48

ثلاثتنا جميعا كان لهم نصيب موفور في حياة الفكر والتعبير؛ أما نصيبي أنا فقد كان شبيها بما يفعله عارض الأزياء في نوافذ الدكاكين، ليراه المارة في الطريق واقفا وراء الزجاج بالثياب المعروضة، وإذن فلم يكن له من فضل أكثر من فضل المعلن عن شيء موجود، فتكون قيمته مرهونة بعدد الزبائن الذين يغريهم عرضه فيقبلون على الشراء، فإذا لم يجتذب للثياب من يتذوقها ويشتريها. كان وجوده وعدم وجوده على حد سواء.

ظهرت مجلة الرسالة لصاحبها أحمد حسن الزيات في يناير من سنة 1933، وكنت - كصاحبي الأحدب - مدرسا في ريف الدقهلية. كانت قريتي تنتمي إليه قبل أن تتحول فيما بعد إلى محافظة دمياط، فما إن صدر العدد الأول من «الرسالة» حتى انفتح أمامي الميدان الذي أنظم فيه نشاطي الفكري الذي يفيض لي بعد شواغل مهنتي، فأخذت أرسل المقالات تباعا، و«الرسالة» تفسح لي صدرا رحبا، ولكن فيم كانت تلك المقالات بصفة أساسية؟ كانت فصولا في الفلسفة الغربية، يغلب أن تختص كل مقالة منها بفيلسوف؛ فهذا هو برجسون، وذلك هو نيتشه أو شوبنهاور أو غيرهما، وهكذا لم يكن نصيبي عندئذ من الفكر أكثر من نصيب السمسار الذي يتوسط بين صاحب السلعة من جهة وشاريها من جهة أخرى.

ولذلك لم أدهش بعد أن مرت بي السنون وأوقفتني المصادفة على صاحبي الأحدب، وعرفت كيف سايرت حياته حياتي في خطين متوازيين، مع هذا الفرق الذي أشرت إليه، وهو أني كنت أسير على الدرب المدقوق بالأقدام، على حين أنه كان يربأ بنفسه عن مثل هذا السير الرتيب؛ أقول: إني لم أدهش حين علمت فيما بعد بما كان يضطرم به صدر الأحدب في تلك الفترة نفسها من ضيق بالمعروف المألوف، وتشوف إلى ما هو ذاتي أصيل، فرأيت له مقالة وكأنه كتبها ليعارضني، يقول فيها شيئا كهذا:

لقد قرأت في صدر شبابي كل ما أنت به اليوم معجب مفتون، واجتزت عهدا أراك تجتاز مثله الآن، عانيت فيه ما عانيت من كرب وضيق، وكم قرأت وقرات، فكنت أتلون بما أقرأ كأني حشرة حقيرة تدب على ظهر الأرض وتسعى، فتصفر إن كانت تحبو فوق الرمال، وتخضر إن كانت تزحف فوق الحقول.

كنت أقرأ للشكاك فأشك، ثم أقرأ للمؤمنين فأومن، هذا كتاب متشائم أطالعه فإذا أنا الساخط الناقم على حياتي ودنياي، وذلك كتاب متفائل أطالعه فإذا أنا الهاش الباش المرح الطروب، لكن أراد الله بي الخير فأفقت إلى نفسي فوجدتها مضطربة هائمة تعصف بها الريح هنا وهناك، وهي في كل ذلك تعاني من القلق والهم ما تعاني.

وضرب الأحدب في مقالته تلك الأمثلة؛ ضرب مثلا بالإمام الغزالي الذي قرأ ما قاله الحكماء والفلاسفة، فلم يكن له منها سوى أن ارتجت نفسه ارتجاجا عنيفا، وأخذه الشك من كل جوانبه، حتى نالت منه العلل بما نالت، لم يشفه منها إلا أن يستمع إلى وحي نفسه؛ وضرب مثلا بتولستوي الذي غاص في أغوار الفكر ما غاص، وانتهى به الأمر إلى اضطراب وحيرة، فما كان منه إلا أن يفرغ مكتبته من كل ما فيها على أنه أباطيل؛ لقد قرأ تولستوي للفلاسفة الأعلام جميعا، قرأ لأفلاطون وكانت وشوبنهور وباسكال، لكنه تبين أن آراء هؤلاء الحكماء إنما تكون واضحة ودقيقة حينما تبعد عن مشاكل الحياة المباشرة، ولكنها في ميدان هذه الحياة لا تهدي الحائر سواء السبيل.

كنت إذن أنقل الفكر من غيري، وكان الأحدب يتمرد على الفكر الذي ينقل عن آخرين، ولا يريد من الشراب إلا ما ينضح به إناؤه هو لا ما ينسكب من آنية الغرباء، فماذا كان صديقنا إبراهيم يضع في تلك الفترة نفسها؟ إنه تناسى واقعه وغض عنه النظر، وجعل من نفسه «تلميذا» مرة أخرى، فلقد صمم على هدف يتحقق في موعد قريب أو في موعد بعيد، فذلك لا يهم، وإنما المهم هو الهدف والسعي إلى بلوغه، وما هدفه ذاك إلا أن يظفر بالدراسة الجامعية للفلسفة، ودراسة تنتهي به إلى «شهادة» يغير بها مجرى حياته، ولتكن تلك الدراسة العلمية في إنجلترا، أولا لأنه كان يؤمن بصلابة الثقافة الإنجليزية إذا قيست إلى ميوعة الثقافة في سواها، وثانيا لأنه كان بحكم دراسته في مدارس إنجليزية في المراحل الابتدائية والثانوية، وحتى المرحلة العليا لم تخل من اهتمام واضح باللغة الإنجليزية وأدبها؛ أقول: إنه كان بحكم هذه النشأة ملما بتلك اللغة إلى درجة الإتقان، ولم يكن له إذ ذاك من سبيل إلى جامعة إنجليزية، لا مبعوثا من الدولة بسبب الضائقة الاقتصادية التي ألمت بالعالم في أول الثلاثينيات، ولا على حسابه الخاص لخواء جيوبه وجيوب ذويه من المال الذي يكفي لذلك، وحتى لا يضيع الوقت في أوهام، أخذ يعد نفسه لامتحانات تجريها جامعة لندن في الخارج لمن يريد الانتساب إليها، فقسم إبراهيم حياته قسمين: أما نهاره فللعمل من أجل العيش؛ وأما ليله فللتحصيل كما هو الشأن مع أي «تلميذ» صغير أو كبير. •••

جئت إلى القاهرة منقولا من مدارس الريف، ويبدو أن ضباب الأزمة الاقتصادية العامة كان قد أخذ ينقشع بعض الشيء، فبدأ التعيين في وظائف الحكومة بعد أن كان بابها مغلقا على الجميع، وكنت أنا وشقيقي الذي وصفته في الصفحات السابقة بأنه توءم روحي، ومعنا نفر قليل من أصدقاء الدراسة؛ أقول: إننا كنا أوائل الدفعة عند التخرج، ولم يكن تفوقنا ذاك بذي معنى لأن الضائقة قد شملت الأوائل والأواخر جميعا، فلما انفرجت الأزمة بادرت مدارس الأوقاف الملكية التي كانت تتبع الملك، والتي كانت تجمع خيرة المدرسين حيثما كانوا لتضمن أن تكون لها الصدارة بين المدارس، بادرت باستدعاء من كانت الأزمة الاقتصادية شتتتهم في أرجاء البلاد، وكنا نحن أول من وقع عليه الاختيار، وما إن عدنا إلى القاهرة بعد غيبة قصيرة حتى تلقانا مدير التعليم المشرف على مدارس الخاصة الملكية، بنوع عجيب من التهديد المخيف؛ فنحن الآن - كما قال - في أشرف ساحة من ساحات التعليم؛ لأنها ساحة في كنف صاحب الجلالة، وإن ذلك حده ليلقي على عواتقنا تبعة أن نصون لتلك المدارس الممتازة امتيازها، ثم نحن الآن - كما قال أيضا - كمن ألقي به في اليم وفي يده طوق النجاة، فإما عرف كيف يطفو بذلك الطوق فتكون له حياة، وإما خاب فغرق واندثر، على أن مقامنا في تلك المدارس التي بعثت في نفوسنا كثيرا من الرعب، لم يطل؛ لأن تلك المدارس المخيفة المحطمة لنفوس العاملين فيها، سرعان ما ذابت في مدارس الدولة ولم يعد لها وجودها المتميز الذي كان.

ومع ذلك فحياتي العاملة لم تكن عندي إلا زائدة بغيضة حصرتها بين قوسين، حتى لا تعرقل سيري في الجانب الذي كانت أوثر العيش فيه، وهو جانب القراءة والكتابة، لكن الكتابة عندي - كما أسلفت القول - لم تكن إلا القراءة نفسها بعد أن يتحول المعنى المقروء إلى معنى مكتوب، وذلك هو الذي جعلني في تلك الأعوام أقرب إلى عارض الأزياء.

لم أكد أبلغ القاهرة حتى قصدت إلى رئيس تحرير مجلة الرسالة بعد أن كنت أرسلت إليها من بعيد بضع عشرة مقالة، ربما كان لها وقع حسن عند القراء، وكانت إدارة المجلة في غرفة لجنة التأليف والترجمة والنشر (وكان رئيس التحرير عضوا فيها) فقدمني لمن كان موجودا ليلتئذ من أعضاء اللجنة، ومنهم رئيس اللجنة الأستاذ أحمد أمين، فرحبوا بي ترحيبا أكثر مما كنت أراني جديرا به من علماء أجلاء ومن أدباء ذائعي الشهرة والصيت، ولم تمض دقائق حتى عرض علي أستاذ كبير أن أشاركه في إخراج كتب يكون أساسها عرضا لكتب إنجليزية نختارها، مما هو مؤلف في الموضوع الذي نحب الكتابة فيه، عرضا لا يتقيد بالترجمة كما هي مفهومة، لنفسح المجال للشرح.

ناپیژندل شوی مخ