بقيت بلاد العرب آمنة مطمئنة لها عرين، ولا يباح حماها، عندما كانت جيوش الإسكندر الأكبر تغير على الإمبراطوريات الشرقية القديمة؛ فلزم سكان شبه الجزيرة العربية صحراءهم في عزلة وأنفة، لا يبعثون إلى الفاتح العظيم رسلا، ولا يقدمون إليه طاعة ولا خضوعا، وعقد الإسكندر العزيمة على إذلال هؤلاء العرب المستكبرين، وأخذ الأهبة لغزوهم ووطئهم تحت قدميه، وما كاد يهم بذلك حتى أدركته المنية،
1
فحالت دون أمنيته، وبقي العرب أعزاء لا يغلبون.
كان ذلك قبل السيد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، والعرب من ذلك الحين وقبله أعزاء مستقلون بصحرائهم الواسعة، لا يخضعون لسطوة فاتح جبار، وقد مر بهم زهاء ألف سنة في هذه العزلة الهادئة التي قل أن يكون لها مثيل بين بقاع الأرض، وقامت من حولهم إمبراطوريات جديدة، فأنشأ خلفاء الإسكندر المملكة السورية، وكان بها السلاسدة (the Seleucids)
وأبناء الأسرة المصرية من البطالسة، وتوج أغسطوس إمبراطورا لرومة، وأصبح قسطنطين أول إمبراطور مسيحي لبيزنطة، وخضع حشود البربر لإمبراطورية القياصرة البعيدة الأطراف واندمجوا فيها، كل ذلك والعرب متحصنون بشبه جزيرتهم، لا يزعزع لهم أمن، ولا يطرقهم طارق، ولا يحاول غزوهم فاتح، وإذا دانت بعض مشارف بلادهم وثغورها بشيء من الطاعة أحيانا لأكاسرة الفرس وقياصرة الروم، وجاست بعض الفرق الرومانية بين الحين والحين خلال بعض مفاوزها، فإن شيئا من ذلك كان ضئيلا متقطعا، لم يمس استقلال البلاد ولم ينل من عزتها.
وهكذا ربض العرب في جزيرتهم لا تزعجهم صائحة، وطفقوا وقد أحاطت بهم الممالك الضاربة الظامئة إلى الغزو والفتوح، وادعين بصحرائهم، مستلئمين بشجاعتهم التي لا تقهر، وبقي لذلك تاريخ العرب مغمورا منذ أزمان بعيدة في القدم إلى القرن السابع الميلادي، فلم يعرف عنهم إلا أن لهم وجودا، وإلا أن أحدا من الغزاة لم يحاول غزوهم، إلا قعدت به الوساوس وساوره خوف الهزيمة، ثم حدث فجاءة في أخلاق العرب تطور جديد، فلم يعودوا يرغبون في العزلة كما كانوا، بل انطلقوا يجابهون الدنيا، وأخذوا في جد وحزم يحاولون غزو العالم.
نشأ هذا التطور من عزيمة رجل واحد هو محمد بن عبد الله، فإن هذا النبي العربي شرع في طليعة القرن السابع ينشر الإسلام، فلقيت دعوته آذانا واعية، وعظم تأثيرها في قلوب العرب، فأثارت في طبائعهم وأخلاقهم ثورة عنيفة شاملة، وكان ما يدعو إليه محمد سهلا حنيفا، قريبا إلى النفوس، يتفق مع شريعة اليهود التي كان لها أحبار بالجزيرة، وقد أبطل كثيرا من الأحكام والعادات، وأضاف أحكاما جديدة كان العرب في حاجة إليها، ودعا إلى الوحدانية، فكان ذلك فتحا جديدا بين قوم مردوا على عبادة الأوثان.
ويصعب علينا في هذه الأيام أن ندرك التأثير الشديد الذي بعثه هذا الدين الهادئ في قلوب العرب، ولكننا نعرف أن هذا التطور الديني قد تم فعلا، وأن للأنبياء الصادقين دائما قوة غريبة في اجتذاب النفوس، ولقد كان محمد حين دعا قومه صادقا، ولقد بلغ دينه الذي يراه الدين الحق أمينا مثابرا، ولقد كان في الدين من السمو، وفي النبي وأصحابه من الرغبة الحافزة في نشره ما أثار موجة ملكت على العرب شعورهم، وأجج في نفوسهم جذوة يسميها الناس اليوم بالتعصب الديني.
وكان العرب قبل بعثة محمد أشتاتا من شعوب وقبائل متطاحنة، تتنافس في الشجاعة الوحشية، والكرم والبطولة، وتعيش من الغارات وانتهاب الغنائم، فحولهم النبي في طرفة عين إلى قوم مسلمين، وملأ قلوبهم بحماسة الشهداء، ووصل حبهم الفطري للدنيا والمغانم بطموح نبيل هو تبليغ الدين إلى الناس كافة.
خضعت جزيرة العرب كلها لمحمد قبل أن يلاقي ربه، وانتشرت القبائل التي وحد كلمتها في الممالك المجاورة للجزيرة، وألقى أهلها لهم القياد دهشين مشدوهين، ثم اكتسحت جيوش خلفائه بلاد الفرس، ومصر، وشمال إفريقية، حتى بلغوا منه المكان المعروف بأعمدة هرقل، وردد المؤذنون أذانهم من وراء نهر جيحون بآسيا الوسطى إلى شواطئ المحيط الأطلنطي.
ناپیژندل شوی مخ