52

كان حبه يختلف عن حبي؛ فحبه لسميرة هو الحب بين الأنداد، بما في ذلك من بسطة في الحديث وسهولة في اللقاء والزيارة، حتى لأوشكا أن تزول بين نفسيهما الحواجز كما تزول بين الزوجين فيما يختص بوسائل التعبير؛ وأما حبي ففيه الحذر والخوف والحرج والتردد؛ لأنه برغم راحة النفس وخفقة القلب. كانت هنالك الحوائل النفسية الكثيرة التي تعرقل خطوتي إليها، وأكثر منها الحوائل النفسية التي تعرقل خطوتها إلي؛ لذلك كانت صلاتي وزياراتي أقل حدوثا من صلات الأحدب وزياراته؛ ومن هنا كانت أحاديثنا تمسه أكثر مما تمسني.

وفجأة وقعت للأحدب وقائع اضطربت لها حياة كلينا معا؛ فإلى ذلك الحين لم يطرأ لي أن أسأل الأحدب عن أسرته؛ لأن أمثال الأحدب من الناس يوهمونك أنهم من أنفسهم في عزلة تامة عن الكون والكائنات، فلا يعن لك أن تسأل: من ذا يكون أبوه، وهل له إخوة وأخوات وأبناء عم وخال؟ لا يعن لك أن تسأل هذا؛ لأنه فرد قائم بذاته تبدأ حقيقته بشخصه وتنتهي بشخصه، ولا أثر فيه لما بينه وبين غيره من روابط وصلات.

وفجأة جاءني ذات ليل في ساعة متأخرة ينهنه بالبكاء، ويمسح عينيه بمنديله ويكف لحظة وعيناه محمرتان، ثم يعود فينهنه بالبكاء، وأنا منه في حيرة، لا أدري ماذا دهاه، وأسأله فلا يجيب، فشفتاه - حتى وهو منقطع عن بكائه لحظة - راجفتان، يحاول بمجهود ظاهر أن يوقف فيهما الرجفة فينهمر في البكاء، وهكذا حتى مضت نصف الساعة، وأخيرا قال وهو يبكي: عمي مات ... وهذا ثاني عم لي يموت، مات أولهما غرقا عند أسوان حين كنت ما أزال طفلا، أبكي لبكاء الآخرين لا عن حرقة في نفسي، وهذا هو الثاني أبكيه من سويداء القلب.

قلت: هل كان مريضا؟

قال: كان مريضا بالسكر، وتعفنت له أصبع في قدمه اليمنى، وأخذ الداء يسري، فلم يكن بد من بتر ساقه إلى نصف الفخذ، كنت كل يوم أخطف نفسي من العمل خطفا لأزوره وأرعاه، وكانت آخر كلمة قالها لي من قلب يحبني كما أحبه، قالها وهو ينظر إلي ساعة حملوه إلى غرفة العمليات، وعيناه شاخصتان إلي وحدي برغم وجود أخيه وأبنائه بجواره؛ إذ قال: أدعو لك يا رياض براحة السر وسعادة العيش، ربنا يسعدك يا رياض يا ابني ... وعاد رياض إلى البكاء.

ولبث أسابيع لا يبادلني حديثه المعتاد، ولا أجرؤ أن أبادله ؛ فهو يغيب عني، ثم يحضر ليأكل وينام.

وأول ما حدثني عنه عندما عادت إليه القدرة على مبادلة الحديث هو ملاحظة أبداها عما شهده من جدته ليلة أن نقلت جثة ابنها إلى القرية ليدفن هناك، قال الأحدب: سئل سوفوكليز، وكانت السن قد تقدمت به: «ماذا ترى الآن في الحب يا سوفوكليز؟ ألا تزال قادرا عليه؟» فأجاب: «صه! نشدتك الله ألا توقظه في قلبي من جديد؛ فكم يسعدني أن أراني قد فررت من حبائله، فأحس كأنما فررت من مستبد متوحش مجنون!» ... ولست أريد في الحقيقة أن أتكلم الآن عن الحب، بل أريد على ضوء هذا الذي قاله سوفوكليز أن ألاحظ لك عما يصيب العواطف كلها من برودة الانفعال مع مر السنين ... لقد مات لي عمان، جاء موت الثاني بعد موت الأول بفترة طويلة، وشهدت موقف جدتي في الحالتين - وإن أكن قد شهدت الحالة الأولى وأنا صغير - فكأنما شهدت امرأتين مختلفتين أشد ما يكون الاختلاف بين الناس، شهدت في المرة الأولى أما جزعت على موت ابنها جزعا لم أشهد له مثيلا في كل ما رأيت من الأمهات اللائي ثكلن أبناءهن، شهدت عندئذ أما لا يكاد ينقطع لها بكاء، تهيم على وجهها أحيانا في شوارع القرية صارخة نادبة، وتصوم عن الطعام أياما، فإن أكلت تعمدت ألا يكون طعامها من أطيب الطعام، وكثيرا ما كانت تذهب إلى قبر ابنها حيث تقضي اليوم كله والليل كله، وتأبى أن تفترش غير الحصير الغليظ الخشن، على أن تكون السماء غطاءها مهما كان البرد قارسا، وألد أعدائها هم أولئك الذين يتقدمون إليها بالنصح أو بالتعزية والمواساة؛ لأنهم إن فعلوا كان معنى ذلك عندها قصورهم عن إدراك المصاب بكل هوله وفداحته ... ثم شهدت جدتي هذه لما مات ابنها الثاني، وكانت تقدمت بها السن إلى ما يقرب من السبعين، وذلك حين نقلنا جثمان عمي هذا الذي مات منذ قريب، إلى القرية حيث تقيم جدتي، وحملنا النعش من السيارة إلى بهو الدار، فرأيت جدتي واقفة في سوادها - وكان الليل قد انتصف والسكون ضاربا ليشمل القرية كلها في صمته العميق - وكانت الأضواء خافتة في الدار، حتى كاد الأشخاص أمام عيني يتحولون أشباحا؛ وقفت جدتي لحظة شاخصة ببصرها إلى النعش بعد أن وضعه حاملوه على أريكة خشبية في بهو الدار، وقفت لحظة صامتة لا تتحرك ولا تنطق، فلم يسعنا إلا الوقوف معها في صمت خاشعين، ثم صرخت صرختين تنطق فيهما بلفظ «يا ولدي»؛ فكان ذلك كل ما أبدته جدتي من علامات الجزع، وبعدها جلست هادئة في المأتم، لا تصرخ ولا تبكي ولا تندب ولا تلطم صدرا ولا تمزق ثوبا؛ لقد تخلصت مع الأيام من حدة الانفعال، فكانت بمثابة من تخلص من «مستبد متوحش مجنون» على حد ما قال سوفوكليز عن حبه الذي بردت مع الشيخوخة جذوته.

قلت للأحدب: وهل برد حبك اليوم بالنسبة لما كان عليه بالأمس؟

قال: لقد تغير نوعه. كان هيجانا على السطح، فأصبح تغلغلا في الأعماق. كان كالشلال يقفز ماؤه فوق الصخور قفزا أرعن لا يبالي أي الأحجار يفتت وأيها يزحزح، فأصبح كماء المحيط العميق عندما يتبدى للعين ساكن الموج وفي جوفه تيارات جوارف.

قلت: أصبت. ولعل هذه هي مميزات ما يسمونه بغرام الشيوخ؛ فهدوء في حركة الجوارح الظاهرة، فلا اندفاع ولا جرأة ولا مغامرة، ولكن تآكل في الجوف وانهيار في الروح.

ناپیژندل شوی مخ