كذلك تحددت في تلك الفترة من العمر علاقتي بالجنس الآخر؛ بمعنى أنني أدركت إدراكا واضحا ماذا يكون بين الجنسين في تستر وخفاء؛ فلست أنسى ذات مساء والبيت يعج بزواره، كيف اتفقت مع طفلة من الأسرة الزائرة أن نلعب زوجا وزوجة، وانثنينا إلى غرفة بعيدة عن الأعين، وأغلقنا من دوننا بابها، ولم أكن أعلم الطفلة من قواعد اللعبة أكثر مما علمتني، ولم تكن تعلمني أكثر مما علمتها؛ فالطفل والطفلة كلاهما - وهما في السابعة أو نحوها - كان يعلمان ما يكفي. كما حدث في هذه السن نفسها أن سافرت مع أهلي إلى القرية لنقضي إجازتنا بها، وكنت في الضحى ذات يوم ألعب على سطح الدار مع طفلة ريفية من الجيران، فما هو إلا أن تفاهمنا، وكان إلى جوارنا «سحارة» كبيرة عميقة، بابها مربع خشبي صغير يغطي فتحة على وجهها الأعلى، فقفزنا إلى سطح السحارة، ورفعنا بابها وهبطنا واثبين إلى جوفها، ولكن كيف الخروج والسحارة عميقة كأنها البئر؟ وعبثا حاولنا، فكان لا بد للسر أن يفتضح، فأخذنا ندق جوانب السحارة بقبضات أيدينا، ونركلها بأقدامنا، ونصيح في بكاء الفزع، حتى سمعنا من سمعنا، وانتشلنا، وما كادت القصة تسري حتى كانت الضحكات من هذه «الشقاوة»، ولكن هل أدرك الراشدون مدى ما قد ذهب إليه لهو الطفلين؟! لا أظن ذلك؛ وهذه هي براءة الأطفال، وهذه هي طهارة الريف، وتلك هي سذاجة الراشدين.
هكذا كملت جوانب الشخصية الاجتماعية بين السادسة والسابعة، وتحددت لها طرائف مختلفة في ردود الأفعال لمختلف البواعث، أو قل هكذا نشأت مجموعة الأشخاص التي تكون جوانب نفسي «الواحدة»، وما كان على الأيام بعد ذلك إلا أن تطور هذا الذي بدأ؛ فموقفي إزاء أبي هو هو نفسه موقفي إزاء كل سلطان متحكم، أثور عليه في داخلي تارة، وأنفجر بالثورة العلنية تارة، وأكتب لأهدم ما أراه طغيانا - سواء في ذلك الأشخاص أو النظم - فتجيء الكلمات كأنها شواظ وشرر، وكثيرا ما دهش من لم يكن يعرفني ثم رآني، فرأى شخصا تغلب عليه الوداعة والهدوء، فكيف يمكن أن تجيء تلك الثورة من هذا المستكين؟
وموقفي إزاء أمي هو موقفي من الصديق أحبه حبا خالصا غير ممزوج بالحذر والخوف، وهو الموقف الذي أقفه ممن تربطني بهم علاقة الود وأصطفيهم دون سائر المعارف، وموقفي من أخي هو نفسه موقفي من نفسي، أسر إليه بما لم أكن أسر به إلى أب أو أم أو صديق، أطلب منه النصح جادا، وأعتصم به آمنا. وموقفي من أقربائي الذين كانوا يكبرونني ويسبقونني في مراحل التعليم، هو موقفي من كل سابق في طريق العلم؛ أجد السير لألحق به. وأما موقفي من الجنس الآخر، فبرغم العبث الطفلي الذي عبثت به مع الطفلتين إلا أنه سيتحدد بفعل شيطانة من الجن في سن المراهقة.
إنهم يصدقون حين يقولون عن الأسرة: إنها نواة المجتمع؛ لأنها هي المجتمع الصغير الذي يتعامل الطفل مع أفراده، فيعامل كلا منهم بما يحقق له صالحه كما يتصوره، يحب هذا ويخشى ذاك، ويخلص الود هنا ويمكر بالحذر هناك، حتى إذا ما خرج إلى المجتمع الكبير، جسد في مواقفه وفي ناسه ما كان قد لقيه في المجتمع الأسري الصغير، فكم ثائر ثار على الدنيا حتى غير وجهها، تراه - إذا ما رددت ثورته هذه إلى أصولها - إنما يثور في الحقيقة على أب طغى به وهو صغير، فانتقم منه في سواه حين استطاع، وقد يجيء هذا الانتقام المقنع خيرا فيكون صاحبه من الأبطال المصلحين، أو قد يجيء شرا فيكون من المفسدين، وكم ملحد أنكر وجود الله إذا ما رددت إلحاده هذا وإنكاره إلى أصولهما، تبين كذلك أنه في الحقيقة يريد أن يكفر بالوالد أو بالمعلم الذي أغلظ له القسوة وهو ضعيف، وهكذا حلل حب المحبين وكراهية الكارهين وعبادة العابدين وزهد الزاهدين، وحلل نشاط العالم في معمله، والرحالة في ارتياده للمجهول، تجد كل ذلك امتدادا لأصول نشأت في النفس وهي ناشئة بين رعاتها ولداتها، فكان ما كان بعدئذ من خسة هنا ومجد هناك؛ أتقول لي: لكن هذه نظرة متشائم إلى القيم الإنسانية العليا؟ لكن كانت كذلك، فلا حيلة لي في نظرتي المتشائمة؛ لأنها وليدة حياتي التي عشتها حتى بلغت السابعة أو نحوها. •••
انتقلت الأسرة إلى السودان والصبي في تاسعته. كان له ما كان من أحداث الحياة، لكنه ذهب والأحداث مكنونة في جوفه لم يظهر بعد منها شيء على ظهره، ذهب والظهر معتدل وعاد والظهر مقوس معوج، لقد طفح الداخل إلى خارج وتكور.
الشمس فوق رأسي كأنها عين فتحت في جهنم! ذلك هو أول انطباع تلقيته في الطريق من المحطة إلى المنزل؛ إذ جلست فوق الحقائب المحملة على عربة لأحرسها، ولست أذكر بعد ذلك شيئا سوى أنني أرقد مصابا بضربة الشمس تحرسني عناية الأبوين نهارا وليلا لبضعة أيام، صحوت بعدها وجلت قليلا، فتبينت أننا قد انتقلنا من الظل إلى الوهج، ومن رطب إلى يابس، ومن حركة إلى سكون، ومن غزارة حياة وصلات إلى تخلخل وتفرق؛ فالمسافة بين بيت وبيت هنا أبعد، وبين دكان ودكان أطول، والناس قليلون، والأفراد متناثرون، والشارع ميدان، والميدان فلاة، والمشي كأنه وقوف، والجلوس كأنه رقاد، وشدة الحر تزيد الناس بعثرة بعضهم عن بعض؛ لأنهم لائذون بالسقائف، حتى ليتعذر على الخيال أن يتصورهم «جمهورا» بمعنى الحشد المتجمع في مكان، كما يتعذر على العقل أن يتصور قيام رأي عام ينتقل بين الأفراد بطريق العدوى، وفي ظني أن ظروفا للعيش كهذه من شأنها أن تزيد من اعتداد الفرد بنفسه وبفرديته، لقلة صلته الطبيعية القريبة بسائر الأفراد، وبالتالي فهي تقلل من استعداده للتفاهم السهل مع سواه، فعوامل تكوين «الرأي» الواحد هنا مفرقة مبعثرة، وحوافز التفكير واهنة؛ لأنه لا تفكير بغير مشكلات، وإذا قربت الحياة من البساطة فلا مشكلات.
أنا لا أتحدث عن السودان الآن، لكنني أتحدث عن موقف الصبي الذي ذهب إليه وهو في التاسعة، وكان ذلك منذ أمد بعيد، ذهب إليه وإحدى قدميه ما تزال مغروسة في أرض الطفولة، والأخرى أخذت تخطو نحو نضج الشباب الباكر، وقد بدأت خبرات الصبي هناك بموقفين متضادين في آن واحد. كان في أحدهما طفلا لاهيا وكان في الآخر إنسانا مسئولا.
فأما أولهما ففي الكتاب الذي أرسلنا إليه لنقضي بعض أشهر حتى يبدأ العام الدراسي في كلية غوردون، وفي الكتاب عرفت ما «الفلقة» وعذابها؛ فالكتاب كله غرفة واحدة لا أذكر أن لها نوافذ، يفتح بابها على سقيفة مفروشة بالحصير؛ ولذلك فهي - أعني السقيفة - مضيئة وللهواء فيها حركة، إذا قيست إلى الغرفة في ظلمتها وسكون هوائها، وتحت السقيفة كان يجلس الشيخ الدرديري - صاحب الكتاب والقائم فيه بالتعليم كله - وإلى جانب مقعده منضدة وطيئة عليها قلتان، وحدث ذات صباح أن وجدت المقعد خاليا من شيخه، ورأيت القلتين تلمعان بما يبلل سطحيهما من ماء، فأخرجت من جيبي قلما من أقلام «الكوبيا» وطفقت أخط به على القلتين، ولم أكن أتوقع أن أجد هذه المتعة كلها في التخطيط بالقلم «الكوبيا» على سطح مبتل، فانطلقت أرسم الأشكال وأكتب الأحرف، فتسيح الخطوط وتتشابك في زخرف جميل، وهنا «طب» الشيخ فجأة، فأخذته صاعقة لما رأى، وأمر فمدت «الفلقة» وربطت فيها قدماي، وطرحت على الأرض ظهرا، ورفعت القدمان مزمومتين في شقي الفلقة، والفلقة يحملها ولدان أمسكها كل منهما بطرف، والشيخ الدرديري يهوي علي بالسوط في غير رحمة كأنما نسي أنهما متصلتان بكائن حي، وعدت إلى البيت مورم القدمين؛ وغير هذا الحادث لا أذكر من هذا الكتاب شيئا، إلا أن زائرين كثيرين كانوا يزورونه، فإذا دخل الزائر انتفضنا وقفين واضعين أكفنا الصغيرة على جباهنا «تعظيم سلام»، مرددين في صوت عال بيتين حفظناهما لهذه المناسبات، أظنهما يجريان هكذا:
من نال العلم وذاكره
حسنت دنياه وآخرته
ناپیژندل شوی مخ