من يلم بهذا التاريخ المختصر لحياة قاسم، يجده تاريخا عاديا غير مملوء بالعواصف التي تلازم عادة حياة كبار الرجال، فيستفيدون منها قوة وشجاعة، ويتعلمون من تجاربها ما يجعلهم يفوقون غيرهم في سلامة الحكم على الحوادث، ولكن على الرغم من ذلك، كانت نفسه بطبيعتها مستعدة لأن تتعلم وتكمل من الملاحظة الذاتية والتجارب، فإن قاسم قال:
أقل مراتب العلم ما تعلمه الإنسان من الكتب والأساتذة، وأعظمها ما تعلمه من تجاربه الشخصية في الأشياء والناس.
كان قاسم بك اجتماعيا لا كبقية الاجتماعيين الذين يجعلون أدمغتهم محافظ لآراء الغير، فإذا حضرتهم المناقشة، أو دعتهم الكتابة إلى موضوع اجتماعي، أخذوا يسردون عليك محفوظاتهم من المؤلفين السابقين من غير أن يكون لعقلهم في الموضوع نصيب من الرأي، لا، لم يكن كذلك أبدا، بل كان مفكرا بالأصالة، نقادا لا يستغني عن أفكار الغير، ولكنه لا يعتنقها إلا إذا اعتقدها، وصارت له بما قام في نفسه من الأدلة اليقينية.
بحث قاسم أمين في المسائل الاجتماعية على العموم، فكان رأيه فيها أنها خاضعة دائما للقوانين الطبيعية، قوانين التحليل والتركيب، والنمو التدريجي، والانتقال.
وبحث في المسألة الاجتماعية لمصر على الخصوص، فوجد أن حلها متوقف على نظام العائلة المصرية، ووجد أن المرأة هي الأساس الأول لبناء العائلة، فأخذ يفكر كيف يرقي المرأة المصرية، وأطال في ذلك التفكير، وأخذ يجمع قوته وعدته ليفك هذا الإنسان الضعيف من سلاسل الأسر التي قيدته بها العادة، وليهدم هذا السجن العميق الذي حبس الاستبداد في غيابته عقول نصف المصريين، وحجب ذلك الضوء الساطع، ضوء روح السيدة المصرية، عن أن ينتشر بين سمائها الصافية وأرضها المخصبة انتشارا يضيء للرجال طريق السعادة المنزلية، ويوصلهم من غير عناء إلى ذروة المجد والاستقلال.
أجل، ليفك أسر المرأة التي أوقعوها فيه باسم الدين، وما هو من الدين في شيء، فالدين أسمى مما يظنون، فكتب كتاب «تحرير المرأة»، ثم قفاه بكتاب «المرأة الجديدة»، كتبهما فهد ركن سجنها، وأضاء لها ظلمات الحياة المنزلية والزوجية، وجعلها تحس أنها أم الرجل لها احترامه، وأخته لها عطفه وحنانه، وزوجه لها منه محبة لذاتها واعتباره لمركزها، كما هدى إلى ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كتب فأجاد، ولم يخش منتقدا ولا لائما، ولم ينزله خوف الانتقاد عن فكرة من أفكاره ولا لفظ من ألفاظه؛ ذلك لأنه يعتقد اعتقادا كاملا بصحة ما كتب، ويغريه الانتقاد في حب البلاد بألا يعبأ بالانتقاص الذي وجه لشخصه، بل صيره متينا في رأيه ومكينا في اعتقاده مجاهرا به في كل يوم حتى ساعة وفاته.
أخذ قاسم على عاتقه حمل هذا العبء الثقيل، عبء السعي بالمرأة المصرية إلى نظام العائلة، وبنظام العائلة إلى الرقي الاجتماعي المنشود ، وبهذا الأخير إلى استقلال البلاد.
وقد كان يربأ بنفسه عن أن يكون حاله كحال أولئك الأذكياء المجازفين الذين إذا ضم أحدهم مجلس طرحت فيه فكرة أو مناقشة، انحدر انحدار السيل يفيض في القول صوابا أو خطأ من غير تدبر كأن معانيه وألفاظه لا قيمة لها في نظره يجود بها إسرافا وتبذيرا، فأما قاسم، فإن كل من عرفه أو سمعه يتكلم أول ما يخطر في باله أنه لم ينطق إلا عن روية وفكرة طويلة سابقة؛ شأن الرجل المتحرج في ذمته لا ينشر بين الناس إلا ما قام له الدليل الواضح على صحته.
وإن الذي يدرك معاني قاسم أمين، أو أغراضه، وتوجهه بكليته إلى العلم والفكر، ربما يظن أنه ككثير من العلماء والمفكرين فاتر الطبع، ساكن الأعصاب، كلا، لم يكن كذلك، بل كان ملتهبا في الدفاع عن دينه ووطنه، بل إن بينه وبين الباقين بونا بعيدا؛ فإنهم إذا حضرتهم هذه الوطنية انفعلوا، ولكنه إذا جاءته هو انفعل، وانفجر انفعاله على قلمه ولسانه.
ناپیژندل شوی مخ