أما اليهود والنصارى فإنهم أدركوا سريعا ما يفهم المرابطون من معنى التسامح؛ فقد قسوا في اضطهادهم، وجردوا عليهم سلاحين من القتل والنفي، وأما من بقي من الأسر القديمة ومن فر من السيف من ملوك الطوائف، فإنهم كانوا في يأس قاتل حينما رأوا هذا الدخيل يعيد إلى أذهانهم أعمال البربر الشنيعة آخر أيام الخلفاء بقرطبة.
ولكن جمهور الأندلسيين كانوا في غبطة وسرور لاستيلاء المرابطين على الأندلس؛ فقد أمنوا على أرواحهم وأموالهم، وذلك شيء لم يستطيعوا تخيله أيام كانت المملكة ممزقة إلى ولايات، وكان أقوى الملوك من يستطيع أن يحمي رعيته حول قلعته، وأيام كانت الطرق غاصة بعصابات اللصوص، وأيام كان النصارى يغيرون على القرى وينهبون البلاد، أما الآن فقد استتب النظام والهدوء ولو إلى حين، وخضع الناس للقانون، وهزم النصارى فعادوا إلى حصونهم، وأخذ الناس مرة أخرى يحلمون بالثروة والرفاهية.
ولكن هذا الحلم كان وهما وخيالا باطلا، فإن القدر لم يدخر نجاحا ولا سعادة لرعية المرابطين، فقد أصاب البربر ما أصاب الرومان والقوط من قبلهم، فإنهم جاءوا إلى إسبانيا غلاظا شدادا لم يعتادوا النعيم والرفه، يتفاخرون بالشجاعة والقوة، ولهم قلوب يملؤها تعصب ديني غضوب ساذج، ولكنهم لم يلبثوا بها إلا قليلا متمتعين بثمار انتصارهم حتى أصيبوا بفساد الأخلاق وانحطاط العزائم الذي أصاب جنود (هانيبال) حينما استناموا إلى لذائذ الحياة في (كابو).
11
فقد البربر الميل إلى الحرب والإقدام على الأخطار واحتمال ويلات القتال، أو أقل إنهم فقدوا رجولتهم في أقصر ما يتصور من زمن، فلم يكن لهم بعد عشرين عاما جيش يعول عليه في صد هجمات القشتاليين، بل كان جيشهم حشدا غير منظم من حطام آدمي وكسالى بائسين أدمنوا الخمر، وخدعوا فتوتهم فبددوها، وأصبحوا عبيدا لكل شهوة تجعل الرجل جبانا رعديدا.
وبدل أن يصونوا النظام كانوا هم أول العابثين بالنظام، فقطعوا الطريق على المسافرين وسرقوا كلما لاحت لهم لائحة، ووصل الضعف بحكامهم أن صاروا تحت سيطرة العواهر من النساء، والطامحين من الفقهاء، فنقضوا اليوم ما أبرموه بالأمس، ومثل هؤلاء لا يطول بهم الحكم، فإن ثورة جامحة قامت بإفريقية للقضاء على المرابطين، وجدد القشتاليون بقيادة ألفونسو «المحارب» غاراتهم على الأندلس، ففي سنة 1125 عاثت جنودهم في الجنوب سنة كاملة، وفي سنة 1133 أحرقوا أرباض قرطبة وإشبيلية وقرمونة، وانتهبوا شريش وأشعلوا فيها النار، وامتدت غزوات النصارى من ليون إلى مضيق جبل طارق، أما الدولة الإسلامية حيال كل هذا فلم تفعل شيئا؛ لذلك غضب الأهلون وثارت جموعهم وطردوا المرابطين من البلاد.
ويقول مؤرخ عربي: «وفي النهاية عندما رأى الأندلسيون تحطم دولة المرابطين لم ينتظروا طويلا، فكشفوا حجاب الرياء وأظهروا العصيان وسمى نفسه بالملك واتخذ شعار السلطان كل حاكم صغير، أو زعيم أو رجل ذي شأن يستطيع أن يجمع حوله ثلة من الأنصار، أو تكون له قلعة يحتمي بها عند الحاجة، وصار الملوك في الأندلس بعدد ما فيها من مدن: فملك ابن حمدين قرطبة، وابن ميمون قادس، وحكم ابن قسي و«ابن وزير سيدراي» بالغرب، واللمتوني بغرناطة، وابن مردنيش ببلنسية، وبعض هؤلاء من الأندلسيين، وبعضهم من البربر.
ثم اختفى جميع هؤلاء حينما ظهر علم الموحدين الذين أزاحوهم عن عروشهم وأخضعوا الأندلس جميعا لحكمهم.»
12
وكان عبد المؤمن قائد الموحدين هو الذي أزال ملك المرابطين في إفريقية وإسبانيا.
ناپیژندل شوی مخ