كانت قيادة الفكر عند الأمة اليونانية منذ القرن العاشر قبل ميلاد المسيح في أيدي الشعر والشعراء، وكانت السيادة فيه لهذا الخيال الرائع الذي تراه في الشعر، والذي يستهوي الأمة في مراحل الطفولة، فكانت قصائد هومر
Homer ،
2
وهزيود
Hesiod
3
شائعة ذائعة بين الناس يحفظونها وينشدونها، فلما كان القرن السادس قبل الميلاد حدث في الأمة اليونانية انقلاب خطير كان عظيم الأثر في شتى نواحي الحياة، وكان الطابع الذي وسم به ذلك الانقلاب هو حرية الفرد وظهور شخصيته، فقد بسط اليونان سلطانهم على البلاد المجاورة، واتسعت أملاكهم اتساعا عظيما، أدى إلى هجرة اليونان أفواجا إلى مستعمراتهم الجديدة، فخالطوا شعوبها ودرسوا ما لها من أخلاق وعادات تباين ما ألفوه في بلادهم، فوسع ذلك من أفقهم القصصي، واقترن ذلك التوسع في الاستعمار بانقلاب سياسي واجتماعي في بلاد اليونان نفسها؛ إذ بدأت سلطة الأشراف تتزعزع وتميل إلى السقوط، وساعد على ذلك نظام جديد اصطنعه اليونان في معاملتهم الاقتصادية، أعني نظام النقد الذي استبدلوه بنظام المقايضة أو تبادل السلع، ونشأ عن هذا التطور الاقتصادي طبقة جديدة موسرة، تنافس هؤلاء النبلاء الذين ورثوا ضياعهم عن آبائهم، وما هو إلا أن نشب بين الفريقين - النبلاء من ناحية، وباقي الشعب من ناحية أخرى - عراك حاد عنيف، انتهى بسيادة الطبقة الجديدة، فانتصرت الديمقراطية، واعتز أفراد الشعب بحريتهم التي ناضلوا من أجلها عصرا طويلا، وأخذوا يرقبون عن كثب شئون البلاد بأنفسهم.
وظهرت شخصية الفرد في الشعر كما ظهرت في السياسة، فقد كان الشعراء من قبل ينظمون القصائد دون أن ينفسوا عن مشاعرهم المكبوتة في صدورهم، فهذا «هومر» يقص عليك أقاصيص الأبطال وأساطير الآلهة مستقلة عن نفسه، فكان من أثر هذا الانقلاب أن ظهر عنصر جديد في الشعر أضيف إلى تلك الملاحم القديمة، هو الشعر الغنائي الذي هو أشد فنون الشعر اتصالا بالنفس، فتغير موقف الشاعر عما كان عليه من قبل، واتسع المجال أمامه لخلجات نفسه، وانفعالات حسه، بل أصبحت عواطف الشاعر هي المحور الذي تدور عليه القصيدة الغنائية كلها، وبهذا ظهرت شخصيته ظهورا لا تخطئه الأبصار والأسماع.
ولم ينج الدين عند اليونان من هذه الغزوة الفردية، فقلبت بعض أوضاعه القديمة، وأزيح من الطريق كل ما يحول بين الشخص وآلهته، فأصبح اتصاله بها مباشرا، لا يحتاج إلى وساطة الوسطاء.
انقلاب في الاجتماع، وانقلاب في الاقتصاد، وانقلاب في الفن، وانقلاب في الدين، أدى كله إلى ظهور الشخصية الفردية، وانتقل بالإنسان خطوة فكرية جديدة جريئة، من رواية الأساطير وقصص القصص إلى العلم والتفكير، ولم يعد يطمئن إلى تقديس الكون وعبادة ظواهره، فأخذ يبحث عن عللها وأسبابها لكي يرضي منطقه الجديد المستقيم، وهو إلا يكن قد بلغ في ذلك أول الأمر مبلغا كبيرا، فقد جمع لنفسه طائفة قيمة من المعلومات الصحيحة، كانت ينبوعا تفجرت منه الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد. (3) معنى الفلسفة
ناپیژندل شوی مخ