ولكي تكون إنسانا أعلى لا ينبغي أن تتحرر من قيود المجتمع ونظامه، بل إن سمو الإنسانية في التحرر من تحكم الغرائز، وبهذا وحده يكمل الرجل الحكيم. وإن من يحيا حياة الفضيلة مسترشدا بحكم العقل تراه حين يلتمس ما ينفعه يراعي أن يكون ذلك نافعا للبشر أيضا؛ لأنه لا يرى خيرا لشخصه إلا فيما يعود بالخير على البشر جميعا، وإن أردت أن تكون عظيما فلا تحاول أن تضع نفسك فوق أعناق الناس لتحكمهم، بل حسبك أن تدفع عن نفسك شرور شهواتك العمياء، فالعظمة الحقة في حكمك لنفسك أنت.
وحكم الإنسان لنفسه هو أسمى ما ينشد من حرية، وهي حرية أرفع وأنبل مما يطلق عليه الناس اسم «الإرادة الحرة»، فليست الإرادة حرة بأي معنى من معاني الحرية، ولا يقولن أحد إنه ما دام مغلولا مقيدا لا يتمتع بحرية إرادة، فليس مسئولا عن أعماله وسلوكه من الوجهة الأخلاقية.
وليس في تقييد إرادة الإنسان ما يهبط بأخلاقه، بل إن ذلك ليسمو بها إلى مستوى رفيع؛ لأنه يعلم الإنسان ألا يحقر أحدا أو يسخر من أحد، وألا يغضب أو يحقد على أحد؛ إذ الناس في الواقع برآء مما يقترفون من آثام؛ لأنهم لا يعرفون ما يفعلون. وهنا يطالبنا «سبينوزا» ألا نصب الغضب على المجرمين، فإن أنزلنا بهم العقاب لسلامة المجتمع، فينبغي أن يكون مشوبا بروح العطف والتسامح. هذا وإن عقيدتنا بالجبر تقوي عزائمنا، وتشد من أزرنا إذا ما كشرت لنا الأيام عن أنيابها؛ لأننا سنعلم أن ما يأتي به الدهر نتيجة لازمة لقانون الكون، إن خيرا وإن شرا، فيكفي أن نعلم في يقين ثابت أن كل شيء في العالم إنما يقع بأوامر الله الخالدة التي لا تغير ولا تبدل؛ لكي نغتبط ونرضى عن كل ما نصادفه في الحياة، ومم تتألم وتشكو ما دمت تدرك أن ما تلقاه من حظ عاثر لم يجئ اعتباطا ولا مصادفة، بل هو جزء من بناء الكون المحكم، ولا بد منه لكي يتم الانسجام والاتساق. وهكذا يعلمنا جبر الإرادة أن الأشياء والأحداث كلها أجزاء من نظام خالد، وأنه يجب أن نبتسم للأيام على أية حال، إذ لا بد مما ليس منه بد، وفي ذلك يقول نيتشه: «إن ما هو ضروري لا يضرني، فإن حب القدر لباب طبيعتي.» كذلك تعلمنا هذه الفلسفة الجبرية ألا نبتئس بالموت، بل «إن أقل ما يفكر فيه الرجل الحي هو الموت.» (د)
الدين والخلود:
هكذا كان «سبينوزا» يبشر في فلسفته بحب العالم الذي كان هو فيه منبوذا طريدا، فقد خفف من ألم عزلته أنه جزء من كل، وأنه لا شك خاضع للقانون الشامل الثابت الذي يسير الكون كله تبعا له، وباعتبار الإنسان جزءا من هذا الكل فهو خالد؛ لأنه «يستحيل أن ينمحي العقل البشري انمحاء تاما مع الجسم البشري، بل إن هناك جزءا منه سيظل خالدا.» وهذا الجزء الخالد هو الذي يدرك الأشياء كأجزاء من الكل الخالد، وكلما أمعن الإنسان في إدراكها على هذا النحو، ازداد فكره أبدية وخلودا. وهنا يختلف الشراح في تفسير ما يقصده «سبينوزا» من معنى الخلود، فيذهب بعضهم إلى أنه يريد به الشهرة أو الذكر أو الأثر، أي أن جانب الفكر والعقل من حياتنا سيبقى بعد موتنا، ويظل أثره فعالا في الأجيال المقبلة، ويزعم بعض آخر أن سبينوزا إنما يعني خلودا فرديا شخصيا. هذا وسبينوزا ينكر العقاب والثواب، فهو يقول: «إن الذين ينظرون إلى الفضيلة كأنها إذلال للنفس، ثم ينتظرون أن يجزيهم الله عنها جزاء أوفى لأبعد ما يكونون عن فهم الفضيلة فهما صحيحا، أفليست الفضيلة وخدمة الله هما السعادة نفسها والحرية العليا؟» «ليس النعيم في الثواب عن الفضيلة، ولكنه في الفضيلة نفسها.»
وبهذه العبارة ينتهي كتاب «الأخلاق» الذي حوى من غزير الفكر ما يحمل كل قارئ أن يطأطئ الرأس إجلالا لهذا السفر النادر بين ما أنتج البشر. (4)
الرسالة السياسية:
لم يبق لدينا الآن من كتب «سبينوزا» إلا رسالته في السياسة التي كتبها في أعوامه الأخيرة، والتي عجل به الموت دون أن يفرغ منها، وهذه الرسالة على صغرها ملأى بالفكر العميق، حتى إن قارئها ليأسف عند تلاوتها أن لم تمهل المنية ذلك الفيلسوف حتى يتمم هذا الكتاب الجليل، لا سيما أنه كان قد بلغ من نضوج الفكر أتمه وأسماه.
كان «سبينوزا» يكتب رسالته السياسية التي يدافع بها عن الديمقراطية في نفس العصر الذي كان فيه «هوبز» يمجد الملكية المطلقة في إنجلترا، ويقاوم ثورة الشعب الإنجليزي على مليكه، وقد جاءت فلسفة «سبينوزا» السياسية من القوة، بحيث أصبحت ينبوعا دافقا ظلت تستقي منه الحركة الديمقراطية حتى بلغت أوجها على يدي «روسو» ورجال الثورة الفرنسية.
يذهب «سبينوزا» إلى أن الناس كانوا قبل نشأة المجتمع يعيشون فوضى لا ينتظمهم قانون، ولا يسودهم نظام، وكانت القوة عندهم هي الحق، فمن استطاع أن يظفر بشيء فهو حق له ، وإذن فلم تكن لديهم فكرة الصواب والخطأ أو العدل والظلم «ولا يمكن لشيء في الحالة الطبيعية أن يسمى خيرا أو شرا؛ لأن كل إنسان في تلك الحالة لا ينظر إلا إلى مصلحته، ولا يكون مسئولا أمام أحد غير نفسه، ولا يحده قانون، وإذن فيستحيل أن تنشأ فكرة الخطيئة في الحالة الطبيعية؛ لأنها فكرة لا تكون إلا في الحياة المدنية، حيث يتقرر بإجماع الرأي ما هو الخير وما هو الشر، وحيث يكون الفرد مسئولا أمام الدولة.»
ناپیژندل شوی مخ