وينصرف ويحس بالعطش؛ فيدخل عند تاجر المشروبات الروحية. - أذقني قليلا من شرابك ... أي نوع منه لديك؟
ويشفط ما تبقى في قاع زجاجة: جلو ... جلو ... جلو! - إنه أردأ من الطافيا! ... من يستطيع أن يشرب هذا؟! ومن يدفع له ثمنا؟! ... آه ... يا له من عصير!
ثم ينصرف، وهكذا يأكل الرجل ويروي ظمأه بينما بيته يطفح ثراء .
ويضحك العجائز: هي هي ... هو هو ... هي هي ... يضحكون حتى الدموع، وينطلقون في الحديث بحماسة، وأحدهم أكثر دهاء من الآخر بغمزات عينه، وهما يلويان طرف شاربيهما الواقفين كخطافين بيضاوين يهددان أنفهما. - إن عنق حذائه يرجع عمره إلى أيام شبابه، وكعب حذائه عندما يتآكل يصلحه بنفسه بواسطة قطعة من الجلد. - في كل مرة يلقاني تتكرر نفس الحكاية: «أعطني سيجارة ... لقد نسيت صندوق سجائري في البيت.»
تصور! إنه لم ينس شيئا على الإطلاق ... إنه يشرب العرق الذي يعده بنفسه، إنه يجمعه في الصيف، ويجففه ويسحقه بين كفيه، ويحتفظ به في خزانة، ثم يشرب طوال الشتاء ويسعل حتى تكاد روحه أن تزهق.
وسأل الناظر - وهو يضحك ويشد في شاربه: هل رأيتم قط ما تحت معطف الحاج؟ طبعا لا، وسأحدثكم عنه، ففي أحد الأيام بعد انتهاء القداس جرى حديث، وكان هناك عدد من الرجال وبعض السيدات، وظل الحاج صامتا على مقعد منعزل وكان يتربص القطعة من الخبز المقدس، وأشار شماس ماكر؛ ليريه على الأرض وعند أقدامنا قطعة صغيرة من النقود، ويقول له: «يخيل إلي يا سيدي الحاج أنها قد سقطت منك، وأنت ذاهب إلى التناول»، ويقفز الحاج فورا ويقترب من القطعة، ويحدجها بنظرة حادة تثبتها في مكانها حتى لتصعب زحزحتها ولو بالقدم، وأخيرا يمد يده ولكن في لحظة انحنائه ليتناولها انفجرنا كلنا رجالا وسيدات ضاحكين ونحن نقف من خلفه، فالحاج كان قد نسي في المنزل سرواله الداخلي، وبلغ ضحكنا حدا لم يجرؤ معه أن ينحني ليلتقط قطعة النقود، فاكتفى بالنظر إليها طويلا والدموع في عينيه، ثم غادر الكنيسة وهو يتمتم: «إنها نقودي! ... إنها نقودي!»
واستنتج الشماس من بنت أخت الحاج أنه كان يأخذ منذ عشر سنوات قطعا من قاع سرواله الداخلي لكي يرقعه بها عند الركبتين، وأن المعطف الذي كان طويلا قد أخذ يقصر باستمرار؛ لأنه يجز منه قطعا يرقعه بها عند الأكمام!
3
لم ير أحد قط مدخنة الحاج يتصاعد منها الدخان، فأثناء العاصف يتجمع الجليد أكواما حتى يصل إلى ارتفاع السقف، ومياه الأنهار تتجمد كما تشاء ، وكل هذا لا يعنيه، كما لا يعنيه أن يسقط البرد كالحجارة في قلب الشتاء، أو أن تصل الحرارة في شهر يوليو إلى الحد الذي تصاب منها الكلاب بالسعار، فهو يكتفي في الشتاء بأن يرتعد من البرد، وفي الصيف بأن يختنق من الحرارة!
وفي كل عام عندما يأتي عيد الميلاد وتقترح عليه بنت أخته التي أواها أن يذبح خنزيرا كما يفعل كل المسيحيين الطيبين، يرد عليها العجوز قائلا: «إنني أشعر بكثير من الألم يا بنت أختي عندما أسمعه يطلق الصرخات، إن قلبي لينفطر له حقا ولا حيلة لي في ذلك، فأنا شديد الحساسية.» - إذن فلتشتره جاهزا.
ناپیژندل شوی مخ