بل إن الجسم نفسه لثمرة أنتجتها الإرادة، فالدم الذي تدفعه تلك الإرادة التي نسميها - على وجه التقريب - بالحياة، يبني أوعيته التي يجري فيها بأن يشق لنفسه قنوات في الجنين، ثم تزداد تلك القنوات تعمقا، ثم تصبح بعد عروقا وشرايين. وإرادة الإنسان أن يعلم تبني المخ، كما أن إرادته أن يقبض على الأشياء تكون الأيدي، وإرادة أن يأكل تهذب الجهاز الهضمي، وليس هذا الازدواج؛ صورة الإرادة من ناحية، والصورة الجسدية من ناحية أخرى إلا جانبين لعملية واحدة، ولعل أوضح ما تتضح فيه العلاقة بين الإرادة والجسد هي العواطف، حيث ترى الشعور المعين يتبعه تغيرات بدنية معينة، وهذه وتلك تكونان كلا واحدا مركبا. «إن عمل الإرادة وحركة الجسم ليسا شيئين مختلفين تفرق بينهما تفرقة موضوعية، ويتحد أحدهما بالآخر برباط السببية، أي أن ما بينهما من صلة هي صلة العلة بمعلولها. بل هما شيء واحد، ولو أنهما يحدثان بطرق مختلفة أتم الخلاف ... إن عمل الجسيم ليس إلا عمل الإرادة مجسدا، وهذا صحيح في كل حركة من حركات الجسم ... فليس الجسم كله إلا إرادة تجسدت ... فيجب لذلك أن تقابل أجزاء الجسم الرغبات الرئيسية التي تتجلى فيها الإرادة تقابلا تاما، فلا بد أن تكون تلك الأجزاء هي التعبير المرئي لهذه الرغبات، فالأسنان والحلق والأمعاء هي الجوع قد تجسد، وأعضاء التناسل هي الرغبة الجنسية قد تجسدت ... ويكون الجهاز العصبي في جملته أداة الحس التي تشعر بها الإرادة فتمدها لتتحسس بها في الداخل وفي الخارج ... وكما أن الجنس الإنساني بصفة عامة يقابل الإرادة الإنسانية بصفة عامة، فإن البنية الجسدية للفرد تقابل إرادة الفرد، أي شخصيته.»
ومما يفرق بين العقل والإرادة أن الأول يتعب، أما الثانية فلا تعرف للتعب معنى، فالعقل يحتاج إلى النوم، أما الإرادة فتواصل نشاطها حتى في حالة النوم، والتعب - كالألم - له مركز خاص في المخ، ولذا فالعضلات التي لا تتصل بالمخ - كالقلب مثلا - لا تتعب مطلقا، والمخ يغذيه النوم، أما الإرادة فلا تحتاج إلى تغذية، ومن هنا رأينا الحاجة إلى النوم تشتد عند الذين يعملون بعقولهم، ومما يلاحظ أن حياة الإنسان في النوم تهبط إلى المستوى النباتي، وحينئذ تعمل الإرادة وفق طبيعتها الأصلية الجوهرية، فلا يعوقها عائق من الخارج، ولا تحد من قوتها فاعلية المخ وما تبذله من مجهود في سبيل المعرفة، وهي أثقل الوظائف العضوية ... ولذلك فكل قوة الإرادة تتوجه أثناء النوم نحو الاحتفاظ بالجهاز العضوي وتحسينه، ومن هنا أمكن للجسم أن يستعيض عن كل ما فقده بما يسترده في نومه. ولقد أصاب «برداخ»
Burdach
إذ قرر أن النوم هو الحالة الطبيعية، فالجنين يكاد ينام نوما متصلا، والرضيع ينام الشطر الأعظم من يومه، وهل الحياة إلا جهاد ضد النوم؟ «فالنوم قطعة من الموت استعرناها؛ لنستعين بها على تجديد ما استهلكه عمل النهار من حياة.» إن النوم هو عدونا الأبدي، وإنه ليتملكنا بعض الشيء حتى في يقظتنا.
الإرادة إذن هي جوهر الإنسان، فماذا يمنع أن تكون جوهر الحياة في كل صورها، بل ماذا يمنع أن تكون جوهر الجماد؟ لم لا تكون الإرادة هي «الشيء في ذاته» الذي طالما بحثنا عنه، وطالما يئسنا من الوصول إليه؟ ألا إن الإرادة هي الحقيقة النهائية، وهي كنه الأشياء الخفي.
إذن فلنحاول أن نفسر مظاهر العالم الخارجي بالإرادة، ولنضرب من فورنا إلى أعماق الموضوع فنرفض ما قاله السابقون من أن الإرادة ضرب من القوة، ونزعم أن القوة هي صورة من صور الإرادة، فإذا ألقي علينا سؤال «هيوم»: ما هي السببية؟ أجبنا: إنها الإرادة، فكما أن الإرادة هي العلة العامة التي توجه أنفسنا، فهي كذلك علة الأشياء، وما لم نفهم العلة على أنها إرادة، فسنظل نردد ألفاظا غامضة «كالقوة» «الجاذبية» وما إليهما، فنحن لا نعلم ما هذه القوى، ولكننا نعلم - ولو إلى حد ما - ما هي الإرادة؟ فلماذا لا نقول إن الطرد والجذب، والكون والفساد، والمغناطيسية والكهرباء، هي إرادة؟ ولقد أشار «جوته» إلى هذه الفكرة في عنوان إحدى قصصه إذ سمى تجاذب الحبيبين الذي لا مندوحة عنه «بالتشابه الانتخابي»، ولعله يريد أن القوة التي تجذب المحب إلى حبيبه هي هي القوة التي تجذب كوكبا إلى كوكب.
هذا وإنا لنلاحظ في حياة النبات أننا كلما هبطنا إلى أسفل صور الحياة صغر الدور الذي يلعبه العقل، ولكن الإرادة تظل هي هي «إن ما فينا من إرادة تتابع أغراضها في ضوء المعرفة، ولكن الإرادة هنا (أي في النبات) ... تكافح كفاحا أعمى وأبكم على صورة محدودة لا تتغير ... إن اللاشعور هو الحالة الأولية والطبيعية لسائر الأشياء، ولذا فهو الأساس الذي تفرع عنه الشعور - وبخاصة في الأحياء - كجوهرها الأسمى، ولكن اللاشعور تظل له السيطرة حتى في الكائنات ذوات الشعور. وعلى ذلك فمعظم الموجودات تعمل بلا شعور، ولكنها تسير تبعا لقوانين طبيعتها أعني إرادتها. فالنباتات ليس لها من الإدراك الشعوري إلا ما يشبه الإدراك شبها غاية في الضعف، وليس لأحوط أنواع الحيوان إلا بصيص من الإدراك فقط، وحتى بعد أن يصعد الشعور مجتازا مراحل الحيوان إلى أن يصل إلى عقل الإنسان، فإن اللاشعور الذي رأيته في النبات الذي بدأ منه الشعور يظل هو الأساس، ويمكننا أن نلمس وجوده في ضرورة النوم.»
إن المهارة الآلية العجيبة التي نشاهدها في الحيوان لتبين لنا في جلاء كيف أن الإرادة أسبق من العقل. ألم تر إلى ذلك الفيل الذي سيق إلى القارة الأوروبية، والذي عبر في رحلته تلك مئات من الجسور (الكباري) كيف أبى أن يعبر على جسر ضعيف على الرغم من أنه رأى كثيرا من الجياد والناس يعبرونه، ثم ألا ترى كيف يحجم الجرو الصغير عن القفز من المائدة؛ لأنه يخشى عواقب تلك القفزة، وهو لا يخشاها بناء على البرهان العقلي (لأنه لم يسبق له تجربة من هذا النوع حتى يتسنى له الحكم) إنما هو يحجم بغريزته، بل انظر إلى قرود «الأورانج أوتانج» كيف تسعى إلى النار لتصطليها، ولكنها يستحيل أن تخطئ فتحاول أكلها، فليس هناك سبيل إلى الشك في أن هذه الأمثلة وأضرابها غريزة وليست نتيجة لمنطق، إنها أعمال الإرادة لا العقل.
هذه الإرادة التي طال حديثنا عنها هي إرادة الحياة - أعني الحد الأقصى من الحياة - وليست تقتصر هذه الإرادة للحياة على كائن دون آخر، بل كلها يريدها ويسترخص كل شيء في سبيلها، انظر إلى حبة القمح كيف تحتفظ بقوة الحياة الكامنة فيها ثلاثة آلاف من السنين، حتى إذا ما ظفرت بالظروف الملائمة للنمو ترعرعت نباتا، بل فكر في هذه الضفادع الأحياء التي وجدت في ثنايا حجر الجير، والتي لبثت في مخبئها ذاك عدة آلاف من السنين ترقب العودة إلى الحياة في صبر جميل، نعم إنها إرادة الحياة هي التي تسيطر على الكائنات كلها، وأما عدوها الأبدي فهو الموت.
أفلا تستطيع أن تهزم الموت؟ (ب)
ناپیژندل شوی مخ