! اخرج من بيتي.
ناپیژندل شوی مخ