وجوه يومئذ ناضرة
يقابله قوله:
ووجوه يومئذ باسرة ، وهكذا يبين ابن عربي في رسالته عن الجمال والجلال أمثلة كثيرة لهذا التقابل بين «إشارات الجمال» و«إشارات الجلال» كما يسميها، فأين هذا مما يكتبه فيلسوف الاستاطيقا في عصورنا الحديثة في هذا الباب؟ ومن أين تأتي نقطة التلاقي بين مفكر عربي معاصر ينظر في موضوع كهذا ومفكر عربي قديم نظر فيه؟ (راجع مقالة «بين ماض وحاضر» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).
9
سأذكر من حياتي لحظتين: حاولت في إحداهما أن أعيش مع ماضينا في حياته العقلية، وحاولت في الأخرى أن أعيش معه في حياته الوجدانية؛ لأصور بما أذكره من ذلك عمق الرغبة التي أحسستها - لا سيما منذ أول الستينيات - نحو أن أدمج الماضي مع الحاضر في كياني؛ إيمانا مني بأن هذا هو الطريق الأمثل لأمة تريد أن تصون جوهرها، وأن تضمن لذلك الجوهر نفسه أن يزداد مع الأيام غزارة وثراء.
أما أولى اللحظتين، فقصتها هي أنني كنت ذات يوم أحاضر طلابي في كلية الآداب بجامعة القاهرة في فلسفة العلوم الطبيعية، وكانت الأمثلة التي عرضتها مستمدة كلها من علماء الغرب وفلاسفتهم، ولم يكن ذلك ضلالا مني عن الجادة؛ لأنني كنت أعلم - وما زلت - أن العلوم الطبيعية إنما اكتملت ولادتها في أوروبا الحديثة بدءا من النهضة، وأما ما قبل ذلك فكانت بدايات تمهد الطريق وينقصها المنهج الصحيح لهذا المجال. وهنا لا بد لي أن ألاحظ بأن العلوم التي كان السابقون قد مهروا فيها واشتد نضجهم هي العلوم الرياضية.
وعلى أية حال؛ فالذي حدث في تلك اللحظة التي أشرت إليها هي أنني ما كدت أفرغ من محاضرتي تلك عن فلسفة العلوم الطبيعية ومناهجها حتى سألني طالب - وكانت في سؤاله رنة العاتب: لماذا لم تجعل من أمثلتك المعروضة مثلا من علماء العرب؟ ألم يكن للعرب علم يرجع إليه ويستفاد من مناهجه؟ وبرغم يقيني من أن العلم قد انتقل اليوم نقلة فسيحة، بعدت به عما كان عليه في العصور الوسطى، في الشرق وفي الغرب على السواء، وأن اختلاف علم اليوم عن علم الأمس لا يقتصر على مقدار الحقائق المحصلة وحدها، بل إن اختلافهما قد جاوز الكم إلى الكيف؛ فالأساس نفسه قد تغير، وتغير معه اللون الغالب كله. أقول: إنه برغم يقيني من ذلك، إلا أنني أحسست بشيء من الحق في اعتراض الطالب؛ لأنه مهما بعدت مسافة الخلف بين اليوم والأمس، فما كان علم اليوم لتقوم له قائمة لولا علم الأمس؛ وإذن فلا شك أن واجبنا العلمي يقتضينا أن ننظر فيما كان؛ لنقدره قدره أولا، ولنزداد به فهما لما هو كائن ثانيا. وإذا كان هذا هو ما يقتضيه الواجب العلمي على إطلاقه، فإن هذا الواجب تجاه علمائنا العرب الأولين ليزداد إلحاحا علينا بأن ينهض منا من يؤديه.
وصحت مني العزيمة منذ ذلك الحي، أن ألبي رغبة الطالب؛ لأنها في الحقيقة رغبة وطن ناهض أراد أن يجمع في نهضته النظرة إلى أمام واللفتة إلى وراء، حتى يجيء طريق السير موصول الحلقات مرتبط المراحل. وبدأت بإمام العلوم الطبيعية عند العرب، ألا وهو جابر بن حيان (راجع كتابي «جابر بن حيان»).
تلك هي قصة اللحظة الأولى، وأما اللحظة الثانية التي حاولت بها العيش مع السلف في حياته الوجدانية؛ فقد كانت بدايتها لمحة وردت عند «يروست» (الأديب الفرنسي) في حديثه عن الصلة بين الحاضر والماضي في كتابه «البحث عن الزمن الضائع»؛ إذ يقول: إن الفن من شأنه أن يجمد لحظات من الماضي تظل قائمة حية في الحاضر؛ فيتيح لنا هذا أن نحطم حواجز الزمن بيننا وبين أسلافنا بأن نعيش تلك اللحظات، إن لحظة واحدة نعيشها اليوم مع من عاشوها في الماضي كفيلة وحدها أن تفك عنا قيود الزمن التي فصلت حاضرنا عن ماضينا، وأحسب أني قد عشت لحظة كهذه مع أبي العلاء، حينما أوقفني التأمل عند قوله: «أبكت تلكم الحمامة أم غنت؟» (راجع مقالة «لحظة مع الماضي» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).
الفصل الثامن
ناپیژندل شوی مخ