وفرحت الفتاة بهذه الحياة الجديدة، فلما انقضى على مقامها بالإسكندرية عدة أشهر، كانت قد كسبت ثقة خالها وزوجته وأبنائه، فكانت الزوجة تعهد إليها في شراء ما لا يتسع وقتها لشرائه.
وبعد عام وبعض العام، أصبحت زهرة فتاة سكندرية، صقلتها حياة المدينة، وجعلت منها في هندامها وحركاتها وحديثها، فتاة حضرية بالمعنى الكامل، وجعلت من ملاحة وجهها، واعتدال قوامها، وشديد خفرها، ورقة حديثها، مسرحا لعين كل شاب يراها ويرى ابتسامة ثغرها الجميل!
وكان لامرأة خالها قريب قليل التردد عليها، فلما رأى زهرة أول حضورها من الريف، وسمع حديثها الصعيدي سخر منها، وإن أعجبته ملاحة وجهها. وكان شابا ماجنا، ولكنه كان ظريفا ذكيا. وكان «أسعد» هذا ربعة في الرجال، عريض المنكبين، مفتول العضل، أشربت بشرته حمرة جعلت زرقة عينيه أكثر وضوحا، وشعره الذهبي أكثر جمالا. وكان كلما رأى زهرة عابثها بصعيديتها وإن أعجب فيما بينه وبين نفسه بما كان يطرأ على تكوينها من تغيير، وفي سلوكها من اندماج في حياة هذه المدينة، التي ولد بها وتربى فيها، فهي عنده الكمال.
فلما تجاوزت زهرة السابعة عشرة، وكملت أنوثتها فأصبحت فتنة للأعين، أخذ أسعد ينتهز الفرصة لمغازلتها كلما خلا له الجو من حولها. لكن الفتاة كانت تصده، وبلغ صدها إياه أحيانا مبلغ العنف، وتشعره بأنها ليست من هاتيك اللواتي يسهل استهواؤهن من بنات المدينة، بل هي صعيدية، النار عندها ولا العار، والمغازلة هي أول العار.
وجرح مسلكها هذا كبرياء أسعد، واعتزازه برجولته وجمال صورته، فرأى أن لا بد له من أن يملك هذه الفتاة التي تتحداه وتتعالى بجمالها عليه. وأول ما صنع من ذلك أن بدل سلوكه معها كل التبديل. فكان إذا انفرد بها، أظهر لها من الاحترام ما يكاد يعدل عدم الاكتراث لجمالها ورقتها. وإذا لقيها في الطريق تحمل مشترياتها، أسرع إليها في أدب جم، وحمل هذه المشتريات عنها. وإذا جاء إلى بنات قريبته ببعض الهدايا حرص على تنويعها ليجيء لزهرة بهدية أنفس وأجمل. وكثيرا ما كان مجونه يضيق بتكلفه هذا السلوك المخالف لطبعه، لكنه قدر أنه لن يبلغ غايته إلا إذا كسب ثقتها. ولا رجاء في كسب هذه الثقة إلا أن يعاند فطرته، ويجري مع زهرة على غير سجيته، وإن كلفه ذلك عناء.
وانتهى إلى كسب ثقتها، بعد أشهر من المجهود الذي كان ينوء به، فلان له حديثها، وراحت تصغي في ارتياح إلى حديثه، فشجعه ذلك على المضي في خطته، فكسب قلبها كما كسب ثقتها وبخاصة حين أخذ يدخل في روعها أن أسعد الناس من تصبح هي زوجته!
وسعدت هي بتلميحه، وتمنت لو يصبح هو هذا الزوج، فحياة الإسكندرية غير حياة قريتها. وأسعد ظريف رقيق رغم مجونه. ترى أترضى أمها عنه؟
واغتبط أسعد حين رآها أسلس قيادا، ثم ازداد غبطة حين شعر بأنها تزداد ضعفا أمامه يوما بعد يوم، فلا تأبى عليه أن تلقاه خارج بيت خالها، وأن تسير معه إلى حيث يريد، ثم لا تأبى عليه أن يقبلها إذا كانا بعيدين عن الأعين.
ودعاها فذهبت معه يوما إلى بيته، سعيدة بأن تتعرف إلى الدار التي ترجو أن تصبح يوما دار الزوجية. وأعجبت بموقع الدار وأثاثها، وفرح قلبها بما أغدقه عليها أسعد من كرم، ومن تدليل وإعجاب، ولم يبق في ظنها أي ريب بعد هذا كله في أنها ستصبح له.
وزارت دار أسعد بعد ذلك غير مرة، وفي كل مرة تزداد الكلفة بينها وبينه ارتفاعا، فلما أصبحا من رفعها على مقربة من النهاية، لم يأب أسعد أن يحدثها عن زواجه منها. عند ذلك آمنت أنها أصبحت في حكمه وأنه أصبح وله من السلطان عليها ما للزوج على زوجه ... فأسلمته كل نفسها، في انتظار اليوم القريب، الذي يعقد فيه زواجهما!
ناپیژندل شوی مخ