تحدث سليم مع زوجه في هذا الوضع، وذكر لها أنها بين أن يذهبا إلى روسيا، أو أن يعيشا في باريس عيش الشظف. فإذا ذهبا إلى روسيا، فيسير أن يجد عملا يرزقهما. ولعلها متى تعلمت الروسية أن تجد عملا كذلك بعد أن أصبحت روسية الجنسية بحكم زواجها. صحيح أن العيش في روسيا لا يجعلهما أنعم بالا من الفرنسيين في فرنسا بسبب ما أدت إليه الحرب من حرمان. لكنهما، وهما من الأجانب في فرنسا، سيلقيان فيها عنتا أشد العنت ومشقة أية مشقة!
واستمهلته سمية إلى الغد لتفكر في الأمر، فلما أصبحت خرجت لبعض شأنها. وفي المساء قصت عليه أنها بحثت فوفقت إلى عمل على الآلة الكاتبة، متواضع الأجر، ولكنه يعينهما على تحمل أعباء المعيشة. عند ذلك رأى أن لا مناص له من أن يبحث كذلك عن عمل يضم أجره إلى ما يتناوله من أهله. ولعل مجموع ما يصل إليهما، ينجيهما من الضيق، وإن لم يسمح لهما بأية رفاهية. وحسبهما عزاء أن أهل باريس جميعا يعانون الحرمان في تلك الأيام التي أعقبت الحرب، فلن يكون مظهرهما أسوأ من مظهر الفرنسيين أنفسهم.
واهتدى سليم، كما اهتدت سمية، إلى عمل. فاستطاعا أن يعيشا في شظف، وتحيط بهما مع ذلك سعادة الطمأنينة إلى الحرية. •••
كانا يذهبان في الصباح إلى عملهما بعد أن تستودع الأم طفلها مؤسسة ترعاه مع أمثاله. فإذا كان المساء، وعادا من عملهما، وعادت هي بالطفل معها، وجاءا بطعام عشائهما، آوى الجميع إلى غرفتهم حتى ينام الغلام، ثم خرج الزوجان يقضيان وقتا ناعما سعيدا يستمعان إلى الموسيقى في أحد المقاهي، أو في ملهى من الملاهي التي تعزف الموسيقى فيها أبدع الألحان لأكبر أساتذة الفن. أو يذهبان إلى المسرح في أعلى التياترو، أو يسيران في شوارع باريس الكبرى، ينعمان بمناظر المعروضات في واجهاتها. فإذا انتصف الليل أو كاد، ارتدا إلى غرفتهما سعيدين بأن يريا فيها الطفل مستغرقا في نوم هادئ. ثم يأويان إلى فراشهما ينعمان فيه بسكينة النوم.
وكانت هذه الغرفة هي وطنهما الصغير المحبب. كانت سمية تغمض عينيها فترى فيها مصر كلها؛ لأنها كانت تجمع حولها كل ما في الحياة من حب وإعزاز كحبها سليما وحب سليم إياها؟! وهل إعزاز كإعزازها هذا الطفل البريء الجميل؟ هو - لها - بسمة الحياة، وهو الذي يهون عليها كل مشقة. وإذا كانت أمها قد غضبت منها، فتنكرت مصر لها، فلن يجعلها ذلك أقل لهذا الوطن الكريم إعزازا أو محبة. ولن يؤنسها ذلك من أن ترضى عنها أمها، يوم تؤمن بأنها لم تجن ذنبا، ولم تنكث عهدا، حين آمنت بأن الدين هو الوطن الأكبر، وأن الأرض التي ولدت فيها هي الوطن الأصغر!
وكانت سمية تنتهز صبح يوم الأحد من كل أسبوع لتكتب إلى أبويها قبل أن تخرج مع زوجها وابنها لقضاء النهار في نزهة خارج المدينة. ولم تكن تنتظر من أبويها ردا على كتبها، ولكنها كانت ترجو أن تلين هذه الكتب قلبيهما فيصفحا آخر الأمر عنها.
والعجيب أن أباها كانت تنازعه نفسه إلى هذا الصفح، وأن أمها هي التي كانت تأبى أن تقرأ كتب ابنتها، أو أن تجاري زوجها فيما كانت تسميه تساهله وضعفه. ولو أن الأم قرأت كتب سمية، أو سمعت إلى ما فيها، لتأثرت بها كما تأثر الأب، ولانت كما لان، لكن إباءها كان يشوبه عناد عنيف، يبعثه إلى نفسها خوفها من أن تضعف هي الأخرى أو أن تلين!
وإنها لتجلس ذات صباح في غرفتها، إذ دخل عليها زوجها، ودفع إليها صورة فوتوغرافية، نظرت فيها فإذا هي صورة طفل، كل نظراته البراءة والذكاء، وفيه منها شبه، حتى لكأنها هي التي ولدته. ونظرت طويلا إلى الصورة وأدركت أن الطفل هو ابن سمية، فترقرقت في عينيها دمعة لم تستطع حبسها، ثم قالت: وما ذنب هذا الطفل البريء الجميل؟ إنني أشعر له في أعماق قلبي بمحبة تعدل غضبي من أمه. ألا ليتني أراه!
وسكت زوجها برهة ثم قال: «وليتني أنا كذلك أراه.» ولم يزد على ذلك، ولم يخاطبها في الموضوع طول ذلك النهار.
فلما أمسيا ، قالت له: «ألا تريني خطاب سمية الذي أرفقت به صورة طفلها؟»
ناپیژندل شوی مخ