لقد ذكرنا فيما أسلفناه جانبين من طبيعة العربية الأصيل في وقفته الثقافية، مقرونتين بما نراه منهما في الغرب المعاصر، هما: جانب الفلسفة الأخلاقية، وجانب النظرة إلى طبيعة الكون والإنسان، وليس هذان الجانبان هما كل ما هنالك من جوانب، نريد أن نحللها في حياة العربي في أصالته كما نحللها في حياة الغرب المعاصر؛ لنرى كيف يمكن - أو لا يمكن - اللقاء (راجع فصل «التوفيق بين ثقافتين» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).
6
منذ شغلت بالتفكير في صيغة تجمع في كيانها الواحد قيم تراثنا الأساسية وقيم العصر الراهن بعلومه وتقنياته وصناعته ونظمه، وجهت قراءتي وجهة تمكنني من الرؤية الجديدة التي نشدتها، فأقرأ ما أقرؤه من تراثنا، وما أقرؤه من فكر الغرب وأدبه، قراءة أبحث فيها عن نقط اللقاء ما كان لهذا اللقاء من سبيل، وماذا أعني بلقاء الرافدين في نهر واحد؟ أعني أن أقرأ موروثنا من زاوية عصرنا فأجد له معنى ذا دلالة حيوية، ثم أقرأ عصرنا فأجده مطابقا لما كان يمكن لأسلافنا أن يقولوه، وليس التقاء كهذا ممكنا في كل الحالات بالطبع؛ وإذن فقد كان هدفي في الاختيار وطريقة الفهم هو البحث عن المواضع التي يمكن استثمارها.
فهنالك فيما خلفه لنا السلف كتابات لا نكاد نحصيها عما وراء الواقع، لكن شطرا كبيرا من تلك الكتابات تقرؤه فلا تدري ماذا عسى المعاصرين أن يصنعوا به، لكنك إلى جانب هذا قد تقع هنا وهناك على درر فكرية مما يمكن نقلها بحذافيرها إلى حياتنا اليوم، فإذا هي دستور صالح للعمل به مع كل ما في عصرنا من سمات، وفي مثل هذه إذا ما امتلأت شرايين حياتنا بجوانب كهذه من تراثنا، فسواء قلت عن حياتنا عندئذ إنها أمينة على تاريخها وهويتها الأصلية، أو قلت إنها سايرت عصرها؛ فالمعنيان هنا مترادفان؛ لأنهما متلاقيان متطابقان.
من هذا القبيل ما وجدته عند الإمام الغزالي في كتاب صغير له عن أسماء الله الحسنى من أنها في حقيقتها «صفات» تكون مطلقة بلا حدود بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى، وتكون هي نفسها منقوصة محدودة بالنسبة إلى الإنسان، ولكنها صفات إذا اتخذ منها الإنسان هاديا يهديه سواء السبيل في مسالك حياته تدرجت به نحو الكمال.
بعبارة أخرى: أسماء الله الحسنى تمثل منظومة من «القيم» لعلها لو وجدت المفكر القادر على ترتيبها في بناء نسقي واحد - وليس في علمي أن أحدا من فقهاء المسلمين حاول هذه المحاولة - بمعنى أن يقام منها بناء هرمي يوضع فيه ما هو أعم في معناه فوق ما هو أخص، إلى أن نصل بهذا التدرج الصاعد إلى الصفة التي هي أكثرها تعميما، فيمكن القول عندئذ عن ذلك البناء النسقي إنه خريطة للأخلاق الإسلامية، تنبع كلها من الذروة، فليس كل ما نريده هو شرح تلك الأسماء شرحا يبني لكل اسم معناه، ثم يتركها مفرقة، ذلك بالطبع تنوير مطلوب، لكن الهدف الأخلاقي يتحقق بطريقة أفضل لو أننا أدركنا ما بين المعاني من علاقات تتداخل بها بعض في بعض من حيث درجات التعميم والتخصيص؛ لأن مثل هذا البنيان المترابط يؤدي بمن يتشربه في سلوكه العملي إلى أن يكون هو بدوره موحدا في رؤيته ووجهة نظره توحدا ينقذه من التمزق الذي يعاني منه إنسان عصرنا، وإني لأخشى - في هذه المناسبة - أن يذهب الظن بقارئ إلى أن ما ندعو إليه من ترتيب نسقي لأسماء الله الحسنى هو بدعة، وإلا لحاولها فقهاء السلف، فأقول: إنهم حاولوا ولكنهم اكتفوا بخطوة واحدة على الطريق، وهي أنهم استخرجوا من تلك الأسماء عددا قليلا - أظنه بلغ سبعة عند بعضهم وتسعة عند آخرين - قالوا عنها إنها هي الأساس الذي تنبثق منه بقية الأسماء.
قارن بين حالتنا القائمة حين نحفظ - حتى ونحن صغار في المدارس - هذه الأسماء عن ظهر قلب، ونرددها في حياتنا اليومية بغير انقطاع، دون أن ننتبه إلى كونها صفات أخلاقية تصف الله تعالى بمعانيها المطلقة، ثم تطالب الإنسان بأن يتصف بها بما استطاع من درجة؛ فعندئذ نعلم أن كل صفة منها هي بمثابة إيمان ديني وتوجيه إلهي لطريقة الحياة كيف تكون؛ وإذن فالعلم والإرادة والإبداع والرحمة وغيرها أهداف للحياة كما يأمر بها الإسلام، وإني لعلى يقين من أن دستورنا الأخلاقي كما يتمثل في الأسماء الحسنى، يستغرق كل صفة يتطلبها عصرنا وغير عصرنا من سائر العصور.
ولنأخذ اسم «الحي» مثلا نسوقه لنبين به كيف يمكن أن يتسع له الفهم ليصبح نورا يهدينا هداية عملية، وبعد أن نفرغ مما نريد قوله في صفة «الحياة» على خريطة الأخلاق الإسلامية كما كان ينبغي لها أن تكون، سأعقب بعرض صفة رئيسية من الصفات المميزة لعصرنا وهي صفة «التقدم» ليرى القارئ مثلا مجسدا لما أعنيه. عندما أقول إنني ألتمس بين تراثنا ومقتضيات عصرنا نقاطا للالتقاء.
فصفة «الحياة» - المتمثلة في اسم الله تعالى «الحي» - لها صدارة بين مجموعة الصفات المتمثلة في الأسماء الحسنى، وليست هي الصدارة التي تشير إلى مجرد الأولوية في الترتيب العددي، بل صدارة تتضمن كذلك أسبقية منطقية؛ إذ منها تتفرع سائر الصفات (وأشار إلى ذلك الفقهاء ومنهم الغزالي في كتابه الذي أشرت إليه «المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى»، راجع شرح الزبيدي لكتاب «إحياء علوم الدين»).
فماذا نعني «بالحياة» حين ندعو الإنسان إلى أخذ نصيبه منها فيكون «حيا»؟ المقصود بالحياة هنا جانبان أساسيان، هما: «الإدراك» و«الفعل»، فللإنسان حياة بقدر ما لديه من إدراك ومن فعل، إنه قد يتنفس ويتغذى ويتناسل، ومع ذلك كله لا يعد «حيا» بهذا المعنى المقصود، فشرط المعنى المقصود أن يكون على «وعي» كامل بما يدور حوله وبما تعتلج به نفسه، ثم لا يقف أمام إدراكه هذا ووعيه موقفا سلبيا؛ لأنه لو أدرك كل ما حوله ووعاه ثم لبث ساكنا إزاءه لما تغيرت الدنيا على يديه، بل لا بد أن يكون «فاعلا» نشيطا منتجا مشاركا في دفع تيار الحياة بحياته وإلى أين يدفعه؟ يدفعه إلى حيث تسمو وترتقي؛ فالواقف على جانب الطريق ينظر إلى ركب الحياة ولا يسهم في دفعه ليس حيا، والذي يحاول الرجوع بتيار الحياة إلى وراء ليعود به إلى حيث بدأ ليس حيا، بمعنى الحياة الإيجابي الذي أسلفناه، الحي يقود ولا يقاد، ويكون متبوعا لا تابعا، ما دامت «الحياة» بحكم تعريفها السابق خلقا وإبداعا وابتكارا وإضافة للجديد.
ناپیژندل شوی مخ