وقد فند أرسطو نظرية المثل بما سماه «الإنسان الثالث»، ذلك أن المثال يشرح القدر المشترك بين الأشياء، فكلما كان هناك قدر مشترك كان هناك مثال، فهناك قدر مشترك بين الناس كلهم؛ لذلك كان لهم مثال هو مثال الإنسان، ولكن هناك قدر مشترك بين الفرد من الناس وبين مثال الإنسان، فيجب أن يكون لذلك مثال يشرحه، وهذا هو ما سماه «الإنسان الثالث»، وهناك كذلك قدر مشترك بين هذا الإنسان الثالث والفرد من الناس، فيجب أن يكون له كذلك مثال، وهكذا إلى ما لا نهاية، وفي هذا التسلسل، وهو محال. (6)
وأخيرا وهو أهم اعتراضات أرسطو أن المثل على رأي أفلاطون ماهية الأشياء، وماهية الأشياء يجب أن تكون فيها لا خارجا عنها، ولكن أفلاطون فصل المثل عن الأشياء وجعلها عالما مستقلا، وجعل لكل مثال وجودا مستقلا ... إلخ.
وانتقل بعد ذلك أرسطو إلى بيان أن الحقائق الكلية كالعدل والحرارة والبرودة وحقيقة الإنسان ليس لها وجود خارجي، وإنما الموجود في الخارج هو المفردات كالشيء الحار والشيء البارد، والإنسان، أعني أفراده، أما الحقائق الكلية فليس لها وجود إلا في أذهاننا، فمثلا حقيقة الإنسان هو القدر المشترك بين الناس كلهم، وهو الذي نسميه الإنسانية، والإنسانية لا توجد مستقلة وحدها إنما توجد في الأفراد، كالحرارة توجد في الحار، والبرودة في البارد وهكذا، وهذه الإنسانية لا بد أن تتحقق في كل فرد ليكون إنسانا، وإذا سلبت منه لم يبق إنسانا، وليس بضروري ما ذهب إليه أفلاطون من أن كل ما نتصوره لا بد أن يكون له صورة موجودة قائمة في نفسها في الخارج، فإننا قد نتصور ما ليس له وجود خارجي، كجبل من ياقوت وبحر من زئبق ونحو ذلك، وله في شرح ذلك والبرهنة عليه كلام لا يحتمله هذا المختصر.
ومن أهم الأسس التي بنى عليها أرسطو كلامه فيما بعد الطبيعة كلامه في «العلة» والعلة في نظره أوسع منها في نظر الفلاسفة المحدثين، ففي العصر الحديث يفرق بين العلة والحكمة، فهم يقصدون بالعلة السبب الميكانيكي الذي نشأ عنه الشيء، فإذا رأيت الماء تثلج في الإناء وقلت ما علة تثلجه؟ فالجواب أن علة ذلك هي البرودة، فهذا الجواب أبان لنا السبب الذي نشأ عنه التثلج، ولكن لم يبين لنا حكمة حصوله، وإذا قلنا ما علة موت فلان؟ فإذا قلت مرضه أو حصول حادث له فقد بينت السبب في موته، ولكن لم تبين الحكمة التي من أجلها كان الموت في هذا العالم، فبيان العلة لا يستلزم بيان الحكمة، هذا في نظر الفلسفة الحديثة، أما العلة في كلام أرسطو فتشمل ما يسمى الآن بالعلة والحكمة جميعا، قال أرسطو في هذا: إن للعلة أربعة أنواع: العلة المادية، والعلة المحركة، والعلة الصورية ، والعلة الغائية، وليست هذه العلل تتعاقب، فيوجد بعضها بعد بعض، أو يوجد بعضها في حالة وبعضها في حالة أخرى، ولكنها جميعا تعمل معا في كل حالة من حالات الوجود، وهي جميعها موجودة في كل ما ينتجه الإنسان وما تنتجه الطبيعة، ولنضرب المثل بما ينتجه الإنسان: (1)
فالعلة المادية لشيء هي المادة التي يتكون منها الشيء، كالبرنز للتمثال، والخشب للشباك وهكذا. (2)
وأما العلة المحركة فيعني بها القوة التي عملت على تغيير الشيء واتخاذه شكلا جديدا، وليس يعني بالحركة التحول من مكان إلى مكان بل كل تحول وتغير، فإذا تغير ورق الشجر من أخضر إلى أصفر فالقوة التي نشأ عنها هذا التغير هي القوة المحركة، ففي مثل التمثال السابق العلة المحركة هي المثال (صانع التمثال)؛ لأنه هو علة تغيير البرنز من حال إلى حال. (3)
والعلة الصورية عرفها أرسطو بأنها روح الشيء وما به الشيء هو هو، وفي مثلنا هذا ما به التمثال تمثالا. (4)
والعلة الغائية هي الغرض أو الغاية أو المقصد الذي تتجه الحركة لإخراجه، فالعلة الغائية للتمثال هو التمثال نفسه؛ لأنه غاية المثال وغرضه.
فترى من هذا أن أرسطو يطلق العلة على أوسع مما يطلقه الفلاسفة المحدثون (فهم يخرجون منها ما سماه أرسطو العلة الغائية والعلة الصورية)، فقد عرف «ميل»
Mill
ناپیژندل شوی مخ