العجيب أني حينما أعود بالذاكرة إلى سني الطفولة الأولى، فسرعان ما اصطدم بشخصية أبي تملأ مسرح الحوادث، ولكن مهما حاولت فلا أعثر على صورة أمي عندئذ، فأين كانت؟ هل كانت من الخفاء والانطواء بحيث تنمحي من صفحة الذاكرة فلا يسمع لها صوت ولا يظهر لها أثر؟
والحق أن اختلاف الخصال كان بعيدا بين أبي وأمي؛ فهو منبسط لا يكاد يخفي من نفسه شيئا، وهي منطوية لا تكاد تظهر من نفسها شيئا، هو لا يخشى الناس ولا يفر منهم، وهي تخشاهم وتفر، هو حريص على إثبات وجوده، وهي أحرص على إنكار وجودها، هو لا يضحي بنفسه إلا قليلا، وهي تضحي بنفسها بحيث لا تبقي لنفسها إلا قليلا، يغلب عليه المرح الصاخب إلا في ساعات قليلة تراه قد سكن وكأنما هو غارق في فكر عميق، ويغلب عليها الهدوء الصامت في غير جهامة وعبوس، إلا في ساعات قليلة تراها قد أخذت تصبح زاعقة في هذا أو في هذه، كأنما تنفس عن طاقة مكبوتة، كلاهما يتعبد ويؤدي الشعائر كلها، لكني طالما أحسست أن تعبده موجات على السطح، وأما تعبدها فخفقات من القلب، يثور على الناس فتهدئه ملتمسة لهم الأعذار، حتى أطلق عليها أبي اسم «الهلباوي» مشيرا بهذا إلى نهوضها للدفاع دائما؛ وأما هي فإذا ثارت على أحد من الناس فإنه ينفخ لها في النار لتزداد اشتعالا ... نعم لقد كان اختلاف الخصال فيهما بعيد المدى، ولكن هل بلغ ما بينهما من حدة التباين أن حفظت ذاكرتي كثيرا عن أبي وأوشكت ألا تحفظ شيئا عن أمي؟ إنه مهما تكن حقيقة الأمر، فيقيني هو أني عن أبي أخذت الذكاء وعن أمي أخذت الخلق، عنه أخذت النفس القلقة الطامحة في عجز، وعنها أخذت الرغبة في الخفي عن قناعة ورضى، ومن مزج النقيضين وقع الصراع. ... التشاؤم والانطواء صفتان في حياتي بارزتان، فمن شأن المتشائم اعتقاده بأن نتائج الأشياء وأواخر الأحداث عبث كلها في عبث، اعتقاده بأن الحياة عملية معقدة من جمع وطرح وضرب وقسمة، فيها أعداد صحيحة وفيها كسور، وفيها ربح وفيها خسارة ، لكن الناتج النهائي صفر دائما؛ لأن الناتج النهائي عدم محتوم، إنه سيجيء اليوم الذي تبرد فيه الشمس، وعندئذ تتعادل حرارة الكون شمسا وأرضا، وعندئذ تكف الأرض عن دورانها ويسكن كل شيء في مكانه، فلا نماء ولا دثور، ولا حياة ولا موت، ولا ليل ولا نهار، ولا صيف ولا شتاء، ولا ريح ولا مطر؛ فأين عندئذ يكون فرد من الناس بكل ما قد بذل من جهود وما قد حقق من نجاح؟
وهكذا تراني أنظر إلى الأشياء وإلى الأحياء وإلى المواقف وإلى الحوادث، ولكنها نظرة لا تمنع عندي جهاد الحياة ولا تحول دون السعي نحو التقدم، بنفسي وبغيري عن الناس، برغم كوني أحس في أعماق نفسي أنه جهاد وأنه سعى تمليهما ضرورة الحياة ما دامت الحياة قائمة؛ وأما الحياة نفسها فهي - كما قال المعري - عبث، لكني لا أعجب - كما يعجب المعري - من راغب في ازدياد من ذلك العبث؛ لأني أعلم أن «الرغبات» شأنها شأن العقل في كونها من صميم الحياة ولبها؛ فليس من حق العقل أن تكون له وحده الكلمة فيما يعمل وما لا يعمل؛ لأن «للرغبة» اللاعقلية مجالها، وها هو ذا المعري قد أملى عليه عقله أن الحياة عبث كلها، وأنه إنما يعجب من راغب في ازدياد من ذلك العبث، فهل كف المعري نفسه عن «الرغبة» في الزيادة؟
على أن نظرتي المتشائمة هذه كثيرا ما تقتضيني أن أسارع إلى استحضار الضد الأسود أمام ذهني كلما مر بخاطري ضده الأبيض، وأمور أخرى؛ أنظر إلى المرأة الجميلة فأقول: ولكن جوفها يحمل العفن، وأنظر إلى الطير الصاعد فأقول: إنه لا بد بعد صعوده هابط؛ واختصارا فإني أنظر إلى كل إناء مليء إلى نصفه فأقول: لكنه كذلك فارغ في نصفه الآخر؛ وهي بغير شك نظرة معوقة لصاحبها في ركب الحياة، لكنها هي نظرتي.
وأما انطوائي فهيهات أن يرى منه الرائي بمقدار ما أحسه في باطني؛ لأن فيما يراه مني الرائي تكلفا وتصنعا قد يخفيان إلا على الخبير بطبائع الناس، إنني كلما عدت إلى داري بعد عمل اليوم أحسست - وأنا أغلق الباب من دوني - بنشوة العائد إلى مكمنه بعد أن تعرض لأهوال الغابة، ولست أعرف كيف يحس الأرنب المطارد حين يلوذ بجحره، ولكنني كلما عدت إلى داري بعد عمل اليوم، ارتسمت في ذهني صورة لأرنب راجف، عادت إليه الطمأنينة بعد أن لاذ بمأواه، إنني لأخاف الخروج من مكمني كما يخاف العليل برئتيه أن يعرض نفسه للفحة برد.
وقد أتشجع فأواجه الناس، لكنني وحدي أعلم الناس بما يرتجف من نفسي عندئذ؛ فمثل هذه الشجاعة الظاهرة كثيرا ما تكون خجلا معكوسا، قل إنه ضعف، وقل إنه مرض، لكن هو الواقع على حقيقته، ومرة أخرى أقول: إنها طبيعة معوقة لصاحبها عن السير السريع في ركب الحياة، لكنها هي طبيعتي.
ماذا تظنني أسرح إليه حين أسترسل في أحلام يقظتي، لا أقول مرة في الشهر، ولا مرة في الأسبوع، بل أقول مرة أو عدة مرات كل يوم؟ إنني في أحلام يقظتي أسرح باحثا عن مكان ملائم ألوذ به لأعيش هناك في عزلة الرهبان: هل أختبئ في غرفة من مكان مجهول على شاطئ البحر - لأني أضيق بالحر ضيقا شديدا؟ أو هل يكون مخبئي في موضع من الصحراء؟ ولكن أين؟ أيكون في دير من أديرة الرهبان النصارى، وهل يجوز يا ترى للمسلم أن يعيش مع رهبان المسيحية في أديرتهم دون أن يشاب إسلامه بشائبة؟ ... صور من هذا القبيل تتلاحق، وأظل في كل صورة منها أعيش مع الخيال برهة لأحس حسناتها وعيوبها قبل أن أنتقل إلى الصورة التي تليها، لكنها أحلام يقظة لا ألبث بعدها أن أمارس عملي كأنني مقبل على الحياة مع المقبلين.
إنه لا تناقض بين أن يميل المرء بوجدانه إلى شيء، وأن يخضعه بعد ذلك لتحليل العقل فلا يجده على ما كان الوجدان قد صوره، وعلى ذلك فلا تناقض بين أن أختار لنفسي - بالوجدان - أن أعيش منطويا على ذاتي، غاضا نظري عن الدنيا التي حولي، وبين أن أرى بعقلي بعدئذ أن دفعة الحياة تقتضي أن نخرج من ذواتنا إلى حيث الأشياء المادية المحسوسة، فكأنما أريد الحالة الوجدانية الأولى لنفسي، وأريد الحياة العقلية الثانية للناس.
ها أنا ذا أشهد الله والناس أني ما قرأت مرة عن المتصوفة في صدورهم عن عرض الحياة الدنيا، وفي ازدرائهم لشهوات الجسد وإشباعها، إلا ووجدت لهم في أغوار نفسي صدى عميقا، كأن هذه النفس قد أعدت وهيئت لمثل هذه الحياة العزوف، ومع ذلك فإني أتمنى أي شيء لقومي إلا أن يسود فيهم العزوف عن تيار الحياة الحسية المادية العملية العقلية العلمية، والتي تعنى كل العناية بتطبيقات العلوم على الزراعة والصناعة، وباصطناع القوة المادية في شتى مظاهرها؛ وهكذا ترى وجداني على هوى وعقلي على هوى آخر، ولا تناقض بينهما ما داما يجيئان على تعاقب. ••• ... إنني حتى الخامسة من عمري لم أكن - فيما تعيه الذاكرة - قد شعرت بأني عضو من أسرة، تربطني بأفرادها علاقات تختلف باختلاف مواقفي من أفرادها، فكلما تذكرت نفسي في الخامسة أو قبلها، تذكرت كيانا مستقلا بذاته، يرتبط بغيره من الأفراد ارتباطا خارجيا لا ارتباطا باطنيا.
أما حين أنتقل بالذاكرة إلى عامي السادس وعامي السابع، فإنني أتذكر على الفور أنني جزء من جماعة؛ فقد كان أبي قبل ذلك هو الشخص «الآخر» الوحيد الذي يكون مع وجودي محورا أدور حوله أو أسير بإزائه عن خوف أو عن رضا؛ أما الآن - في العام السادس وما بعده - فأمي قد أخذت تظهر بوضوح، وكذلك أخي، وكذلك عمي وامرأة عمي وأبناء عمي، وكذلك نفر من ذوي القربى كانوا يعاودون زيارة بيتنا زيارة تقصر حينا وتدوم عدة أيام حينا آخر.
ناپیژندل شوی مخ