حقا إن العرق دساس، ومن تجري في عروقه دماء النذالة والضعة هيهات يخفي عن الناس طويته، فالنفس لا بد يوما مفضوحة بسلوكها، ولو حاولت أن تسدل على مكنونها ألف ستار وستار؛ فهذه القطعة ذات المليمين - فيما يظهر - قد استغلت شبهها بذات القرشين استغلالا دنيئا خسيسا، وأشهد الله أني من إجرامها بريء؛ فقد عن لي يوما أن أسلك نفسي في زمرة الوجهاء - ولست منهم في عير ولا نفير - فركبت الترام في الدرجة الأولى، وجاء الكمساري يجبي من الراكبين الأجور، وكنت منه في أقصى المقصورة، فمددت له يدي بذات قرشين، وأراد أحد الراكبين أن يعينني على ما قصرت عنه ذراعي، فأخذ مني قطعة النقد ليعطيها للعامل، ورأيته ينظر إلى القطعة في يده ثم إلي، ولكن أدبه قد شاء له ألا يتدخل في أمر لا يعنيه، وناولها إلى بائع التذاكر، فنظر إليها الرجل وقال: ما هذا؟ فقلت: خذ قرشا وهات قرشا، فقال: عشنا ورأينا ذات المليمين تلد من جوفها القروش! فأدخلت يدي إلى جيوبي في رعشة الخجل، وأصلحت الخطأ، وقدمت إلى الرجل المعذرة بالابتسام وبالكلام، وأردت أن أثبت للجالسين براءتي - ووجاهتي - فأحسنت بذات المليمين إلى فقير قفز إلى سلم العربة يطلب الإحسان، وانتهى بذلك تاريخ مؤلم طويل، لكن الله، الذي يضمر الخير في الشر، قد أراد لهذه القطعة الخبيثة ألا يذهب عني بلاؤها بغير درس مفيد، بصرني بناحية من طبائع الناس، مؤسفة مضحكة معا.
فقد جلست بين جماعة ذات مساء، وكان في الحاضرين أديب شاب لم يتجاوز العشرين، هو الذي حشر نفسه في زمرة الأدباء حشرا، بغير دعوة منهم ولا قبول، ولست أعلم من ماضيه الأدبي إلا مقالة نشرتها مجلة أسبوعية، ولو اكتفى بهذا الحد من الأحلام لكان جميلا؛ لأن الأحلام الحلوة التي تنفع صاحبها ولا تؤذي الآخرين ليس بها بأس ولا ضرر، ولكن الغرور أخذ من هذا السخيف مأخذا شديدا، فإذا به لا يكتفي أن يكون أديبا من الأدباء، ولكنه - لو أنصف الزمان وعرف للناس أقدارهم - (هذا وسوس له الغرور) لكان في الطليعة منهم، غير أن شيوخ الأدب (هكذا توهم) يقفون له بالمرصاد، فلا يخلون بينه وبين النشر؛ لأنهم ينفسون عليه ما وهبه الله من عبقرية ونبوغ! ... فقلت لنفسي: أليس هذا بين الناس قطعة من ذوات المليمين، تستغل شبهها بذات القرشين، فتدس نفسها بين الريالات وأنصافها دسا دنيئا قد يخدع الغافلين؟
وحدثني صديق، أراد لنفسه الصدارة فالتحق بجمعية أعضاؤها طائفة ممتازة من علية القوم، فخالطهم، ولكنهم لم يخالطوه، وهش لهم وابتسم، ولكنهم تولوا عنه وعبسوا، فجاءني شاكيا باكيا من لؤم الطباع الذي يؤلم ويشقي، فقلت له، وقد تلقيت العبرة من ذات المليمين: اعلم أن في النقود ريالات ومليمات، فإن وجدت واحدة من ذوات المليمين نفسها بين الريالات، فظنت نفسها «عضوا» في هذه «الجماعة»، فأصابها ما أساء إليها وأشقاها؛ فليس الذنب ذنب الريالات المتكبرة، لكنه ذنب ذات المليمين؛ لأنها أرادت أن تكلف الأشياء ضد طباعها؛ إذ أرادت - خطأ - أن تكون ريالا.
وإني لطلب المغفرة من القارئ أن أعدت أمامه المقالة كاملة، وهي المقالة التي كتبتها في أواخر الثلاثينيات لأعبر بها عما يحسه صغير وجد نفسه فجأة بين الكبار، ولقد أردت بإعادة المقالة كلها لأجعلها أمام القارئ نموذجا للمقالة «الأدبية» كما كتبتها، وما أزال ألجأ إلى كتابتها أحيانا إلى يومنا هذا، كلما وجدت الموقف يتطلب صورة أدبية معبرة، ولا يكفيه العرض التحليلي العلمي المجرد.
أخذت هذا التفاوت مأخذ الأمر الواقع، ومضيت فيما بدأت المضي فيه، وهو الشركة الأدبية بيني وبين الأستاذ الكبير.
وهكذا كان شأني عندئذ؛ أعرض الأفكار نيابة عن أصحابها، وأتلقى ما أتلقاه من إحسان أو إساءة، فماذا كان الشأن عند جناحي الأيسر؛ وأعني «الأحدب»؟ فلم يعد خافيا أمامنا أنني أنا والأحدب وزميلنا إبراهيم أضلاع لمثلث واحد، أدركنا ذلك أو لم ندركه بالوضوح الكافي.
حز في نفس الأحدب أن يكافح ما يكافح، حتى لقد كان يعمل من ساعات اليوم الواحد ما لا يقل عن خمس عشرة ساعة، ثم يلقى هذا التصغير بلا مبرر معقول ، لو كان صغيرا في حقيقته، فلماذا رضي الكبار أن يزاملوه ويشاركوه؟ فلم يجد أمامه إلا أن ينكمش وينطوي وأن يمسك القلم ليبثه آلام نفسه التي انكمش عليها وانطوى، فكتب مقالات رامزة، يفهمها من يعرف طبيعته؛ وأما من لا يعرف تلك الطبيعة فيجد فيها ما يجده القارئ لقطعة روعي فيها شروط الإنتاج الأدبي في فن المقالة.
وكان من تلك المقالات التي لفتت الأنظار مقالة عنوانها «البرتقالة الرخيصة»، بدأها بأن راح يتغزل في صفات البرتقالة الجميلة ليأخذه العجب كيف تباع - برغم ذلك - في الأسواق بأرخص الأثمان، ولا تلقى من الفاكهاني أقل العناية، بينما التفاح معطوب وقد يسري في جوفه الدود، ومع ذلك فهو يلف في الأوراق ويرص في الصناديق، ويباع بالثمن المرتفع، «إن البرتقالة لتشبع الحواس جميعا؛ فهي بهجة للعين بلونها، وهي متعة للأنف بأريجها، ولذة للذوق بطعمها، ثم هي بعد ذلك راحة للأيدي حين تديرها وتدحرجها، ولقد لسبت البرتقالة معطفا من جلد جميل، فإذا ما انتهت إلى آكلها، نضت عن نفسها ذلك العطاف الذي لامسته الأيدي، لتبدو لصاحبها بكرا لم تفسدها جراثيم السوء والمرض، وهي فوق ذلك كله لم تنس أن تحنو بفضلها على الفلاح المسكين، لأنها قررت منذ زمن بعيد أن تمنحه جلدها ليملحه فيأكله طعاما شهيا، وليس بالقليل أن يظفر زارع البرتقال بقشوره ما دام السادة قد نعموا باللباب ...» هكذا كتب صاحبي الأحدب وقتئذ، ليتألم وليسخر نيابة عن صنوه الذي هو أنا.
لا، لم أكن شبيها بصنوي الأحدب، ولا كان الأحدب شبيها بي، برغم هذه العلاقة الغريبة الوثيقة التي كشفت لنا عن نفسها فأظهرتنا وكأننا إخوة من رحم واحد، وحتى في المجال الواحد - مجال الفكر والأدب - لم نكن شبيهين؛ فأنا أتوارى خلف غيري من المؤلفين؛ وأما هو فيثور داخل نفسه على مثل هذا الطغيان، ولقد حدث أن انضم إلى اللجنة الأدبية نفسها صديقنا الشاعر فخري أبو السعود - الذي مات منتحرا فيما بعد - وكانت طبيعته الثائرة قريبة جدا من طبيعة الأحدب، بقدر ما هي بعيدة عن طبيعتي، فلما رأى تلك العلاقة الاستبدادية العجيبة التي كانت تنظم التعامل بين كبار الأعضاء وصغارهم، كأنهم الموظفون في ديوان الحكومة، منهم الرئيس الشامخ بجبروته ومنهم المرءوس الصاغر المطيع؛ أقول: إن صديقنا الشاعر حين رأى تلك العلاقة العجيبة قائمة بين أعضاء لجنة أدبية، حاول - وكأنه أحدب آخر - أن ينفخ في صدري روح التمرد قائلا: إنني لم أعد أطيق أن يتركوني مربوطا أمام المذود انتظارا لما يجودون به علي من صدقات، وكان في الحق صادق التعبير كل الصدق بهذه الجملة التي قالها؛ لأن الكبار في تلك اللجنة الأدبية كانوا يعطون الصغار فرصة الكتابة والنشر كما يعطي صاحب المال صدقة لمتسول جلس إلى جانب الطريق وفتح كفه يستجدي.
قلت لصديقي: وماذا تريدنا أن نفعل؟
ناپیژندل شوی مخ