أيخيل إلى قيصر أن في مقدوره أن يتحدى القدر؛ فإن ما أقام من مجد، وما شيد من عظمة، وما بنت عبقريته من طارف المجد وتالد العزة، قد ينهار ويتحطم، إذا تولاه الإهمال، وعملت فيه يد التهاون، ومن ذا الذي في مستطاعه أن يحدس النتائج التي تترتب على لهو قيصر، لو أن فلول حزب «پومپيوس» قد جمعوا كيدهم مرة أخرى، إذا علموا أن قيصر يلهو، وأنه قد أخذ بمفاتن ملكة، فراح يهبها قلبه، ويبثها نجواه، ويبادلها الهوى والغرام، كلا، بل إنه سخر رومية لمطامعها، وساق كتائبها؛ فرسانا ومشاة، ليغزو مصر، ثم يلقي بها عند قدميها.
أما الذين هم كانوا أقوى جنانا، وأصرح نفوسا، وأثبت قلوبا، فقد جاهروا بمخاوفهم، ومضوا يترقبون الحوادث في انتباه وحذر، حتى لقد غشت على رومية غاشية من القلق، وأخذها ما يشبه الدوار الكاذب الذي يأخذ أولئك الذين يملكهم تيه الصحراء.
ومهما يكن من أمر المرأة، ومهما يكن في صدرها الحنون من عطف وملذات، ومهما استروح فيها الرجل من عبق السعادة والنعيم، فإن بطلا من طراز قيصر، لا بد من أن يصيخ لكلمات صحبه، وأن يهب من ذلك الفراش الوثير مذعورا، إذا ما أهابوا به «إن شرفك في الميزان»!
ولم تكد هذه الكلمات تخترق أذنيه، حتى استيقظ «قيصر» من سباته، وانتبه فيه البطل، واستخفى الشاعر، كيف لا وقد أدرك أن كل ما أتى من أعمال عظيمة خالدة، وأن كل ما بنى وشيد، وأقام ونجد، إنما يذهب في لحظة هباء، ويطير مع الريح بددا، إذا هو لم يستجب لوحي الساعة، فإن من واجبه أن يغادر مصر توا، وأن يحل عن عنقه ذراعي النمرة التي كادت تستعبده، نعم، كان من واجبه أن يركب جناح القطا إلى رومية - غير أن هنالك واجبا آخر، فإنه كان يحتاج إلى قليل من الزمن، يمهد فيه السبيل للإفضاء بذلك النبأ العظيم إلى المرأة التي كانت ترى فيه العون الأوحد في الحياة، والملاذ الأخير في الدنيا، وبكل ما يتطلب الموقف من لين ودعة، وبكل ما يوجب ذلك الظرف من هدوء وعطف، أفضى «قيصر» إليها بالنبأ الذي روعها، وملأها خوفا وإشفاقا. - «إذن فأنت تحاول أن تحل ذراعي من حول عنقك؟»
وبجماع ما فيها من حرارة وفتنة، جذبته نحوها، وضمته إليها، وتشبثت به تشبثا أملاه الحب والخوف، والحزن والاضطراب ، حتى لقد خشي «قيصر» العظيم أن يلوذ بالهزيمة، إذا طال به موقف الوداع الأول؛ وهو بعد ذلك الرجل الذي تحدى العالم، وخلفه يرجف من تحت قدميه، غير أنه لم يلبث غير بعيد، حتى تذكر الحكمة التي اتخذها في حياته منارا: «الأول دائما، وحيثما كنت.»
فاستعاد شجاعته، واستعلى على وحي المرأة مرة أخرى؛ فإن «قيصر» برغم ما عرف عنه من إباحية واستهتار، لم يكن يعد ذلك الشهواني الذي تخضعه غرائزه في كل الحالات، وتستعبده ملاذه وميوله في كل الظروف، ذلك بأن مزاجه كان يتحرق إلى الحركة، ويحن إلى العمل ويميل إلى الصراع، وبخاصة في حالة كانت تدعوه حوادث السياسة في وطنه إلى المبادرة للعمل والجهاد. - «أيرضيك أن يصبح «قيصر» الذي نظر إلى الناس نظرة أنهم القطعان المسوسة، أن ينزل بجبنه وتهاونه إلى مرتبة أولئك الذين يشملهم احتقاره؟»
ولقد أخذ الحزن بمجامع «كليوبطرا» لما أن بدا لها أن الزمن يكاد يستلبها «قيصر»، كيف تستطيع أن تبسط على «قيصر» سلطانها، وتحوطه بيديها القويتين، وهو عنها بعيدا من ذا الذي سوف يحميها ويدفع عنها عوادي الأحداث ومطامع الطامعين؟ ومن ذا الذي سوف يمد لها يد العون لتخضع أهل مملكتها، إذا هم كشروا لها عن أنياب كأنها المسنونة الزرق، أو شرعوا في وجهها راية العصيان بسواعد مفتولة، وأظافر محدودة؟
كانت «كليوبطرا» قد أوشكت أن تصير أما، فاتخذت من ذلك الرباط الدموي الذي سوف يربطها بقيصر ذريعة استقوت بها عليه، فوعدها ألا يغادر مصر قبل أن ينشق أنفاس الحياة، حفيد أنياس والزهرة، وسليل بيت بطلميوس: ذلك الذي غادر تلال مقدونيا في ركاب الإسكندر جنديا صغيرا، وانتهى به الحظ أن يصير فرعونا للمصريين، وإلها للأغارقة.
أما «قيصر» فكان قد شغل ثانية عن رومية وأحزابها، وعن القيصرية وهمومها، بمقدم ذلك الذي ارتقب مقدمه، ولم يجل في صدر «قيصر» من هم فكان أشد به أخذا، أو أمعن وخزا، من أن الأقدار قد ذرته فردا، فلم يعقب من زوجاته الثلاث اللاتي تزوج منهن وريثا، فلقد أصيب من قبل بموت ابنته «يوليا»؛ ومنذ أن طوتها الأرض، لم تستجب له السماء بما يعوض عليه من فقدها، ولمن سوف يوصي قيصر بثروته الطائلة، وضياعه الواسعة التي يملكها في مقاطعة «امبريا»؟ ومن ذا الذي سوف يزود البشر بأعقاب سلالة «قيصر» القدسية، على توالي الأعصر والأحقاب؟ أيجود عليه الحظ بغلام يرثه ويرث من آل بطلميوس؟ أما الأماني التي منى بها «كليوبطرا»، إن هي وهبته ذلك الوريث، فكانت ولا شك أشبه بالأحلام، وحبذا لو تصدق الأحلام.
لقد كان لأخته «أطيا» ولد، هو «أكتاڨيوس»، ولكنه كان يعلم حق العلم أن ابن أخته ضعيف التكوين، بدنا وعقلا، ناعم النشأة، خوار القلب، غير صبار، وليس المستقبل لخوار العزيمة، ولا للقلق المتردد، وإنما ينزل الناس على حكم القوي، وعند رأي الأحيل، ومن ذا الذي يستطيع أن يحظر أن «ابن السفاح» سوف لا يكون أجدر من «أكتاڨيوس» بالميراث العظيم الذي سيخلفه قيصر «أمبرور» رومية! ولو أن أخيلة استمدها قيصر من نجم ضال في عرض السماوات، أو استخلصها من بطن كهف أجنته أغوار الأرض، لكانت أقرب إلى عقله وقلبه، من أن يتخيل أن سيف «أكتاڨيوس» سوف يحكم في خناق «قيصرون»، ابنه من «كليوبطرا»، بعد دورة قصيرة من الزمان!
ناپیژندل شوی مخ