قېصر اصفر
القيصر الأصفر: ومسرحيات أخرى شرقية
ژانرونه
تمهيد
القيصر الأصفر
الطفل والفراشة
السيد والعبد
رؤيا ننجال
تمهيد
القيصر الأصفر
الطفل والفراشة
السيد والعبد
رؤيا ننجال
ناپیژندل شوی مخ
القيصر الأصفر
القيصر الأصفر
ومسرحيات أخرى شرقية
تأليف
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
من الشرق يطلع النور، وإليه اتجه الغرب - على حد قول الشاعر والمترجم العبقري و«عاشق الأدب العربي» فريدريش ريكرت (1788-1866م) - كما يتجه القمر الشاحب لضياء الشمس كي يتجلى بنورها ويحدق فيها وجها لوجه. وإذا كان بعض أدباء الغرب قد رجعوا إلى الشرق لينهلوا من منابعه الروحية، ويلقوا بأنفسهم في أحضان «الأم الأولى» للغة والشعر والحضارة، ويحاكوا مواده وأساليبه الفنية والأدبية محاكاة إبداعية؛ فقد آن الأوان لكي يتوجه الشرقي صوب الشرق؛ لعله أن يتعرف على كنوزه، ويحقق يوما ذلك الأمل العسير الذي تلخصه حكمة سقراط ومعبد دلفي: «اعرف نفسك»؛ يتساوى في ذلك الشرق الأدنى الذي لم نقترب بعد من جوهره، ولم نتمثل حقيقته التي تكشف عنها آثاره الفنية والأدبية والفكرية في مصر القديمة وأرض الرافدين، أو الشرق الأقصى الذي لم يزد اهتمامنا بتراثه الضخم عن عدد جد قليل من الترجمات والتعريفات المبتسرة، ناهيك عن تقصيرنا حتى اليوم في دراسة لغاته وآدابه ومدارسه الفكرية دراسة علمية دقيقة، كما تفعل كل البلاد المتقدمة.
وليست المسرحيات التي تلتقي بها في هذا الكتاب مجرد «مسرحة» لمجموعة من الحكايات والنصوص التي اطلعت عليها عن اختيار أو اضطرار - بحكم عملي في تدريس الفلسفة الشرقية - ولا هي محاكاة لأشكال ونماذج من الشعر والحكمة المأثورة عن عالم غامض بعيد (على طريقة ريكرت وبلاتين مثلا في الأدب الألماني)، وإنما هي أحاسيس وأفكار وقيم ومواقف جربتها وعايشتها خلال سباحتي المتواضعة في بحر الشرق، ثم ألبستها ثيابا صينية وبابلية، آملا أن تشف لعين القارئ المتعاطف عن هموم مصرية وعربية تجيش بها نفوسنا. ويكفي أن نتذكر أن «جوته» (1749-1832م) صاحب الديوان الشرقي
1 (1819م) وأول من بدأ حركة الاستلهام الأدبي للكنوز الشرقية بصورة جادة ومبدعة؛ قد عكف على كتابة ديوانه أثناء حرب التحرير الألمانية من طغيان نابليون، وأن الكاتب العربي الذي يحج اليوم إلى حكمة النفس الشرقية يريد كذلك أن يتحرر ويساعد غيره على التحرر من أمراض أصابت النفس العربية بالتشوه ومرغتها في حضيض «الأنا وحدية» والتسلط والانتهازية وسائر «اللاقيم» التي تجتاح ذواتنا الفردية والجماعية، وتدفعها لتدمير نفسها بنفسها؛ ولذلك فإن الاتجاه إلى حكمة الشرق القديم ليست هروبا من محنة حاضر تهدده الكوارث، وإنما هو محاولة للتزود بزاد روحي يمكن - بجانب الإصرار على الحرية والفكر العلمي المستنير - أن يعين على الخلاص منها. •••
والمسرحية الأولى في هذا الكتاب، وهي القيصر الأصفر، ثمرة انشغال طويل بالفلسفة الصينية القديمة المعروفة باسم «الطاوية» أو فلسفة «الطاو» (الطريق) التي تقول بالعودة إلى الطبيعة والحياة في ظل البساطة والبراءة والسكينة والاستغناء، بعيدا عن كل رغبة أو فعل يمكن أن يفسد مجرى الطبيعة ويعوق التوافق والتجانس معها، بذلك يتحد الإنسان ب «الطاو» أو بالأحرى يصبح هو «الطاو»؛ لأنه هو الطريق والمعنى، وهو الحقيقة والأصل والقوة التي تسير الكون، وهو الواحد الأزلي الأبدي الذي لا يوصف ولا يسمى. وقد اقترنت الطاوية باسم الحكيم المؤسس لها وهو لاو-تزو (من حوالي 570 إلى حوالي 517ق.م.). كما ارتبطت باسم الحكيم الذي بعث في أفكارها المجردة أنفاس الحياة، وأضفى عليها من شاعريته المبدعة ومثاليته الحالمة، وهو تشوانج-تزو (من حوالي 369 إلى 286ق.م.).
ناپیژندل شوی مخ
يختلف العلماء حول اسم لاو-تزو نفسه: هل هو عنوان مذهب ومدرسة أخلاقية وصوفية دونت تعاليمها في واحدة وثمانين حكمة شاعرية تحمل اسم «اللاو-تزو» وتعرف بكتاب «تاو-تي-كنج» (الطريق والفضيلة)،
2
أم أنه - حسب معناه في اللغة الصينية - هو المعلم الهرم والفيلسوف العجوز، أو الكامل بين القدماء (أو-ثان) الذي اعتزل الناس وذهب إلى محو الذات والاتضاع، واجتناب الشهوة، والحرص على رغبة واحدة هي عدم الرغبة في شيء؟
وتختلف الروايات المأثورة كذلك حول هذا الحكيم الصيني؛ فبعضها يجعل تاريخ مولده في الفترة الواقعة بين القرنين الثالث عشر والسادس قبل الميلاد، وبعضها الآخر يؤكد أنه عاصر حكيم الصين الأكبر كونج-فو-تسو أو كونفوشيوس (من 551-479ق.م.) الذي كان يصغره في العمر ، وأن الأخير سعى للقائه حوالي سنة 517ق.م. فعنفه المعلم العجوز على غروره وادعائه وكثرة تعليماته وقواعده الأخلاقية والاجتماعية، ونصحه بالعودة إلى طريق الحكماء القدماء. ومن هذه الروايات ما يزعم أنه عاش مائة سنة، ومنها ما يدعي أنه لم يمت أبدا، حتى إن كاتبا طاويا من القرن الرابع بعد الميلاد يقرر أن لاو-تزو قد ظهر عدة مرات خلال التاريخ، وأنه في إحدى جولاته إلى الغرب من جزيرة سيلان قد ولد ولادة جديدة على هيئة بوذا. غير أن أرجح المعلومات التاريخية تقول إنه ولد في مزرعة بمقاطعة هو-نان (إلى الجنوب من بكين) وعمل أمينا للوثائق والمحفوظات في بلاط مملكة تشو، في فترة من أشد فترات التاريخ الصيني اضطرابا وأكثرها حروبا. ويبدو أنه اقتنع بعد خدمته الطويلة في «تشو» بأن الدولة في طريقها إلى الخراب، فاعتزل العمل، ووضع متاعه القليل على عربة يجرها ثوران أسودان، واصطحب معه صبيا صغيرا كان هو تابعه الأمين في رحلته. وعند حدود الإمبراطورية وأمام بوابتها الأخيرة تعرف عليه موظف الجمرك أو حارس الحدود، ورجاه أن يقيم في كوخه الفقير ويدون فلسفته، فاستجاب لرجائه وأملاه أكثر من خمسة آلاف كلمة يتألف منها ذلك الكتاب العجيب الذي ذكرناه. ثم رجع إلى عربته ومعه الصبي الصغير، وعبر الجبل في طريقه إلى الغربة، فلم يظهر بعد ذلك أبدا ولم يعرف المكان الذي مات فيه، وإن كان البعض يرجح أنه مات في التييت.
وتعتمد المادة التي نسجت منها «القيصر الأصفر» على شخصية هذا المعلم الحكيم والكثير من أقواله وأشعاره التي وردت في الكتاب الشهير المنسوب إليه، كما تعتمد على عدد من الحكايات والأمثولات التي جاءت في كتابات حكيم الطاوية الآخر تشوانج تزو. وإذا كان لاو-تزو يقوم بدور ثانوي في المسرحية، فإن «بطلها» - إذا صح الحديث هنا عن بطولة! - هو تلميذه الناسك الشاب الذي أعطيته اسم «مين-كين-وو». وهو قديس ثائر أو ثائر قديس يحمل بين جنبيه ذلك الطموح الذي يعذب المصلحين ويتعذبون به، ألا وهو الطموح إلى تغيير العالم. بيد أن الناسك الشاب يتعجل تغيير العالم قبل أن يغير نفسه، ويحاول معلمه أن يرده عن تهوره فلا ينتصح، وينطلق لمواجهة الظلم والقهر والتسلط المجسد في شخصية القيصر الأصفر، فيلقى الأهوال ولا يتخلى عن حلمه بإقامة العدل. وينزوي بعيدا في قرية منسية على حدود الصين يحقق فيها نوعا من «اليوتوبيا» الصوفية التي تصورها حكماء الطاوية في صورة الجماعة الإنسانية المثالية التي تعيش تحت ظلال المحبة والتراحم، والوداعة والنقاء. ولكن هل تصمد مثل هذه «اليوتوبيا» لقوى الظلم والردع والعقاب التي اشتهرت بها الصين القديمة؟ وهل يمكن في ظروف عالمنا المعقد أن نفكر فيها لحظة واحدة، أم هي شطحة من شطحات الحكماء والأدباء لا تستحق منا اليوم أكثر من ابتسامة الإشفاق والرثاء؟ ليس مهما أن نجيب عن هذه الأسئلة؛ فالأهم من ذلك أن «اليوتوبيا»، حتى على هذا المستوى البسيط المتواضع، تظل حلما لا نستطيع أن نتخلى عنه بسهولة. وأكثر من ذلك أهمية أنها تعبر عن ضرورة خالدة لا يمكن التنازل عنها، وهي ضرورة تحدي التسلط الذي يسحق كل أحلام الإنسان، لا في حياة حرة وعادلة ومبدعة فحسب، بل في مجرد أن يحيا حياة سوية. ولا يخفى على القارئ أن التسلط مرضنا العربي المزمن الذي لا أمل في شيء على الإطلاق قبل القضاء عليه. ولولا ضيق المجال لطال بي الحديث عن هذا الموضوع الشائك الذي يمد جذوره في تراثنا ونظم حياتنا وتعليمنا وسلوكنا، والذي ترك في نفسي جراحا ستلازمني إلى آخر عمري وتدخل معي في قبري! •••
والمسرحية الثانية وهي «الطفل والفراشة» أثارتها في نفسي إحدى حكايات «تشوانج-تزو» البديعة التي تقوم على المفارقة الذكية المحيرة، والنزعة المثالية المتطرفة إلى الحد الذي تطمس معه الحواجز الفارقة بين الحقيقة والوهم. ولعل هذه النزعة الذاتية المسرفة - التي تظل تهدد الشعراء والأدباء والفلاسفة أن لم يحترزوا منها بالبدء من الواقع الحي وموضوعية البناء الفني والفكري! - قد كانت وراء تشدد تشوانج-تزو في تأكيد الجوانب السلبية في الفلسفة الطاوية، وخصوصا عدم الفعل «الوو = وي» الذي سبق الحديث عنه، بحيث صورها في صورة الفلسفة الرافضة للقيام بأي دور اجتماعي وإصلاحي أو العاجزة عنه؛ وذلك خلافا لما أراده مؤسسها الأول الذي ضمنها آراء ومواقف تعد ثورية بكل المقاييس إلى اليوم. ولعل ذلك أيضا كان من أسباب معارضة علماء الكونفوشية لتفكير تشوانج-تزو، واتهامهم له بمعاداة الإنسان والتقاليد والمجتمع، ومعاشرة الأشباح والظلال والرياح الشمالية وجماجم الموتى.
ونص الحكاية التي أشرت إليها لا يزيد عن سطور قليلة يقول فيها الحكيم الحائر المحير: «حلمت ذات ليلة، أنا تشوانج-تزو، بأنني فراشة ترف هنا وهناك، وإنني أشبه الفراشة من كل ناحية. لم أدر إلا أنني أتابع أهوائي كما تفعل الفراشة، وغاب عني الوعي بأنني إنسان. وفجأة صحوت مستيقظا من نومي، ووجدتني «أنا نفسي» مرة أخرى راقدا في فراشي. والآن لا أعرف هل كنت إنسانا رأى في الحلم أنه فراشة، أم أني الآن فراشة تحلم بأنها إنسان؟! - بين الإنسان والفراشة حاجز، وتخطي هذا الحاجز هو الذي يسمى بالتحول.»
3
وبجانب هذه الحكاية الشهيرة نسج الخيال حكاية أو أمثولة أخرى عن حكيم دعوته «هوي-تسو» وجعلته يرى في المنام أنه سمكة. والحق إنني عندما بدأت في كتابة هذه المسرحية القصيرة لم أكن أتصور أنها ستصبح سخرية من نوع «الفارس»، أو أنها ستكون نوعا من النقد الذاتي! وربما كان أهم ما يستحق الالتفات فيها هو «التحول» الذي أكده حكماء الطاوية نحو الذات الحقيقية التي تتحد مع السماء والأرض والأبدية والكل، وتتخطى حدود التراب. وتحول الفلاسفة إلى الاتحاد بمعاناة الفقراء المتعبين من أمثال المرأة الشابة التي تشقى لإطعام نفسها وولدها هو في النهاية نوع من التصحيح لأحلام الفلاسفة!
والمسرحية الثالثة «السيد والعبد» تقوم على نص مشهور من نصوص أدب الحكمة البابلية وهو «حوار السيد والعبد». وقد التقيت بهذا النص لأول مرة في الفصل الذي كتبه عالم السومريات الأستاذ توركيلد جاكوبسن في الكتاب القيم «ما قبل الفلسفة» من ترجمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا،
ناپیژندل شوی مخ
4
ثم قرأته بعد ذلك في عدة ترجمات كانت أهمها وأدقها هي ترجمة الأستاذ و. ج. لامبرت في كتابه عن «أدب الحكمة البابلية».
5
ومن المعروف أنه وجد مع آلاف الألواح الطينية الأخرى في مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال (حكم بين سنتي 668 و627ق.م.) وإنه قد دون على أرجح الآراء خلال الألف الأولى قبل الميلاد وفي العصر الكاسي أو الكاشي الذي استمر قرابة أربعة قرون (من حوالي 1795 إلى حوالي 1162ق.م.) وكان على وجه الإجمال عصر انحطاط سياسي واقتصادي في ظل حكام أجانب لا حظ لهم من مجد حمورابي (من 1792 إلى 1720ق.م.) الذي بلغت الحضارة البابلية في عهده ذروة عظمتها وقوتها.
كان أول ما جذبني إلى هذا النص هو الحس الدرامي الذي أجرى به الكاتب أو الشاعر المجهول حواره الذكي الساخر بين السيد البابلي الملول وعبده الصابر الذي تصورت أن الابتسامة لم تفارق شفتيه، ولا شك أن الحوار يمكن أن يوحي بالتشاؤم القاتم والعدمية المطلقة، وربما أشار من بعيد إلى خلفية حضارية أصبح فيها الكل باطلا، وتساوى الفعل وعدم الفعل، وفقد كل شيء قيمته مع انهيار القيم جميعا. ومع ذلك فقد ثرت بطبعي على هذا التفسير المتشائم، وعبرت في ختام المسرحية التي استندت فيها إلى ذلك الحوار عن استحالة الحياة بغير أمل ولا عمل. ولم يمنع هذا من استغلال النص إلى آخر مدى، على الرغم من التصرف في ترتيب أجزائه واللجوء إلى الحق المشروع لأي كاتب في تشكيل مادته بما لا يخرج بها عن هدفها وهيكلها الأصلي.
والمسرحية الأخيرة وهي «رؤيا ننجال» ليست مسرحية بالمعنى التقليدي ولا غير التقليدي. ولا يرجع هذا لكونها «مناجاة» (مونولوج) تدور في صدر ملكة «أور» التي تجتر رؤيا كابوسية أرقت نومها وملأت نفسها رعبا من مصير مدينتها السومرية التي دمرت بالفعل على يد قبائل «الجوتيين» من البدو الغزاة، وإنما يرجع قبل كل شيء إلى أنها ضراعة أو ترتيلة طويلة لمجمع الآلهة السومريين وإلههم الأكبر «إنليل» تنتهي بانتفاضة الشعب المطحون والملكة المترددة المذعورة، وعزمها على إنقاذ «أور» من السقوط؛ صحيح أننا نلتقي خلالها بألوان من الحوار ومشاهد تصور خراب المدينة على يد الشطار والانتهازيين والمتسلطين القدامى في أرض سومر، ولكنها تظل في النهاية ضراعة ومناجاة وترتيلة تردد لحن البكاء على تلك المدينة الماضية الحاضرة، وهو لحن يختتم بالثورة على الفساد والمفسدين فيما يشبه انتفاضة الأطفال الأبرياء والعزل المحاصرين اليوم في فلسطين، بعد أن فاض بهم اليأس من كل شيء، وأوشك بعضهم على انتظار برابرة العصر كما فعلت ننجال وبعض سكان أور في لحظة من لحظات الضعف التي لم تلبث أن تحولت إلى زلزلة وإعصار وطوفان.
ولا بد من القول باختصار إن أدب رثاء المدن المنكوبة قد عرف في حضارة وادي الرافدين، وسجل الشعراء والكتاب والمفكرون السومريون بكاءهم على المدن المدمرة مثل «أور» «ونيبور» (نفر)، وأكد (أجادة) في أوقات المحن والهزائم والخراب. وأقدم نموذج له وجد مدونا على لوح طيني من مدينة «لجش» ويصف دمارها الفظيع على يد عدوتها القاسية مدينة (أوما) التي طالما اشتبك الصراع بينهما على الحدود.
6
وقد التزمت بالنصوص السومرية التي اطلعت عليها في مصادر عديدة سبق أن ذكرت بعضها ولم أجد داعيا للخوض في تفصيلات تاريخية وأثرية يمكن أن يرجع إليها القارئ بنفسه؛ ولذلك أكتفي في هذا التمهيد بالإشارة إلى استفادتي في هذه الترتيلة المسرحية من نصوص أخرى مشهورة في الأدبين السومري والبابلي تؤكد كلها أن مشكلة الشرقي كانت ولم تزل هي مشكلة العدل، وذلك مثل النص المعروف باسم أيوب البابلي «لدلول بيل نيميقي أو سأمجد رب الحكمة» ونص الحوار بين المعذب والصديق (وقد نقلتها للعربية ودرستها في كتاب آخر أرجو أن يرى النور عن قريب)، وذلك بجانب الاستفادة غير المباشرة من قصيدة الشاعر السكندري اليوناني الأصل قسطنطينوس كفافيس (1863-1933م) في انتظار البرابرة.
7 •••
ناپیژندل شوی مخ
وأخيرا يبقى أن أدفع عن نفسي شبهات قد يقع فيها القارئ الذي أفسد فطرته «شبه النقد وأشباه النقاد» الذين استفحل شرهم وزاد إزعاجهم في السنوات الأخيرة. وأول هذه الشبهات أن يتصور أحد أن هذه المسرحيات - كما سبق أن ذكرت - ليست سوى نسيج مصطنع من قراءات ونصوص متفرقة. وأعتقد أن القارئ المتعاطف النقي الفطرة والإحساس سيرد بنفسه على أمثال هذه التصورات عندما يجرب النص ويلمس صدقه. وعلى هذا القارئ أعتمد على الدوام؛ به أثق، وإليه ألجأ من تجاهل النقد الزائف وجهله. ولست في حاجة إلى القول بأن عددا كبيرا من الحكايات والمواقف والشخصيات في «القيصر الأصفر» وغيرها ليس لها أصل بالمرة فيما قرأت من نصوص، وأن أصلها ومنبعها في خيالي وقلبي المهموم بواقعه المصري والعربي الذي لم تعد أزماته خافية على أحد.
والشبهة الثانية التي يمكن أن يقع فيها الظن الحسن أو السيئ هي أن هذه النصوص - وخصوصا القيصر الأصفر - يمكن أن توحي بالحنين إلى القديم أو برغبة المؤلف في «الرجوع إلى الماضي»، ولأن المجال يضيق عن دفع هذا الاتهام، ولأن هذا التعبير الأخير يحمل تناقضه في ذاته؛ فإنني أكتفي باقتباس حكاية قصيرة مأثورة عن حكيم صيني هو هان-في- تزو (من 280-233ق.م.) الذي يعد أعظم حكماء مدرسة المشرعين في الصين القديمة؛
8
فهو يقول صراحة إن الحكيم لا يصح أن يسعى لتقليد القدماء أو السير على طريقهم، أو إقامة أي نموذج أو معيار ثابت يصلح لكل زمان؛ لأن الحكيم الحقيقي هو الذي يعيش عصره ويعرفه، ويصارع مشكلاته. ثم يروي هان-في-تزو هذه الحكاية القصيرة التي تغنيني عن مناقشة المتشنجين من أبناء أمتنا، كما تغنيني عن ترديد كلام المستنيرين من أبناء أمتنا كذلك الذين يقاومون تثبيت مطلق الماضي والقديم في زمن يطالبنا بالتطور والتقدم إلى المستقبل. «كان فلاح من منطقة سونج» «يحرث حقلا يقوم في منتصفه جذع شجرة. وفي يوم من الأيام اندفع أرنب بري عبر الحقل واصطدم بجذع الشجرة، فانكسر عنقه ومات. وترك الفلاح محراثه ووقف بالقرب من الشجرة؛ على أن يتمكن من الإمساك بأرنب آخر بنفس الطريقة. غير أنه لم يحصل على هذا الأرنب أبدا، ولم يجن من ذلك إلا سخرية أهل سونج وضحكهم عليه.» ويعلق الحكيم على هذه الحكاية بقوله: لو أراد أحد اليوم أن يحكم الشعب بنفس السياسة التي اتبعها الملوك القدماء لكان شأنه في تصرفه هذا شأن الفلاح الذي راح ينتظر الأرنب البري بجوار جذع الشجرة.
وأخيرا فليست هذه المسرحيات آخر الأمر سوى محاولات وتجارب أضيفها - ورزقي على الله! - إلى تجارب ومحاولات سابقة، وأقدمها إلى القارئ المتعاطف البصير الذي لن يخذل الإخلاص والصدق أبدا.
القاهرة في شهر شوال 1408ه/يوليو 1988م.
القيصر الأصفر
الشخصيات
المعلم العجوز (لاو-تزو).
الناسك الشاب (مين-كيي-وو).
ناپیژندل شوی مخ
القيصر الأصفر.
الحارس الأول.
الحارس الثاني.
التابع (لو-شون-وانج).
الرجل (موظف الجمرك وحارس الحدود).
صبي.
نساء ورجال وشيوخ من أهل البلدة الصغيرة على حدود الصين.
1 (قاعة يجلس فيها المعلم الصيني العجوز. المعلم مستغرق في تأملاته التي يوقظه منها الناسك الشاب.)
الناسك (بعد أن ينحني ويركع على ركبتيه ويضع جرابه على الأرض) :
معلمي. (المعلم يرفع عينيه إليه ولا يتكلم.)
ناپیژندل شوی مخ
الناسك :
معلمي، لقد أردت أن أودعك.
المعلم (يتطلع إليه وإلى جرابه الملقى بجواره) :
أنت؟ حقا حقا، هذا ما أراه.
الناسك (يرفع صوته قليلا) :
جئت لأستأذنك قبل السفر.
المعلم :
تودع، وتستأذن قبل السفر! وإلى أين عزمت يا ولدي؟
الناسك :
عزمت، رعتك السماء يا معلمي، هذه هي الكلمة الصحيحة؛ لقد توقعت أن تقولها بنفسك.
ناپیژندل شوی مخ
المعلم :
قلت إلى أين عزمت؟
الناسك :
إلى العالم يا معلمي، بعد شهور من السهر والتفكير قررت أن أخرج إلى العالم.
المعلم :
العالم؟ هو في كل مكان نفس العالم؛ يمكنك أن تعرفه دون أن تغادر عتبة دارك، يمكنك أن تراه دون أن تتخطى حدود قريتك. (يمد الكلمات فيما يشبه الغناء):
العالم في كل مكان نفس العالم،
وقديما عرف العالم،
من لم يفتح بابه،
ورأى الأرض.
ناپیژندل شوی مخ
وسلك دروب الفلك الأعلى،
من لم ينظر من نافذته!
فالعالم في كل مكان هو نفس العالم.
الناسك :
كان هذا قديما يا معلمي؛ اليوم تغير الزمن وتغير البشر.
المعلم :
الزمن تغير؟ والبشر تغيروا؟ هل أسمع هذا من تلميذي؟!
الناسك (مندفعا) :
نعم يا سيدي. نعم. لا بد أن أقوله، ولا بد أن تسمعه.
المعلم (في يأس) :
ناپیژندل شوی مخ
تكلم؛ فأنا منصت لك.
الناسك :
إن ما قلته هو كلام الحكماء القدماء. وما اخترت أن أخرج إلى العالم إلا لكي أسير على طريقهم.
المعلم :
ليتك تفعل هذا يا بني؛ فطريق الحكماء القدماء هو طريق الحقيقة.
الناسك :
وهو الطريق الذي علمتني أن أسير عليه.
المعلم :
أنا يا ولدي؟
الناسك :
ناپیژندل شوی مخ
أجل، أجل؛ هل تذكر يوم قلت لي: عندما تحكم الدولة حكما عادلا، فمن حقنا أن لا نشغل أنفسنا بها، أما إذا حكمت حكما ظالما، فمن الواجب أن نزورها.
المعلم :
وهل فكرت في عواقب الزيارة؟
الناسك (أشد اندفاعا) :
نعم يا معلمي. وعلى استعداد أن أتحملها. إن المرضى يتزاحمون على باب الطبيب. والأنين يصم آذان القادرين على السماع. أريد أن أضع حكمتي موضع الاختبار. أريد أن أجرب فائدتها إن كان فيها فائدة.
المعلم :
هل قالت لك حكمتك أن تناطح الثور الهائج؟ هل علمتك أن تلقي بنفسك في فوهة البركان؟
الناسك :
لقد صممت أن أرى كل شيء بنفسي، أن ألمس الجروح بيدي، صممت أن أذهب إلى هناك.
المعلم :
ناپیژندل شوی مخ
إلى هناك! إلى أين تقصد يا بني؟
الناسك :
إلى مملكة «تسي».
المعلم :
أهي التي استشرت فيها نار الظلم؟
الناسك :
وتأكد لي مما سمعت أن القيصر الأصفر الذي يحكمها ظالم مستبد. إنه يتصرف وكأن الدولة لا قيمة لها، ويفعل ما يشاء كأن الشعب لا وجود له؛ لهذا يتهاوى الناس كالأشجار الخاوية التي تضربها العاصفة، وتلقى الجثث في كل مكان كأكوام الرماد المتبقي من الحريق، كالهشيم الذي تتزاحم عليه الطيور الجائعة. إن الشعب قد ضاقت به الحياة، والمملكة كأطلال بيت قديم عشش فيه العنكبوت، وحطت عليه البوم والغربان.
المعلم :
وتريد أن تواجه المملكة والملك!
الناسك :
ناپیژندل شوی مخ
وأعيدها إلى الطريق.
المعلم :
تريد أن تعيدهما إليه قبل أن تعود أنت إليه؟ تريد أن تحققه فيهم قبل أن تتحقق به؟ تريد أن تغير العالم قبل أن تتغير؟!
الناسك :
هذا هو الطريق إلى التحقق والتغيير، هذا هو الطريق إلى الطريق!
المعلم :
الطريق الذي لم تجربه في نفسك قبل أن تجربه في غيرك؟ الذي لم يغيرك قبل أن تسعى لتغيير سواك؟ قل لي يا بني!
الناسك :
تفضل يا سيدي، أسمعني نصائحك قبل الوداع.
المعلم :
ناپیژندل شوی مخ
أخشى أن تسمعها لآخر مرة؛ كيف ستواجه ذلك الحاكم الطائش الطاغية؟
الناسك :
كما واجه الحكماء القدماء أمثاله.
المعلم :
وكيف واجهوهم؟
الناسك :
بالحكمة والفضيلة، بالفطنة وحب البشرية، بالصدق والأمانة والتواضع.
المعلم :
لن تجني من هذا الزرع حبة واحدة!
الناسك :
ناپیژندل شوی مخ
كيف يا معلمي؟
المعلم :
سيكرهك الناس بسبب فضيلتك، وسيتهمونك بالجنون بسبب حكمتك، سيحملونك ذنب الشر الذي جلبته عليهم طيبتك. آه يا ولدي! وسيظلمونك ويعذبونك ويجلدونك.
الناسك (مقاطعا) :
الناس تفعل هذا؟ الشعب؟ لا، لا، لا يمكن أن يفعل الشعب هذا.
المعلم :
يفعله أصحاب النفوس الصغيرة لأنهم يحسدونك على كبريائك. يفعله المتصارعون على الشهرة والمجد لأنك تحتقر الشهرة والمجد، يفعله الجلادون الذين يجدونك أمامهم بلا سوط في يدك. وعندما تقف أمام الناس لتعظهم وتهديهم سينفضون عنك قائلين: هذه طبلة جوفاء جديدة، كالطبول التي طالما دقت آذاننا! نعم يا ولدي، لن تصل بهذه الطريقة إلى قلوبهم. وإذا سمعت نصيحتي قلت لك: لن تصل إلا إلى نهايتك!
الناسك :
إني أسمعك يا معلمي، أرجوك، أكمل نصائحك.
المعلم :
ناپیژندل شوی مخ
نصائحي؟ إني أحوج إليها منك؛ إنما هي أسئلة أتمنى أن تفكر فيها قبل أن تعزم على سفرك.
الناسك :
لقد عزمت يا سيدي. لكني لن أتحرك من مكاني قبل أن تطرحها علي.
المعلم :
وهل ستفكر فيها؟ هل تتذكرها يوما؟ آه من تهور الشباب! آه من اغتراره بخلود الربيع والقوة! ها أنا ذا أسألك يا ولدي.
الناسك :
تفضل يا معلمي. إنني أسمعك.
المعلم :
قلت إنك ستحاول أن تعيد ذلك القيصر الظالم إلى الطريق.
الناسك :
ناپیژندل شوی مخ
نعم نعم، كما أعاد الحكماء القدماء أمثاله إليه.
المعلم :
وكيف تأكدت من ظلمه؟
الناسك :
تأكدت يا معلمي. لا يمكن أن يكون كل من قابلتهم كاذبين. لقيت أفواجا من اللاجئين من مملكة تسي. تكلمت مع الفلاحين وقاطعي الأخشاب وصيادي السمك الفقراء. عرفت من الأطفال والنساء والعجائز ما لحق بالآباء والأزواج والأبناء. حتى الأرض والسماء غاضبان عليه.
المعلم :
الأرض والسماء؟ وكيف هذا؟
الناسك (يتمشى جيئة وذهابا) :
منذ أن تولى القيصر الأصفر حكم المملكة والسحب تمر عليها دون أن تمطر. منذ أن جلس على عرش المملكة وأوراق الشجر تسقط قبل أن تذبل وتجف. منذ أن تسلط على المملكة وبريق الشمس يخفت، وضوء القمر يزداد صفرة وشحوبا. إن مظهره يحارب مخبره. ووجدانه يلعن سلوكه ويتبرأ منه. كل شيء في المملكة صار أصفر أصفر!
المعلم :
ناپیژندل شوی مخ
وكيف تطمع في أن تهديه للطريق؟ كيف تنتظر أن يستمع منك للحقيقة؟
الناسك :
كما قلت يا سيدي، سأقف أمامه كما وقف الحكماء القدماء، سأهتف به في ثبات واتزان: أيها القيصر، لقد اضطرب نظام العالم. اختلت أسس الحياة واهتزت قواعد المملكة. وإرادة السماء لا تنفذ، حيوانات الحقل تهرب مذعورة، تطاردها الذئاب في غيبة الراعي. الطيور تصرخ في الليل، تحوم مولولة فوق الأراضي المتشققة والوديان الذابلة، فوق الحدائق الخاوية من الكروم والعشاق. أما أسراب الجراد فتزحف كالسحب السوداء. والجراد يلتهم ما كان من قبل يسمى شجرا أو عشبا أو خضرة، ينشر الخراب على الأرض، على كل ما يزحف فوقها أو يحلق أو يمشي.
المعلم (مبتسما) :
وستهتف بصوت عال: هذا هو ذنب الحكم، هذا هو ذنب الحاكم!
الناسك (في حماس) :
كما فعل الأجداد من الحكماء؛ الحكماء الذين أتبع طريقهم وأعتقد أنني خادم لهم.
المعلم :
جميل، رائع!
الناسك :
ناپیژندل شوی مخ
والفضل فيه لكم. لقد تعلمته منكم.
المعلم :
وتعلمت أيضا أن تكون خادما للأرض والسماء.
الناسك :
بالطبع، وللطريق الحق، والأبدية والوحدة والواحد يسري في الكل؛ هل هناك اختلاف بين خدمة الأسلاف وخدمة الأرض والسماء؟
المعلم :
في الأصل لا. ولكن في هذه الحالة نعم!
الناسك :
أرجوك، فسر كلامك.
المعلم :
ناپیژندل شوی مخ
استمع إلي؛ سأفسره من ناحية الحاكم.
الناسك :
القيصر الأصفر؟
المعلم :
نعم نعم. هذا الذي تقول إنه صبغ كل شيء بلونه البغيض. ثم من ناحيتك أنت أيضا يا ولدي.
الناسك :
كل كلمة تقولها تزيد من تصميمي وعزمي.
المعلم :
تزيد من عزمك؟! لا أدري. إن هذا الحاكم الأصفر يستعرض الكمال أمام الناس ويملؤه الغرور كما يملأ القش كيسا منفوخا. هل نقول إنه يخفي نقصه وضعفه وراء أبهته وقوته؟ من الصعب أن نحكم على حقيقة أمثاله من مظهرهم؛ فهو يرفض أن يعارضه أحد. ولذلك يستمتع بإحناء ظهور الآخرين. وهو يعلم أنه فراغ وخواء من الداخل ؛ ولذلك يلذ له أن يفرغ من حوله ويجعلهم خواء لكي يطمئن. وقد لا يطمئن يا بني حتى يرى أمثالك تمزقهم الأغلال، أو تتدلى رءوسهم وألسنتهم من فوق المشانق!
الناسك :
ناپیژندل شوی مخ