لقد كانوا رجال سيف ليس غير، وطالما دفعهم الفقر وحفزتهم الحاجة إلى خدمة أي إنسان كيفما كان، فكانوا يبيعون شجاعتهم لمن يدفع أغلى ثمن؛ لأنهم يحاربون ليعيشوا، وتاريخ القرن الحادي عشر لإسبانيا مملوء بالوقائع التي حارب فيها أبطال النصارى تحت راية المسلمين، ولكن ليس بين هؤلاء الأبطال من نال شهرة السيد بطل إسبانيا.
هذا السيد هو لذريق البيفاري، وقد سماه أتباعه من العرب بالسيد، وكان من أسمائه أيضا الكمبيدور ومعناها: البطل، أو المبارز المتحدي؛ لأن شجاعته الفائقة في الحروب جعلته المبارز المشهود له بالسبق في المبارزات التي كانت تسبق التحام الجيشين.
ولم يكن أحد أبعد شهرة وأكثر انتصارا في المبارزات من لذريق، أو سيدي القنبطور «كما كان يحلو لأحد قدامى المؤرخين أن يدعوه»، ومن السهل الهين أن نميز الصحيح مما شاع من الروايات عن ضروب شجاعة السيد وإقدامه التي امتلأ بها تاريخه العجيب.
وأكثر ما حبب السيد إلى نفوس القشتاليين، عزوفه عن طاعة الملك ألفونسو وإن عد ذلك مدون سيرته عيبا يحط من بطولته، فإن صاحب هذه السيرة أو المعين على جمعها وهو ألفونسو العالم لم يستطع أن يتجاوز عن صلف السيد وتحديه لسلفه ألفونسو السادس؛ لذلك نلحظ في ترجمة سوذي
1
لسيرة السيد - وهي غنية باستشهادات كثيرة من قصيدة السيد وغيرها - وقوفا مقصودا عن الاسترسال في الإطراء، وكبحا فجائيا لجماح الأناشيد والقصص الموغلة في الملق والمديح، وبهذه السيرة إسهاب كثير فيما لا يشرف السيد ، أو يربأ به عن المذمة، غير أنها تصور أخلاق البطولة الحقة بما فيها من خير وشر، وتعرض صورة شائقة عجيبة لهذا العصر المضطرب، ومثالا رائعا لهذا الفارس المعلم بين الفرسان الإسبانيين.
ولو قصدنا إلى سرد قصة السيد كاملة لملأنا بها مجلدا ضخما؛ لذلك نرى من الخير أن نقصر عنان القلم على اقتطاف بعض فقرات من سيرته.
ولسنا نعلم شيئا عن بطلنا في أيام صباه، والذي نعلمه عنه أن أول ورود لاسمه في التاريخ كان في سنة 1064 حينما فاز بلقب المبارز لانتصاره في مبارزة على أحد فرسان نافار، وأنه عين إثر ذلك قائدا لجنود قشتالة، وكان فوق العشرين بقليل، ثم نعلم أنه ساعد سانشو أمير قشتالة على قهر أخيه بمفاجأة فيها كثير من معاني الغدر والخيانة، وإن عدت من الحيل الحربية في هذا الزمن الجافي الخشن، وبعد أن قتل بليدو سانشو عند أسوار زمورة لحق السيد بخدمة خلفه، وهو ألفونسو نفسه الذي كان السيد سببا في نفيه بعد انتصار أخيه سانشو عليه، وقد أحسن ألفونسو أول الأمر لقاء فارس قشتالة المظفر في قصره، وزوجه بنت عمه، ولكن حساد السيد ملئوا صدر ألفونسو بالسخائم والحقد عليه، ولم يكن منه سليم دواعي الصدر، فنفاه من مملكته سنة 1081م/474ه، وتقص علينا سيرته ما أصابه بعد ذلك فتقول: «وبعث السيد إلى أصحابه وأقاربه وخدمه، وأخبرهم بما آل إليه حاله، وما كان من أمر الملك بنفيه، ثم سأل عمن يريد منهم أن يتبعه في منفاه، وعمن يريد منهم أن يقيم، فاتجه إليه الڨارڨانز «البرهانس» وهو من أبناء عمومته، قائلا: «إننا أيها السيد سنتبعك جميعا حيثما ذهبت، ولن نخفر لك عهدا، إننا سنسير معك في البدو وفي الحضر، وسنبذل في خدمتك بغالنا، وخيولنا، وأموالنا، وثيابنا إن شئت، وسنبقى لك أوفاء مخلصين مدى الحياة.» وأيد جميعهم مقالة الڨارڨانز فشكر لهم السيد عطفهم ومحبتهم ثم قال: إن الفلك يدور، وإن الأيام قد تمكنه من توفية جزائهم.
وعند رحيله أخذ يتلفت إلى داره فغلبه الدمع وصاح: هذا من عمل أعدائي، فالحمد لله على السراء والضراء، وزاد من شجونه أن رأى بهوه قفرا، وصناديقه مبعثرة، وأبوابه مفتحة، ومشاجبه ملقاة على الأرض، ومقاعد فناء الدار وقد رفعت، والقصور التي كانت تعلو قممها وقد طارت، ثم اتجه إلى الشرق وسجد وهو يتمتم: مريم، مريم، أيتها الأم المقدسة، ويا أيها القديسون جميعا، توسلوا إلى ربي أن يهب لي القوة لاستئصال الوثنيين، وأن يمنحني من غنائمهم ما يقدرني على مكافأة إخواني هؤلاء، ومكافأة كل من يتبعني ويعينني، ثم دعا الڨارڨانز؛ وقال له: يا ابن العم، إن الأمة المسكينة لم يكن لها يد فيما رزأنا به الملك، فاعمل على ألا يصاب أحد منها بسوء في أثناء الطريق، ثم دعا بفرسه، وكانت امرأة عجوز واقفة عند باب دارها، فمذ رأته أجهشت بالبكاء وقالت: ارحل على الطائر الميمون أيها السيد، وانهب من الغنائم ما شئت، وبعد سماع هذه الوصية الغالية، ركب جواده وقال: أيها الأصدقاء إننا سنعود بمشيئة الله إلى قشتالة متوجين بالشرف، فائزين بالغنم الكثير. وعند رحيلهم من بيڨار،
2
ناپیژندل شوی مخ