وأهم ما يميز السلوك عند «المتمدن» الحديث هو مقدرته على ضبط زمام نفسه، فليس من اليسير عليك أن تثير فيه الغضب الذي يطير بصوابه، وهو لا يغلو في مظاهر الفرح ولا مظاهر الحزن، فأنت «متمدن» بمقدار ما يتصرف «الإنسان العاقل» فيك، لا ما يتصرف «الحيوان» منك، والحيوان منك هو الغرائز، تنطلق كما هي بغير ضبط ولا تعديل، وأعجب العجب أننا نفخر بسرعة انفعالنا وشدة هيجان شعورنا، ونصف الأوربي المتمدن في هذه الناحية «بالبرود»؛ لأنه لا ينفعل ولا يهيج.
كذلك ما يميز سلوك «المتمدن» الحديث: طريقته في ملء فراغه، فهو متخلف عن عصره إذا قضى فراغه نائما أو جالسا؛ لأن للفراغ في المدنية الحديثة ألوانا من النشاط كثيرة معروفة، ليس منها النوم والقعود، فهي لعب وارتحال وتغيير لمجرى الحياة المألوفة ...
لقد كنت دائما على اعتقاد بأن تهذيب الحضارة لا يدور - بالضرورة - مع الثروة وجودا وعدما؛ فقد يكون الازدهار الاقتصادي شرطا ضروريا، لكنه ليس شرطا كافيا، فقد يتوافر المال مع غير متحضر، وقد يكون متحضرا من ليس عنده مال، وإنما هي صفات أخرى تلك التي يرتهن بها تهذيب الحضارة، راجع مقالة عنوانها «مقياس الحضارة» في كتابي «هذا العصر وثقافته» تقرأ ما يلي: «إن أرقام الإحصاءات الاقتصادية وحدها لا تكفي؛ لأنها وإن أشارت إلى بعد واحد من أبعاد الموقف [والحديث هنا عن الحضارة] فهي لا تشير إلى سائر الأبعاد، على حين أن الموقف الحضاري إنما هو حصيلة هذه الأبعاد الكثيرة التي تتألف منها الحياة، وكما قد قيل: إن السائر في الحديقة قد تمتعه أشجار السنديان، ومتعته هذه هي جزء من حياته ولا شك، لكن أشجار السنديان تلك لا تدخل في إحصاءات الاقتصاد إلا بعد أن تزول من الوجود بصفتها أشجارا في الحديقة، أعني أنها لا تدخل في إحصاءات الاقتصاد إلا إذا اقتلعت وقطعت وبيعت شرائحها في أسواق الخشب ...»
إنه لا بد لقياس التفاوت الحضاري بين حياة وحياة أن تؤخذ «غزارة» الحياة أو عمقها في الاعتبار، ولا يكتفى بقياسها طولا وعرضا، فيؤخذ في الاعتبار مقدار ما ينعم به الإنسان من «يسر» بأوسع معاني هذه الكلمة؛ لأن الحياة الميسرة تتطلب - إلى جانب ارتفاع المستوى الاقتصادي - جوانب أخرى قد يصعب حسابها بدقة الحساب، كالصحة البدنية ليخلو الإنسان من المرض والضعف، والصحة النفسية التي تتيح له أن يعبر عن فطرته تعبيرا كاملا يخرج من تلك الفطرة جميع ممكناتها، وتكافؤ الفرص بين الناس في العمل وفي التمتع بأوقات الفراغ.
4
إنني إذ أدعو إلى ثقافة تساير العصر، فذلك لعلمي بأن الثقافة قد تغيرت معانيها مع تعاقب العصور، وليست هي كالعنصر من عناصر الكيمياء يظل ذا صفة مميزة، فلا يتغير مع الزمن ولا يتبدل، فما كان شرطا ضروريا للمثقف في مرحلة معينة لم يعد كذلك في مراحل أخرى جاءت بعد ذلك، ولنأخذ تاريخ المسلمين مثلا نوضح به ما نريد: كانت الثقافة قبل الإسلام لا تعني إلا رمح المحارب، فذلك الرمح كانت تطلب له قناة مثقفة؛ أي مسواة مقومة مستقيمة، فما هو إلا أن ظهرت الدعوة الإسلامية بكل ما جاءت به من بحر زاخر في مبادئ الأخلاق الفردية والاجتماعية جميعا، حتى قفز معنى «الثقافة» قفزة هائلة، نقلتها من ميدان الرماح وقنواتها إلى فطنة العقل وذكائه، وكانت النقلة على يدي أديب العربية الجبار أبي عثمان عمرو الجاحظ، لم تعد «الثقافة» تسوية العود الذي يركب عليه سنان الرمح ليصلح للقتال، بل أصبحت في استعمال الجاحظ لها (ذلك في القرن التاسع الميلادي) تسوية الفكر؛ ليصبح بفطنته وذكائه قادرا على حل مشكلات الحياة، والذي أدى إلى هذا التغير الهائل في وجهة النظر هو التغير الحضاري الذي شمل الناس بعد الإسلام.
على أن تثقيف العقل بما يتفق مع الحضارة الجديدة كانت له وسائله الضرورية من وجهة النظر السائدة، وأول تلك الوسائل وأهمها هو دراسة اللغة بكل ما تستلزمه تلك الدراسة من علوم النحو وقواعد الاشتقاق وإيراد الشواهد من الشعر الجاهلي أو النص القرآني الكريم، ولماذا جعلوا أهم سمات المثقف يومئذ إلمامه باللغة إلماما جيدا؟ كان ذلك لسببين ظاهرين: أولهما أن يتأكدوا من قدرة المثقف على فهم الكتاب الكريم فهما صحيحا، وعلى مثل هذا الفهم الصحيح يتوقف الفقه الإسلامي كله، وثانيهما أن يكون للحكام المسلمين في البلاد التي دخلت الإسلام (كمصر وفارس مثلا) ما يعتزون به في الحياة الثقافية إذا ما واجهتهم ثقافة تلك البلاد التي يحكمونها.
كان ذلك كله عندما كان الحكم للمسلم الذي هو من أصل عربي، فلما جاءت الدولة العباسية ومعها سياسة جديدة، وهي أن يكون الحكم للمسلم - عربيا كان أم غير عربي - دخلت «الثقافة» في مرحلة جديدة، وأصبح المثقف إنسانا لا يقتصر علمه على اللغة وملحقاتها والفقه الإسلامي ومذاهبه، بل اقتضى الأمر إضافة جديدة تتناسب مع الوجه الحضاري الجديد، وتلك الإضافة هي الإلمام بتراث الحضارات الأخرى وفي مقدمتها حضارة اليونان الأقدمين، وهنا أقام الخليفة المأمون دارا لترجمة التراث اليوناني العقلي من فلسفة وعلم، ولم يعنوا بنقل الأدب والتاريخ.
وسرعان ما أصبحت هذه الجوانب المنقولة عن اليونان شروطا أساسية لا بد من توافرها فيمن أراد أن يسلكه الناس في زمرة المثقفين. وبهذا تكون الثقافة العربية قد جاوزت حدود القومية الضيقة إلى حيث العالم الفسيح بآفاقه البعيدة، ولعل المسعودي كان يشير إلى مثل هذا المعنى بعنوان كتابه «نزهة المشتاق لاختراق الآفاق»، وحقا كانت نزهة من اشتاق من أسلافنا إلى حياة المثقفين في أن يخترق الآفاق إلى بلاد غير بلاده حتى يعيش عصره كاملا، وولاؤنا لآبائنا إنما يقتضينا أن نخترق الآفاق كما اخترقوا، لنعيش عصرنا كاملا كما عاشوا.
لكن هذا الاختراق للآفاق لا ينبغي أن يضيع مني ركنين أساسيين هما: العقيدة الدينية واللغة العربية، إن عقيدة أسلافنا لم تنقص مثقال ذرة حين اخترقوا الآفاق ليعبوا من حضارة الهند ومن حضارة اليونان وغيرهما، وكذلك بالنسبة لعقيدتنا إذا نحن فتحنا صدورنا اليوم لحضارة عصرنا وثقافته، وأما اللغة العربية فلا بد لها - لكي تظل حية - أن تملأ أوعيتها من ثقافات العصر، وبمقدار ما يجري في اللغة من علوم العصر ومعارفه يكون لنا الحق في الانتماء إليه مع سائر أبنائه (راجع مقالة «المثقف الجديد» في كتابي «مجتمع جديد أو الكارثة».)
ناپیژندل شوی مخ