وكان رحمه الله يقدر تلميذه «الشيخ محمد عبده»، وإذا ذكر اسمه في مجلسه أعرب عن احترامه له، وتقديره لذكائه وعلمه، وكان يعيب على المصريين تخاذلهم وتفرقتهم ونزاعهم وسط ما يلم بهم من الحوادث الجسام، ويردد قوله: «اتفق المصريون على ألا يتفقوا.»
وكان طيب الحديث، لطيف المعشر، حلو الفكاهة، وأذكر من حوادث مزاحه الطريف أنه قدم لي يوما سيجارة فدخنتها، فأعطاني الثانية، فاعتذرت، فقال لي: ألا ترى أن الإنسان منذ نشأته إلى الآن يأكل ويشرب ويلبس على خلاف في الصورة في العصور المتغيرة، ولكن الجوهر واحد، فما الذي جد عليه حتى علا نفسه في القرنين الأخيرين، فاستكشف البخار والكهرباء، إلخ، لا أظن أنه جد عليه شيء إلا شرب الدخان، اشرب يا ولدي، اشرب! (2) جمعية سرية لتحرير مصر
أتممت الدراسة سنة 1894 وحصلت على شهادة ليسانس الحقوق، فعينت في صيف ذلك العام أنا وجميع زملائي كتبة في النيابة بمرتب خمسة جنيهات في الشهر، وكان تعيينى في هذه الوظيفة لأول مرة بالقاهرة، ثم نقلت إلى الإسكندرية، فمكثت بها أشهرا، عينت بعدها سكرتيرا للأفوكاتو العمومي حسن باشا عاصم، ثم انتدبت معاونا للنيابة ببني سويف، وسرني ذلك؛ لأني وجدت بها صديقي عبد العزيز فهمي (باشا) وكيل النيابة وقتئذ، وفي سنة 1896 عينت وكيلا للنيابة بمرتب عشرة جنيهات، وكان صديقي عبد العزيز ما زال بها أيضا، فأقمنا معا في هذه المدينة، وكنا نفكر في حالة مصر، وما تعانيه من الاحتلال البريطاني، وفي ذلك العام أنشأنا جمعية سرية غرضها «تحرير مصر».
وكانت هذه الجمعية مؤلفة من: عبد العزيز فهمي، وأحمد طلعت رئيس النيابة (أحمد طلعت باشا فيما بعد)، وحامد رضوان وكيل النيابة، ومحمد بدر الدين وكيل النيابة، والدكتور عبد الحليم حلمي، وأنا، ثم ضممنا إليها علي بهجت بك، ومحمد عبد اللطيف الذي كان صيدليا بطنطا. (3) حزب وطني برياسة الخديو
وذات يوم كنت بالقاهرة بعد تأليف تلك الجمعية، فالتقيت بمصطفى كامل، فقال لي: «إن الخديو عباس يعلم كل شيء عن جمعيتكم السرية وأغراضها، وأظن أنه لا تنافي بينها وبين أن تشترك معنا في تأليف حزب وطني تحت رياسة الخديو.»
فأجبته: «لا مانع عندي من ذلك.» وأبلغ مصطفى الخديو هذا القبول، واستأذن لي في مقابلة سموه، وذهبت إليه، فتحدث معي سموه عن أغراض الحزب الذي يريد تأليفه، وطلب مني أن أسافر إلى سويسرا؛ لكي أكتسب الجنسية السويسرية، ثم أعود إلى مصر لأحرر جريدة تقاوم الاحتلال البريطاني، والسبب في اختيار سويسرا دون أية دولة، أن التجنس بجنسيتها قريب المنال لا يكلف الراغب فيه إلا إقامة سنة واحدة بها.
وكان الخديو عباس يظن وقتئذ أن فرنسا تستطيع أن تؤلب الدول على إنجلترا؛ لتجلو عن مصر، والذي أطمعه في ذلك زيارة «المسيو ديلونكل» النائب الفرنسي لسموه ووعده له بذلك.
وبعدما خرجت من مقابلة الخديو عباس، اجتمعت أنا ومصطفى كامل وبعض زملائنا في منزل محمد فريد، وألفنا الحزب الوطني كجمعية سرية رئيسها الخديو، وأعضاؤها: مصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعيد الشيمي ياور الخديو، ومحمد عثمان «والد أمين عثمان باشا»، ولبيب محرم (شقيق عثمان محرم باشا)، وأنا.
ومن طرائف ما يذكر عن هذا الحزب أن الخديو كان اسمه بيننا: «الشيخ» ومصطفى كامل «أبو الفداء»، وأنا «أبو مسلم»! (4) إقامتي في جنيف
سافرت بعد ذلك إلى جنيف لأكتسب الجنسية السويسرية حسب الاتفاق، وكان معي كتابان من علي بهجت بك إلى المستشرق «ماكس فان برشم» والأستاذ «نافيل» الأثري المعروف، فلما قابلت الأستاذ «ماكس» سهل لي استخراج جواز الإقامة، وأدخلني ندوة الفنانين، وكان مكلفا من الحكومة الفرنسية بجمع الآثار الإسلامية في مصر والشام ودراستها، ووضع مؤلف بها، فأخذت أقضي معه وقتا في مساعدته على استجلاء معاني النقوش العربية التي جمعها من الآثار، وأما المسيو نافيل الذي كان مشهورا بعلاقاته برجال السياسة في سويسرا وفي الخارج؛ فقد جاءني في الفندق بعد خمسة عشر يوما، وجرى بيني وبينه حديث طويل انتهى بقوله: لا تظن أن أوربا تساعدكم على إنجلترا، وأرى أن لا يحرر مصر إلا المصريون!
ناپیژندل شوی مخ