فالاسم الكلي - أيا كان - ليس في حقيقته «اسما» له مسماه في عالم الوجود الفعلي بالضرورة، بل هو بمثابة عبارة مثقوبة بما هو مجهول، وإلى أن يمتلئ الثقب بفرد معلوم، تظل التركيبة معلقة خارج نطاق الأفكار الكاملة والمقبولة في التفاهم العلمي، وللقارئ أن يتصور مدى الانقلاب الفكري الذي يحدث للدارس إذا هو أعد نفسه ألا يقبل لفظا يرد له في سياق من يحدثه حديثا يزعم له أنه حديث علمي، إلا إذا كان لذلك اللفظ «أفراد» في الوجود الفعلي يشير إليها، فإذا لم يكن للفظة مفيدة «رصيد» بين كائنات الدنيا الخارجية التي نراها بالعين ونلمسها بالأصابع، وجب تغليفها على سبيل العبارة المجهولة الدلالة، فهي مركب ناقص لم يكتمل له كيان «الفكرة» التي يجوز قبولها أو رفضها؛ فالقبول والرفض معا مرهونان باكتمال الفكرة أولا؛ أعني أنهما مرهونان بأن نضمن وجود أفراد فعلية مما يشير إليه الاسم المعين.
ومن الأفكار الجديدة التي أبرزها «المنطق الوضعي» تمهيدا لترسيخ المنهج العلمي في رءوس الدارسين: كون الجملة «التحليلية» تحصيلا لحاصل؛ أي إنها جملة لا تقول شيئا جديدا، وهذه بدورها نقطة هامة، لو أنها غرست في الأذهان غرسا ثابتا لأخرجنا شبابا مزودا بعقول ناقدة تميز بين الحق والباطل، وشرح ذلك أن هنالك في أحاديث الناس وكتاباتهم واعتقاداتهم ألوفا من العبارات التي ظاهرها أنها «حقائق»، وأما حقيقتها فهي أن من يستخدمها إنما يحدد لأحد المفاهيم معنى من عنده، وما دام الأمر كذلك، فمن حق سواه أن يحدد لذلك المفهوم معنى آخر، دون أن يكون هنالك وجه للمفاضلة بين المعنيين من الوجهة النظرية، فافرض - مثلا - أن موضوع الحديث هو «الديمقراطية» وقال قائل: إن «الديمقراطية هي مساواة الفرص أمام المواطنين» وقال آخر: «الديمقراطية هي أن تكون القرارات في المجالس العامة بأغلبية الأصوات»، فهذان قولان مختلفان عن مفهوم واحد، وكل منهما لا يزيد على كونه «تعريفا» من القائل لكلمة «ديمقراطية»، وليس هنالك ما يبرر المفاضلة بين تعريف وتعريف، وإذا عرفنا أن كلا من هذين القولين إن هو إلا «تعريف» فكأنما قلنا بذلك: إن كل جملة منهما تضع مفهوما ما ثم تكرر ذلك المفهوم نفسه بعبارة أخرى؛ أي إنها جملة لا تضيف شيئا جديدا تستمده من الواقع الطبيعي.
وحياة الناس الفكرية مليئة بأفكار من هذا الطراز التعريفي التكراري الذي لا يجيز لأحد أن يحتج بفكرته على خصمه، فاختلاف المذاهب الفكرية - في السياسة والفلسفة والاقتصاد والنقد الفني وغيرها وغيرها - هو من هذا القبيل، فبماذا تفضل ناقدا يقول لك: إن أعذب الشعر أكذبه، على ناقد آخر يقول: بل إن أعذب الشعر أصدقه؟ إن كلا من القولين قائم على «تعريف» للشعر من وجهة نظر القائل، وفي حرية التعريف يتساوى المتعارضان، وبماذا تفضل صاحب مذهب سياسي يقول: إن حكم الفرد المستبد العادل هو أفضل صورة للحكم، وآخر يقول: بل إن أفضل صورة للحكم هي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه خلال مجالسه النيابية؟ مرة أخرى تجد كلا من القولين «تعريف» للحكم الأفضل ولا مفاضلة بين تعريف وتعريف، وأمثال هذه الأقوال التعريفية - كما أسلفت - لا أول لها في حياة الناس الفكرية ولا آخر، فأي انقلاب فكري يحدث للدارس لو أنه زود بالنظرة التحليلية الناقدة التي تميز بين فكرة قوامها تعريف، وفكرة أخرى قوامها مرجع في دنيا الواقع الفعلي؟
ذلكما مثلان نكتفي بهما من أمثلة كثيرة للأسس المنهجية الجديدة في التفكير العلمي مما أوردناه في الجزء الأول من «المنطق الوضعي»، الذي لم تكن قد مضت على صدوره (1951م) إلا بضعة أعوام، حين ألحقنا به الجزء الثاني في فلسفة العلوم بشطريها: العلوم الصورية (ومنها الرياضة) والعلوم التجريبية، ولقد اضطلعنا في هذا الجزء بمثل ما اضطلعنا به في الجزء الأول من رؤية للموضوع من زاوية «التجريبية العلمية»، فلقد فصلنا القول تفصيلا في الشروط الواجب توافرها لكي تكون الفكرة المعينة فكرة علمية بالمعنى الصحيح الدقيق، وكان من أهم ما أبرزناه في هذا السبيل وجوب تحويل «الكيف» إلى «كم» ما وجدنا إلى ذلك التحويل سبيلا، ولعله أن يكون من أبرز معالم الكتاب إدراجه العلوم الاجتماعية مع العلوم الطبيعية في منهج واحد، استنادا إلى أن ما يصلح أن يكون «علما» في ظاهرة الحياة الإنسانية، هو ذلك الجانب الذي يخضع لمنهج العلم في دقة الملاحظة وإجراء التجارب، دون أن ندعي بأن ذلك المجال يستنفد الحياة الإنسانية كلها، لكن ما يتبقى من تلك الحياة مستعصيا على منهج البحث العلمي يخرج بالضرورة عن مجال العلم، ويكتفى فيه بالتعبيرات الوجدانية كالشعر وما يدور مداره من شتى الوسائل الفنية في التعبير.
ولا يفوتني في هذا السياق أن أذكر موقفا وقفته من فيلسوف العلم الأمريكي «هنري مارجنو »، وذلك حين كنت أستاذا زائرا في جامعة بولمان بولاية واشنطن في أقصى الشمال الغربي من الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1954م، فلقد دعت الجامعة يومئذ هنري مارجنو - وكان أستاذا في معهد ماساشوتس للتكنولوجيا أرفع معاهد أمريكا العلمية على الإطلاق (فيما يقال) - دعته جامعة بولمان ليلقي سلسلة محاضرات عن «المنهج العلمي» وقد حضرتها مع هيئة الأساتذة، وبعد أن فرغ مارجنو من الحديث عن المنهج العلمي فيما يختص بالعلوم الطبيعية، خصص المحاضرة الأخيرة لمنهج «العلوم الاجتماعية» بادئا حديثه بقوله: إن هذه المرة يريد أن يسمع منا نحن آراءنا فيما يجب أن يكون عليه ذلك المنهج، وبعد دقيقة من الصمت طلبت أنا الكلمة لأقول: إننا لا نكون على صواب من الناحية النظرية إذا نحن افترضنا مقدما بأن للعلوم الاجتماعية منهجا تختلف به حتما عن منهج العلوم الطبيعية، وأصح من ذلك أن نبدأ بتطبيق المنهج نفسه على ظواهر الحياة الإنسانية (في علوم النفس والاجتماع والاقتصاد وغيرها) إلى أن نصطدم بما يجعل تطبيق ذلك المنهج مستحيلا استحالة منطقية، وعندئذ فقط نبحث لأنفسنا عن مخرج ... فكانت كلمتي تلك هي التي دار حولها الحوار كله من الأساتذة الحاضرين - بما فيهم مارجنو - واختلف الرأي بينهم في ذلك قبولا ورفضا وتعديلا، ذلك كان موقفي من علوم الإنسان، وما زال هو موقفي حتى هذه الساعة، فأنا أرفض أن تترك هذه العلوم نهبا للضرب في مجالات التخمين أو ما يشبه التخمين من أقوال لا تخضع لضوابط المنهج من ملاحظة يمكن رصدها وتجارب يمكن إجراؤها، حتى يصبح حديث العلم عن الإنسان وحياته نوعا من «الحساب» بدل أن يظل دائرا في متاهات «المناقشات».
5
لن أمل من تكرار القول بأنني كلما تحدثت عن الشروط التي يجب مراعاتها في أية جملة يريد لها صاحبها أن تكون ذات معنى مفهوم عن الطبيعة الخارجية، أو أي جزء محدد من تلك الطبيعة، فإنما أقصر القول عندئذ على مجال واحد من مجالات الكلام ألا وهو المجال العلمي، أما ما عداه من ميادين القول - كالشعر وغيره من ضروب التعبير الفني - فلها شروط أخرى خاصة بها يعرفها المشتغلون بتلك الميادين، أعود فأقول: إنني لن أمل من التأكيد بأن حديثي - فيما يختص بالتجريبية العلمية - مقصور على ميادين «العلوم» وحدها؛ وذلك لأنني طالما قوبلت بهجوم واستنكار من نقاد ذهب بهم الظن بأن شروط التجريبية العلمية مقصود بها أن تقيد كل ضروب القول بغير تحديد، فإذا كان أمرها كذلك فيا للهول؛ لأن لدينا كلاما من أعز الكلام على نفوسنا وأغلاه، بعيد بطبيعته كل البعد عن أن يقبل التقيد بتلك الشروط، فمثلا إذا قلنا: إن كل جملة مطالبة - لكي تكون مقبولة من الناحية المنطقية - بأن تكون صورة متطابقة مع واقعة من الوقائع الممكنة تلقيها بالحواس البشرية، وإلا كانت غير ذات معنى؛ فقد يعترض علينا مستنكر قائلا: وما قولك إذن في جملة تتحدث عن الملائكة بل عن الله سبحانه وتعالى، وما أكثر ما سمعت اعتراضات من هذا القبيل؟! فلو أن هؤلاء المستنكرين وضعوا نصب ذاكراتهم دائما هذا الذي أسلفته - وهو أن شروطنا موجهة نحو ميدان واحد فقط: هو ميدان العلوم الطبيعية وحدها - لما اعترضوا وما استنكروا.
نعم، فشرطنا الأول لأي كلام علمي هو أن تفصل ألفاظه تفصيلا محكما على واقعة فعلية من وقائع الدنيا، أو على واقعة ممكنة الحدوث ويراد استحداثها؛ فالكلام المفهوم هو ذلك الذي يتيح لسامعه أن يتحقق منه، إما بالرجوع به إلى الوقائع المشار إليها فيه، وإما بمحاولة استحداث الوقائع التي يزعم المتكلم أن كلامه مرسوم ليهدي من أراد التطبيق كيف تجيء خطواته في التطبيق خطوة بعد أخرى؟ فالأمر في كلام كهذا هو كالخريطة الجغرافية التي يحاول بها الرحالة أن يعرف طريقه، فلا بد لها أن تكون على علاقة التطابق التام مع تفصيلات الواقع.
لكن هذا الشرط الضروري الواضح كثيرا ما نراه مهملا في ضروب من القول، لا هي من قبيل التعبير الوجداني فنحيلها على معاييرها الخاصة، ولا هي ترضى أن توضع أي وضع إلا أن تكون في زمرة الأقوال «العلمية» ثم لا تلتزم بذلك الشرط الذي أسلفنا ذكره، فتراها تستخدم في عباراتها ألفاظا لا تشير إلى واقع محسوس، فها هنا تأخذنا الحيرة إذا أردنا التحقق من صدق ما يقال، ومن هذا النوع من الكلام ما قد اصطلح في الفلسفة على تسميته بالميتافيزيقا؛ ولهذا وجهت إلى الميتافيزيقا اهتماما خاصا.
في صيف سنة 1953م صدر كتابي «خرافة الميتافيزيقا» تناولت فيه ذلك الضرب من الكلام الذي يستخدم ألفاظا هي بحكم تعريفها نفسه لا تشير إلى شيء محسوس، ومع ذلك يزعم صاحبها أنه إنما أراد أن يصف بها الوجود الخارجي كله أو بعضه؛ فقد يقول لك الميتافيزيقي - مثلا: إن لكل شيء «جوهرا» تطرأ عليه الصفات العارضة، فنهر النيل تجري مياهه دفاقة لا تثبت على حالة معينة، وهو يمتلئ حينا ويفيض ماؤه حينا، ولكنه - رغم هذه الحالات العارضة - موجود بهوية ثابتة، كيف؟ إنه موجود دائما بذلك «الجوهر» الذي أشرنا إليه، والذي تطرأ عليه التغيرات ولكنه يظل هو ذا ثبات ودوام، أليس من حق التفكير «العلمي» أن يقف ليحاسب هذه اللفظة: «جوهر»، التي لا تشير إلى شيء «محسوس» بحكم تعريفها؛ إذ المحسوس هو الصفات العارضة الطارئة عليه، أما هو نفسه فذو خفاء؟! ومن هذا القبيل نفسه أسماء أخرى أشد خطورة في حياة الناس العملية؛ فقد يقال لك - مثلا: إن المواطنين الأفراد في شعب ما يولدون ويموتون، وأما «الشعب» فموجود، وأظنك في هذه الحالة تريد أن تعرف ماذا يبقى من «الشعب» إذا طرحت من حسابك المواطنين الأفراد.
ناپیژندل شوی مخ