قوانين الأصول للمحقق الفقيه ميرزا أبو القاسم القمي المتوفى سنة 1231 -
مخ ۱
ليت ابن سينا درى إذ جاء مفتخرا * باسم الرئيس بتصنيف لقانون إن الإشارات والقانون قد جمعا * مع الشفا في مضامين القوانين هذا كتاب قوانين الأصول بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا إلى أصول الفروع وفروع الأصول وأرشدنا إلى شرائع الاحكام بمتابعة الكتاب وسنة الرسول صلى الله عليه وآله وقفا هما ببيان أهل الذكر ومعادن التنزيل الذين هم الخلفاء من آل الرسول صلى الله عليه وعليهم صلاة كثيرة متتالية مقترنة بالكرامة متلقاة بالقبول ما دامت عقد المشكلات منحلة بأنامل الدلائل وظلم الشبهات منجلية بأنوار العقول. أما بعد فهذه نبذة من المسائل الأصولية وجملة من مباني المسائل الفقهية جعلتها تذكرة لنفسي وللطالبين وتبصرة لمن استرشد في سلوك نهج الحق المبين وذخيرة مرجوة لأجل فقري وفاقتي يوم الدين حداني إلى رسمها مذاكرة جمع من فضلاء الأصحاب ومباحثة جملة من أزكياء الأحباب وكان ذلك عند قرائتهم علي أصول كتاب معالم الدين للفاضل المحقق المدقق الشيخ حسن بن الشيخ زين الدين حشرهما الله مع الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين فافتلذت ثمار تحقيقات عند التنزه في بساتين عوائده ووضعت هذه الوريقات على ترتيبه وأضفت مسائل إلى مسائله وفوائد إلى فوائده ونبهت على ما في بعض إفاداته وأعرضت عن كثير من زوايده وإذا وجدت وضع شئ منها على خلاف المعهود من مصنفات القوم فعذره الحرص على تكثير الفايدة مع عدم اقتضاء المقام إلا لذلك فاقتصرت بأدنى مناسبة في الاقحام بجعل الزوايد إما مقدمة لأصل أو خاتمة أو غير ذلك وربما أضفت أصلا عليه حسب ما ساعدني الوقت والمجال وأفردت قانونا في هذه القاعدة التي لم تذكر فيه على وفق مقتضى الحال وسميته بالقوانين المحكمة ورتبته على مقدمة وأبواب وخاتمة وهذا الكتاب مع أن مؤلفه قصير الباع وقاصر الذراع وليس محسوبا من جملة من يرتكب هذا الشأن ويؤسس هذا البنيان وليس في مضمار الاستباق إلا كراكب القصب أو كراجل التفت ساقه بالساق بالساق فهو من فضل الله مشتمل على ما لم يشتمل عليه زبر السابقين ومخرج لجواهر ما اختفى من الحقائق في كنوز كلمات الفائقين فإن وجدتها بعد
مخ ۲
استيفاء الفكر واستقصاء النظر حقيقا بالقبول فلله الحمد على ذلك وإلا فالملتمس منك الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. أما المقدمة ففي بيان رسم هذا العلم وموضوعه ونبذ من القواعد اللغوية. واعلم أن قولنا أصول الفقه علم لهذا العلم وله اعتباران من جهة الإضافة ومن جهة العلمية فأما رسمه باعتبار العلمية فهو العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية فخرج بالقواعد العلم بالجزئيات وبقولنا الممهدة المنطق والعربية وغيرهما مما يستنبط منه الاحكام ولكن لم يمهد لذلك وبالاحكام ما يستنبط منها الماهيات وغيرها وبالشرعية العقلية وبالفرعية الأصولية وأما رسمه باعتبار الإضافة فالأصول جمع أصل وهو في اللغة ما يبتنى عليه شئ وفي العرف يطلق على معان كثيرة منها الأربعة المتداولة في ألسنة الأصوليين وهي الظاهر والدايل؟ والقاعدة والاستصحاب والأولى هنا إرادة اللغوي ليشتمل أدلة الفقه إجمالا و غيرها من عوارضها ومباحث الاجتهاد والتقليد وغيرهما والفقه في اللغة الفهم وفي العرف هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية والمراد بالأحكام هي النسب الجزئية وبالشرعية ما من شأنه أن يؤخذ من الشارع وإن استقل بإثبات بعضها العقل أيضا فخرج بالشرعية العقلية المحضة التي ليس من شانها ذلك كبيان أن الكل أعظم من الجزء والنقيضان لا يجتمعان وبالفرعية ما يتعلق بالعمل بلا واسطة فخرج بها الأصولية وهو ما لا يتعلق بالعمل بلا واسطة وإن كان لها تعلق بعيد و ههنا إشكال مشهور بناء على تعريف الحكم الشرعي بأنه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين مع كون الكتاب من أدلة الاحكام وهو أيضا خطاب الله فيلزم اتحاد الدليل والمدلول واستراح الأشاعرة عن ذلك بجعل الحكم هو الكلام النفسي والدليل هو اللفظي وفيه مع أن الكلام النفسي فاسد في أصله ان الكتاب مثلا حينئذ كاشف عن المدعى لا أنه مثبت للدعوى فلا يكون دليلا في الاصطلاح والذي يخالجني في حله هو جعل الاحكام عبارة عما علم ثبوته من الدين بديهة بالاجمال والأدلة عبارة عن الخطابات المفصلة فإنا نعلم أولا بالبديهة أن لاكل الميتة وأكل الربا وغيرهما حكما من الاحكام ولكن لا نعرفه بالتفصيل إلا من قوله تعالى حرمت عليكم الميتة وحرم الربوا ونحو ذلك وهيهنا إشكال آخر وهو أن الاحكام كما ذكرت هي النسب الجزئية فموضوعاتها خارجة وقد تكون نفس العبادة ولا ريب أن معرفة ماهية العبادة وظيفة الفقه فلا ينعكس الحد ويمكن دفعه لالتزام الخروج لان تلك الموضوعات من جزئيات موضوع العلم وتصور الموضوع وجزئياته من مبادئ العلم والمبادئ قد تبين في ذلك العلم وقد تبين في غيره وتصور المضوع وأجزائه وجزئياته يحصل غالبا في أصل العلم ولا منافاة بين خروجه عن تعريف
مخ ۵
العلم ودخوله في طي مسائله وقولنا عن أدلتها من متعلقات العلم لا الاحكام فخرج علم الله وعلم الملائكة والأنبياء عليهم السلام ويمكن إخراج الضروريات أيضا عن ذلك فإنها من جملة القضايا التي قياساتها معها ولا يسمى ذلك في العرف استدلالا لا العلم الحاصل معها علما محصلا من الدليل وإن كان تلك الضرورة علة لتلك العلوم في نفس الامر وأما إخراج مطلق القطعيات عن الفقه كما يظهر من بعضهم فلا وجه له إذ الاستدلال قد يفيد القطع وقبله لم يكن قطع بالحكم وخرج بالتفصيلية علم المقلد في المسائل فإنه ناش عن دليل إجمالي مطرد في جميع المسائل وهو أن كلما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقي هكذا قرره القوم أقول ويرد عليه أن ذلك الدليل الاجمالي بعينه موجود للمجتهد وهو أن كلما أدى إليه ظني فهو حكم الله في حقي وحق مقلدي فإن قلت نعم ولكن له أدلة تفصيلية أيضا مثل أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونحوهما والمراد هنا تلك وليس مثلها للمقلد قلت للمقلد أيضا أدلة تفصيلية فإن كل واحد من فتاوي المفتي في كل واقعة دليل تفصيلي لكل واحد من المسائل فالأولى في الاخراج التمسك بإضافة الأدلة إلى الاحكام وإرادة الأدلة المعهودة فإن الإضافة للعهد فيكون التفصيلية قيدا توضيحيا ثم أن ما ذكرته بناء على عدم الاغماض عن طريقة القوم رأسا وإلا فأقول إن ما ذكره القوم من كون التفصيلية احترازا عن علم المقلد إنما يصح إذا كان ما ذكروه من الدليل الاجمالي للمقلد دليلا لعلمه بالحكم وليس كذلك بل هو دليل لجواز العمل به ووجوب امتثاله وكونه حجة عليه كما أن الدليل الاجمالي الذي ذكرناه للمجتهد هو أيضا كذلك فلا يحصل بذلك احتراز عما ذكروه ويمكن أن يقال ان قيد التفصيلية لاخراج الأدلة الاجمالية كما بينا سابقا من أن ثبوت الاحكام في الجملة من ضروريات الدين فما دل على ثبوت الاحكام إجمالا من الضرورة وغيرها مثل عمومات الآيات والأخبار الدالة على ثبوت التكاليف إجمالا أدله لكن إجمالا لا تفصيلا وهذا لا يسمى فقها بل الفقه هو معرفة تلك الأحكام الاجمالية من الأدلة التفصيلية والعجب من فحول العلماء كيف غفلوا عن ذلك ولم يسبقني إلى ما ذكرته أحد فيما أعلم ثم أنهم أوردوا على الحد بأمرين الأول أن الفقه أكثره من باب الظن لابتنائه غالبا على ما هو ظني الدلالة أو السند فما معنى العلم وأجيب عنه بوجوه أوجهها أن المراد بالأحكام الشرعية أعم من الظاهرية والنفس الامرية فإن ظن المجتهد بعد انسداد باب العلم هو حكم الله الظاهري بالنسبة إليه كالتقية في زمان المعصوم عليه السلام فإذا سمع المكلف من لفظه في حال التقية يحصل العلم به مع أنه ليس بحكم الله النفس الأمري ولكن هو حكم الله بالنسبة إليه وإلى ذلك ينظر قول من قال أن الظن في طريق الحكم لا في نفسه وإن ظنية الطريق لا ينافي
مخ ۶
قطعية الحكم وذلك لا يستلزم التصويب كما توهمه بعض الأصحاب ومنها أن المراد بالعلم هو الظن أو الاعتقاد الراجح فيشمل الظن ومجاز يبعد استعماله في الحدود ومنها أن المراد به العلم بوجوب العمل به ومنها أن المراد العلم بأنه مدلول الدليل وكلها بعيد والثاني أن المراد بالأحكام إن كان كلها كما هو مقتضى ظاهر اللفظ فيخرج عنه أكثر الفقهاء لو لم يخرج كلهم وإن كان البعض فيدخل فيه من علم بعض المسائل بالدليل. والجواب انا نختار أولا إرادة الكل ولكن المراد بالعلم التهيؤ والاقتدار والملكة التي بها يقتدر على استنباط الاحكام من الأدلة ولا ينافي ذلك ما مر من الأجوبة عن السؤال الأول من جهة أنها مبتنية على جعل العلم بمعنى الادراك كما هو الظاهر فيما ذكر متعلقه سواء كان الادراك يقينيا أو ظنيا والملكة لا تتصف بالظنية والعلمية لأنا نقول الملكة معنى مجازي للعلم بمعنى الادراك فتتصف بالظنية والعلمية باعتبار الادراك أيضا فنقول بناء على جعل العلم بمعنى اليقين أن المراد الملكة التي يقتدر بها (على الادراكات اليقينية على جعله بمعنى الظن) على الادراكات الظنية غاية الامر أنه يلزم على إرادة الظن من العلم سبك مجاز من مجاز فالعلم بالحكم مجاز عن الظن به والظن به مجاز عن ملكة يقتدر بها على تحصيل الظن به وكذلك يلزم ذلك على الوجهين الأخيرين فالعلم على أول الوجهين استعارة للظن بمشابهة وجوب العمل كما أن في الصورة السابقة (الملكة التي يقتدر بها) كان استعارة بمشابهة رجحان الحصول أو مجازا مرسلا بذكر الخاص وإرادة العام ثم يترتب على ذلك إرادة الملكة من ذلك بعلاقة السببية والمسببية ويظهر من ذلك الكلام في الوجه الأخير أيضا وهو أردء الوجوه وأما على ما اخترناه من الوجه الأول فلا يلزم ذلك وثانيا إرادة البعض و تقول إما أن يمكن تحقق التجزي بأن يحصل للعالم الاقتدار على استنباط بعض المسائل عن المأخذ كما هو حقه دون بعض أو لا يمكن فعلى الثاني فلا ينفك الفرض عن المجتهد في الكل وعلى الأول كما هو الأظهر فإما أن نقول بحجيته وجواز العمل به كما هو الأظهر أو لا وعلى الأول فلا إشكال أيضا لأنه من افراد المحدود وعلى الثاني فإن قلنا أن التعريف لمطلق الفقه فيصح أيضا وإن قلنا أنه للفقه الصحيح فيقع الاشكال في إخراجه واستراح من جعل العلم في التعريف عبارة عما يجب العمل به بأن ذلك خرج عن العلم فإنه ليس بذلك ويمكن دفعه على ما اخترناه أيضا بأنه لم يثبت كون ما أدركه حكما شرعيا حقيقيا ولا ظاهريا لان الدليل لم يقم على ذلك فيه وأما موضوعه فهو أدلة الفقه وهي الكتاب والسنة والاجماع والعقل وأما الاستصحاب فإن اخذ من الاخبار فيدخل في السنة وإلا فيدخل في العقل وأما القياس فليس من مذهبنا قانون اللفظ قد يتصف بالكلية والجزئية باعتبار ملاحظة المعنى كنفس المعنى فما يمنع نفس تصوره عن وقوع الشركة فجزئي وما لا يمنع فهو كلي فإن تساوى صدقه في
مخ ۹
جميع أفراده فمتواط وإلا فمشكك وهذا التقسيم في الاسم واضح واما الفعل والحرف فلا يتصفان بالكلية والجزئية في الاصطلاح ولعل السر فيه أن نظرهم في التقسيم إلى المفاهيم المستقلة التي يمكن تصورها بنفسها والمعنى الحرفي غير مستقل بالمفهومية بل هو أمر نسبي رابطي وآلة لملاحظة حال الغير في الموارد المشخصة المعينة لا يتصور انفكاكها أبدا عن تلك الموارد فهي تابعة لمواردها وكذلك الفعل بالنسبة إلى الوضع النسبي فإن له وضعين فبالنسبة إلى الحدث كالاسم وبالنسبة إلى نسبته إلى فاعل ما كالحرف وأما أسماء الإشارة والموصولات والضماير ونحوها فإن قلنا بكون وضعها عاما والموضوع له خاصا فيشبه الحروف لمناسبتها في الوضع فلا بد أن لا يتصف بالكلية والجزئية وإنما المتصف هو كل واحد من الموارد الخاصة ولعل ذلك هو السر في عدم التفات كثير منهم في تقسيماتهم للمعاني وللألفاظ إليها وأما على القول بكون الموضوع له فيها عاما كالوضع كما هو مذهب قدماء أهل العربية فهو داخل في الكلي (فيكون) مجازا بلا حقيقة لان الاستعمال لم يقع إلا في الجزئيات ثم أن اللفظ والمعنى إما أن يتحدا بأن يكون لفظ واحد له معنى واحد له معنى واحد فاللفظ متحد المعنى والمعنى متحد اللفظ أولا فان تكثر كل منهما فالألفاظ متباينة سواء توافقت المعاني أو تعاندت وإن تكثرت الألفاظ واتحد المعنى فمترادفة وإن اتحد اللفظ وتكثرت المعاني فإن وضع لكل منهما مع قطع النظر عن الآخر ومناسبته سواء كان مع عدم الاطلاع كما لو تعدد الواضعون أو عدم التذكر أو مع التذكر ولكن لم يلاحظ المناسبة فمشترك ويدخل فيه المرتجل وربما جعل قسيما له نظرا إلى أن المشترك هو ما لا يلاحظ فيه المعنى الاخر وإن كان من جهة عدم المناسبة أيضا بخلاف المرتجل فيلاحظ فيه عدم المناسبة فيحصل فيه نوع تبعية وفيه تعسف فعلى هذا يخرج المبهمات من المشترك على القولين لعدم تعدد الوضع المستقل بالنسبة إلى كل واحد من الجزئيات أما على قول قدماء أهل العربية فظاهر واما على القول الاخر فلان الملحوظ حين الوضع هو المعنى الكلي ووضع لكل واحد من الجزئيات بوضع واحد لا متعدد ولا ينافي ذلك ثبوت الاشتراك في الحروف بالنسبة إلى المفهومات الكلية كالتبعيض والتبيين وإن لم نقل باشتراكها في خصوص الموارد الجزئية وإن اختص الوضع المستقل بواحد فهو الحقيقة والباقي مجاز إن كان الاستعمال فيها بمجرد المناسبة والعلاقة مع القرينة وإن كانت مجرد الشهرة ليدخل المجاز المشهور كما سيجئ أو منقول إن ترك المعنى الحقيقي أولا ووضع لمعنى آخر بمناسبة الأول أو استعمل في المعنى المجازي وكثر استعماله إلى أن وصل إلى حد الحقيقة فالمنقول قسمان تخصيصي و تخصصي والثاني يثمر بعد معرفة تأريخ التخصيص وهذا كله في الأسماء ظاهر وأما الافعال والحروف
مخ ۱۰
فالحقيقة والمجاز فيها إنما هو بملاحظة متعلقاتها وتبعيتها كما في نطقت الحال وليكون لهم عدوا هذا بحسب المواد وأما الهيئة فقد يتصف الفعل بالحقيقة والمجاز والاشتراك والنقل كالماضي للاخبار والانشاء والمضارع للحال والاستقبال والامر للوجوب والندب ولا يذهب عليك ان الحيثية معتبرة في هذه الأقسام فقد يكون المشترك مبائنا أو مرادفا والمرادف مبائنا إلى غير ذلك فلاحظ ولا تغفل قانون اللفظ إن استعمل فيما وضع له من حيث هو كذلك فحقيقة وفي غيره لعلاقة فمجاز والحقيقة تنسب إلى الواضع وفي معنى الوضع استعمال اللفظ في شئ مع القرينة مكررا إلى أن يستغنى من القرينة فيصير حقيقة فالحقيقة باعتبار الواضعين والمستعملين في غير ما وضع له إلى حد الاستغناء عن القرينة تنقسم إلى اللغوية والعرفية الخاصة مثل الشرعية والنحوية والعامة وكذلك المجاز بالمقايسة واعلم أن المجاز المشهور المتداول في ألسنتهم المعبر عنه بالمجاز الراجح يعنون به الراجح على الحقيقة يريدون به ما يتبادر به المعنى بقرينة الشهرة وأما مع قطع النظر عن الشهرة فلا يترجح على الحقيقة وإن كان استعمال اللفظ فيه أكثر وسيجئ تمام الكلام وأما المجاز الذي صار في الشهرة بحيث يغلب على الحقيقة ويتبادر ولو مع قطع النظر عن الشهرة فهو حقيقة كما بينا قانون اعلم أن الجاهل بكل اصطلاح ولغة إذا أراد معرفة حقائق ألفاظه ومجازاته فله طرق الأول تنصيصهم بأن اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني وإن استعماله في الفلاني خلاف موضوعه الثاني التبادر وهو علامة الحقيقة كما أن تبادر الغير علامة المجاز والمراد بالتبادر أن الجاهل بمصطلح هذه الطائفة إذا تتبع موارد استعمالاتهم ومحاوراتهم وعلم من حالهم أنهم يفهمون من لفظ خاص معنى مخصوصا بلا معاونة قرينة حالية أو مقالية ولو كان شهرة في الاستعمال في المعنى الغير الموضوع له وعرف ان ذلك الفهم من جهة نفس اللفظ فقط يعرف ان هذا اللفظ موضوع عندهم لذلك المعنى وينتقل إليه انتقالا آنيا فيكون التبادر معلولا للوضع وأما العالمون بالأوضاع فلا يحتاجون إلى اعمال هذه العلامة إلا من جهة إعلام الجاهل ولما كان استناد الانفهام إلى مجرد اللفظ وعدم مدخلية القرينة فيه أمرا غامضا لتفاوت الافهام في التخلية وعدمه وتفاوت القرائن في الخفاء والوضوح فمن ذلك يجئ الاختلاف في دعوى التبادر من (الاجانبة)؟ بالاصطلاح المذكور فقد يكون الانفهام عند أهل هذا الاصطلاح من جهة القرائن الخفية ويدعي الغافل التبادر بزعم انتقاء القرينة ويدعي خصمه التبادر في معنى آخر وهكذا ولذلك أوجبوا استقراء غالب موارد الاستعمال ليزول هذا الاحتمال فالاشتباه والخلط إما لعدم استفراغ الوسع في الاستقراء وإما لتلبيس الوهم و
مخ ۱۳
اخفاء القرينة على المدعى ولذلك قالوا ان الفقيه متهم في حدسه بالنسبة إلى العرف وان كان هو من أهل العرف لكثرة وفور الاحتمالات وغلبة مزاولة المتخالفة من الاستعمالات مع ما يسنحه من المنافيات من جهة الأدلة العقلية والنقلية فلذلك قد يدعي أحدهم ان الامر بالشئ ء لا يدل على النهى عن ضده الخاص عرفا بأحد من الدلالات كما هو الحق ويدعي اخر دلالته لما التبس عليه الامر من جهة الأدلة العقلية التي قربت إليه مقصوده وكذلك في مقدمة الواجب فلابد ان يرجع إلى عرف عوام العرب فإنهم هم اللذين لا يفهمون شيئا الا من جهة نفس وضع اللفظ فالفقيه حينئذ كالجاهل بالاصطلاح وان كان من جملة أهل هذا الاصطلاح وبالجملة لابد من بذل الجهد في معرفة ان انفهام المعنى انما هو من جهة اللفظ لاغير وبما ذكرناه يندفع ما يتوهم ان التبادر كما هو موجود في المعنى الحقيقي فكذلك في المجاز المشهور فلا يكون علامة للحقيقة ولا لازما خاصا لها بل هو أعم من الحقيقة وتوضيح ذلك أن المجاز المشهور هو ما يبلغ في الاشتهار بحيث يساوي الحقيقة في الاستعمال أو يغلب ثم إن آل الامر فيه إلى حيث يفهم منه المعنى بدون القرينة ويتبادر ذلك حتى مع قطع النظر عن ملاحظة الشهرة أيضا فلا ريب انه يصير بذلك حقيقة عرفية كما ذكرنا سابقا وهذا أيضا وضع فالتبادر كاشف عنه وان لم يكن كذلك بل كان بحيث يتبادر المعنى بإعانة الشهرة وسببيته وان لم يلاحظ تفصيلا وهو الذي ذكره الأصوليون في باب تعارض الأحوال واختلفوا في ترجيحه على الحقيقة المرجوحة في الاستعمال فالحق ان هذا مجاز والتبادر الحاصل في ذلك ليس من علائم الحقيقة والذي اعتبر في معرفة الحقيقة هو التبادر من جهة اللفظ مع قطع النظر عن القرائن وان كانت القرينة هي الشهرة والموجود فيما نحن فيه انما هو من جهة القرينة وبعدما بينا لك سابقا لا مجال لتوهم ان يقال ان الجاهل بالاصطلاح إذا رأى أن أهل هذا الاصطلاح يفهم من اللفظ هذا المعنى ولا يظهر عليه ان ذلك من جهة الشهرة أو من جهة نفس اللفظ فينفي القرينة بأصل العدم ويحكم بالحقيقة مع أنه في نفس الامر مجاز فالتبادر لا يثبت الحقيقة فقط وذلك لان أصل العدم لا يثبت الا عدم العلم بالقرينة وما ذكرنا مبني على لزوم العلم بعدم القرينة حتى يختص بالحقيقة هذا إذا قلنا بلزوم تحصيل العلم في الأصول واما على القول بعدمه كما هو الحق والمحقق فهذا الظن الحاصل من الأصل مع التتبع التام في محاورات أهل ذلك الاصطلاح يقوم مقام العلم كما في سائر المسائل الأصولية والفقهية وغيرها فاعتقاد كونها حقيقة مع كونها مجازا في نفس الامر غير مضر مع أن هذا لا يتصور الا في فرض نادر كما لا يخفى فلا يوجب القدح في القواعد المبتنية على الغالب وينبه على ما ذكرنا البناء على أصالة الحقيقة فيما لم يظهر قرينة المجاز وان كان المراد هو المجاز في نفس الامر فان قلت
مخ ۱۴
فأي فايدة في هذا الفرق وما الفرق بين المجاز المشتهر إلى أن يفهم منه المعنى مع قطع النظر عن الشهرة وما يتبادر منه المعنى مع ملاحظة الشهرة بل هذا مجرد اصطلاح ولا يثمر ثمرة في الاحكام قلت الفرق واضح فان الحقيقة في الأول مهجورة وفي الثاني غير مهجورة فان قلت إذا كان الحقيقة الأولى محتاجة في الانفهام إلى القرينة فهو أيضا في معنى المهجورة فيصير معنى مجازيا كالصورة الأولى قلت ليس كذلك اما أولا فلان احتياج الحقيقة حينئذ إلى القرينة انما هو لعدم إرادة المعنى المجازي فان دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي موقوف على انتفاء قرينة المجاز حقيقة أو حكما ولا شبهة في ذلك فان انفهام الحيوان المفترس من الأسد موقوف على فقدان يرمي مثلا ولما لم يمكن إزالة الشهرة التي هي قرينة في هذا المجاز حقيقة فيكتفى بانتفائها حكما بنصب قرينة تدل على المعنى الحقيقي كما أشار إليه الفاضل المدقق الشيرواني واما ثانيا فلان اللفظ يستعمل في المعنى الحقيقي حينئذ أيضا بلا قرينة غاية الامر حصول الاحتمال فينوب مناب الاشتراك ولا يسقط عن كونه حقيقة ولا يلزم الاشتراك المرجوح أيضا الا ترى ان صاحب المعالم ره مع أنه جعل الامر في اخبار الأئمة عليهم السلام مجازا راجحا في الندب مساويا للحقيقة من جهة التبادر وعدمه لم يقل بصيرورته مجازا في الوجوب في عرفهم فان الذي يصح ان يحمل كلامه عليه دعوى شيوع استعمال الامر في كلامهم في الندب خاليا عن القرينة وانفهام إرادة الندب من رواية أخرى أو اجماع أو غير ذلك فان كثرة الاستعمال مع القرينة لا يستلزم ما ذكره كما لا يخفى وهو لا ينكر ان الامر في كلامهم (عليهم السلام) ثم أيضا مستعمل في الوجوب بلا قرينة وان علم الوجوب من الخارج ولا يتفاوت الامر حينئذ بين تبادر المجاز الراجح أو حصول التوقف والظاهر أن من يقول بتبادر المجاز الراجح أيضا لا يقول بعدم جواز الاستعمال في اللفظ بلا قرينة غاية الامر توقف الفهم على القرينة ومطلق ذلك التوقف لا يستلزم المجازية ولذلك اختلفوا في مبحث تعارض الأحوال في حكم اللفظ إذا دار الامر بين الحقيقة والمجاز الراجح فقيل بتقديم الحقيقة من جهة رجحان جانب الوضع وقيل بتقديم المجاز الراجح لترجيح جانب الغلبة فان الظن يلحق الشئ بالأعم الأغلب ومثل ما ذكرنا مثل المشترك إذا اشتهر في أحد معانيه مثل العين في الباصرة أو هي مع الينبوع أو هي مع الذهب فإنه لا ريب انه عند اطلاقها ينصرف الذهن إلى أحد المذكورات لا إلى غيرها من المعاني ومع ذلك فلا يجوز الاعتماد على هذا الانصراف وبالجملة التبادر مع ملاحظة الشهرة لا يثبت كونها حقيقة ولا يخرج الحقيقة الأولى عن كونها حقيقة فتأمل وافهم واستقم وبالتأمل فيما حققنا تعلم معنى كون تبادر الغير علامة للمجاز الثالث صحة السلب يعرف بها المجاز كما تعرف الحقيقة بعدمها والمعتبر فيه أيضا اصطلاح التخاطب فصحة السلب وعدمها في اصطلاح لا يدل الا على كون
مخ ۱۷
اللفظ مجازا أو حقيقة في ذلك الاصطلاح كما عرفت في التبادر والمراد صحة سلب المعاني الحقيقية عن مورد الاستعمال وعدمها مثل قولهم للبليد ليس بحمار وعدم جواز ليس برجل وزاد بعضهم في نفس الامر احترازا عن مثل قولهم للبليد ليس بانسان ولا حاجة إليه لان المراد صحة سلب المعاني الحقيقية حقيقة والأصل في الاستعمال الحقيقة فالقيد غير محتاج إليه وان كان مؤداه صحيحا في نفس الامر وقد أورد على ذلك باستلزامه الدور المضمر بواسطتين فان كون المستعمل فيه مجازا لا يعرف الا بصحة سلب جميع المعاني الحقيقية ولا يعرف سلب جميع المعاني الحقيقية الا بعد معرفة ان المستعمل فيه ليس منها بل هو معنى مجازي لاحتمال الاشتراك فإنه يصح سلب بعض معاني المشترك عن بعض وهو موقوف على معرفة كونه مجازا فلو أثبت كونه مجازا بصحة السلب لزم الدور المذكور واما لزوم الدور في عدم صحة السلب فان عدم صحة سلب المعنى الحقيقي موقوف على معرفة المعنى الحقيقي فلو توقف معرفة المعنى الحقيقي على عدم صحة سلب المعنى الحقيقي لزم الدور هكذا قيل والحق ان الدور فيه أيضا مضمر لان معرفة كون الانسان حقيقة في البليد موقوف على عدم صحة سلب المعاني الحقيقية للانسان عنه وعدم صحة سلب المعاني الحقيقية للانسان عنه موقوف على عدم معنى حقيقي للانسان يجوز سلبه عن البليد كالكامل في الانسانية ومعرفة عدم هذا المعنى موقوف على معرفة كون الانسان حقيقة في البليد نعم لو قلنا ان قولنا عدم صحة سلب الحقائق علامة الحقيقة سالبة جزئية كما هو الظاهر فلا يحتاج إلى اضمار الدور لكنه لا يثبت الا الحقيقة في الجملة وبالنسبة كما سنذكره وعلى هذا فلم لم يكتفوا في جانب المجاز أيضا بالموجبة الجزئية ويقولوا ان صحة سلب بعض الحقايق علامة للمجاز في الجملة وبالنسبة وقد أجاب عنه بعضهم بان المراد انا إذا علمنا الحقيقي للفظ ومعناه المجازى ولم نعلم ما أراد القائل منه فانا نعلم بصحة سلب المعنى الحقيقي عن المورد ان المراد المعنى المجازي وذلك ظاهر ثم قال إن ذلك الدور لا يمكن دفعه في جانب جعل عدم صحة السلب علامة للحقيقة وعدم جريان هذا الجواب فيه ويبقى الدور فيه بحاله فانا إذا علمنا المعنيين ولم نعلم أيهما المراد فلا يمكن معرفة كونه حقيقة لعدم صحة سلب المعنى الحقيقي فان العام المستعمل في فرد مجاز مع امتناع سلب معناه الحقيقي عن مورد استعماله وأنت خبير بما فيه اما أولا فلانه خروج عن محل البحث فان الكلام فيما علم المستعمل فيه ولم يتميز الحقايق من المجازات لا فيما علم الحقيقة والمجاز ولم يعلم المستعمل فيه ولا ريب ان الأصل في الثاني هو الحمل على الحقيقة واما ثانيا فلان صحة سلب المعنى المجازي حينئذ أيضا يدل على إرادة المعنى الحقيقي فلا اختصاص لهذه العلامة بالمجاز لا يقال ان المجازات قد تتعدد فنفي الحقيقة لا يوجب تعيين بعضها لان هذا القائل قد
مخ ۱۸
عين المجاز والمفروض أيضا إرادة تعيين شخص المجاز لا مطلقه مع أن لنا أيضا ان نقول سلب مطلق المعنى المجازي علامة لمطلق الحقيقة فافهم واما ثالثا فما ذكره في عدم صحة السلب للحقيقة فمع انه يرد عليه ما سبق من كونه خروجا عن المبحث فيه ان العام إذا استعمل في الخاص فهو انما يكون مجازا إذا أريد منه الخصوصية لا مطلقا ومع إرادة الخصوصية فلا ريب في صحة سلب معناه الحقيقي بهذا الاعتبار وانما يختلف ذلك باعتبار الحيثيات وقد أجيب أيضا بان المراد سلب ما يستعمل فيه اللفظ المجرد عن القرينة وما يفهم منه كذلك عرفا إذ لاشك في أنه يصح عرفا ان يقال للبليد انه ليس بحمار ولا يصح ان يقال ليس برجل ولا ببشر أو بانسان وفيه ان ذلك مجرد تغيير عبارة ولا يدفع السؤال فان معرفة ما يفهم من اللفظ عرفا مجردا عن القرائن هو بعينه معرفة الحقائق سواء اتحد المفهوم العرفي وفهم معينا أو تعدد بالاشتراك ففهم الكل اجمالا وبدون التعيين وذلك يتوقف على معرفة كون المستعمل فيه ليس هو عين ما يفهم عرفا على التعيين أو من جملة ما يفهم عرفا على الاجمال فيبقى الدور بحاله ويمكن ان يقال لا يلزم من نفى المعاني الحقيقية العلم بكون المستعمل فيه مجازا بل يكفي عدم ثبوت كونه حقيقة بسبب عدم الانفهام العرفي فإذا سلب ما علم كونه حقيقة يحكم بكون المستعمل فيه مجازا لان احتمال الاشتراك مدفوع بان الأصل عدمه والمجاز خير من الاشتراك فهذه العلامة مع هذا الأصل والقاعدة يثبت المجازية وفيه انه مناف لاطلاقهم بان هذه علامة المجاز أو الحقيقة فان ظاهره كونه سببا تاما لفهم المجازية أو الحقيقية لا جزء سبب مع أن ذلك انما يتم عند من يقول بكون المجاز خيرا من الاشتراك وظاهرهم الاطلاق والذي يختلج بالبال في حل الاشكال وجهان الأول ان يقال ان المراد بكون صحة السلب علامة المجاز ان صحة سلب كل واحد من المعاني الحقيقية عن المعنى المبحوث عنه علامة لمجازيته بالنسبة إلى ذلك المعنى المسلوب فان كان المسلوب الحقيقي واحدا في نفس الامر فيكون ذلك المسلوب عنه مجازا مطلقا وان تعدد فيكون مجازا بالنسبة إلى ما علم سلبه عنه لا مطلقا فإذا استعمل العين بمعنى النابعة في الباصرة الباكية لعلاقة جريان الماء فيصح سلب النابعة عنها ويكون ذلك علامة كون الباكية معنى مجازيا بالنسبة إلى العين بمعنى النابعة وإن كانت حقيقة والباكية أيضا من جهة وضع آخر فإن قلت أن سلب العين بمعنى الذهب عنها بمعنى الميزان لا يفيد كون الميزان معنى مجازيا لها لعدم العلاقة قلت هذا لو أردنا كونه مجازا عنها بالفعل وأما إذا كان المراد كونه مجازا بالنسبة إليها لو استعمل فيه فلا يرد ذلك وهو كاف فيما أردنا وما ذكرنا في المثال إنما هو من باب المثال فافهم وبالجملة قولهم للبليد ليس بحمار إذا أريد به سلب الحيوان الناهق الذي هو معنى حقيقي للحمار في الجملة
مخ ۲۱
جزما فيكون البليد معنى مجازيا بالنسبة إلى ذلك المعنى الحقيقي وإن احتمل أن يكون الحمار موضوعا بوضع أخر للحيوان القليل الادراك ويكون البليد حقيقة بالنسبة إليه فلا يكون سلبه بالمعنى الأول موجبا لمجازيته بالنسبة إلى هذا المعنى لكونه حقيقة بالنسبة إليه حينئذ ومما ذكرنا يظهر حال عدم صحة السلب بالنسبة إلى المعنى الحقيقي فان المراد عدم صحة سلب المعني الحقيقي في الجملة فيقال انه علامة لكون ما لا يصح سلب المعني الحقيقي عنه معنى حقيقيا بالنسبة إلى ذلك المعنى الذي لا يجوز سلبه عنه وإن احتمل أن يكون للفظ معنى حقيقي آخر يصح سلبه عن المبحوث عنه فيكون مجازا بالنسبة إليه فلا يتوقف معرفة كون المبحوث عنه حقيقة على العلم بكونه حقيقة حتى يلزم الدور وكيف يتصور صدق جميع الحقائق على حقيقة لو فرض كون اللفظ مشتركا حتى يجعل ذلك منشأ للاشكال كما توهم في جانب المجاز إذ هذا التصور مبني على جعل قولهم عدم صحة سلب الحقايق سلبا كليا كما في المجاز وأما لو جعل سلبا جزئيا فلا يرد ذلك ولا يحتاج إلى إضمار الدور ولكنه لا يناسب حينئذ إثبات الحقيقة مطلقا بل يناسب إثباتها في الجملة فليعتبروا في المجاز أيضا كذلك ويضيفوا إليه ملاحظة النسبة حتى يرتفع الدور والحاصل أن معرفة كونه حقيقة في هذا المعنى الخاص موقوف على معرفة الحقيقة في الجملة وذلك لا يستلزم دورا الثاني أن يكون المراد من صحة السلب وعدم صحة السلب سلب المعنى الحقيقي وعدمه عما احتمل فرديته له بأن يعلم للفظ معنى حقيقي ذو أفراد وشك في دخول المبحوث عنه فيها وعدمه وحاصله أن الشك في كون ذلك مصداق ما علم كونه موضوعا له لا في كون ذلك موضوعا له أم لا مثل انا نعلم أن للماء معنى حقيقيا و نعلم أن الماء الصافي الخارج من الينبوع من أفراده ونعلم أن الوحل خارج منها ولكن نشك في ماء السيل الغليظ أنه هل خرج عن هذه الحقيقة أم لا وكذا الجلاب المسلوب الطعم والرائحة هل دخل فيها أم لا فيختبر بصحة السلب وعدمها وهذا أيضا لا يستلزم الدور فافهم ذلك وهذان الوجهان مما لم يسبقني إليهما أحد فيما أعلم والحمد لله الرابع الاطراد وعدم الاطراد فالأول علامة للحقيقة والثاني للمجاز فنقول هيئة الفاعل حقيقة لذات ثبت له المبدء فالعالم يصدق على كل ذات ثبت له العلم وكذا الجاهل والفاسق وكذلك اسئل موضوع لطلب شئ عمن شأنه ذلك فيقال اسئل زيدا أو اسئل عمرا إلى غير ذلك بخلاف مثل اسئل الدار فنسبة السؤال مجازا إلى شئ وإرادة أهلها غير مطرد فلا يقال اسئل البساط واسئل الجدار وبيان ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدمة هي أن الحقائق وضعها شخصي والمجازات وضعها نوعي والمراد بالأول أن الواضع عين اللفظ الخاص المعين بإزاء معنى خاص معين سواء كان المعنى عاما أو خاصا وسواء كان وضع اللفظ باعتبار المادة أو الهيئة
مخ ۲۲
أما ما وضع باعتبار المادة فيقتصر فيه على السماع بخلاف ما وضع باعتبار الهيئة فيقاس عليه كأنواع المشتقات إلا ما خرج بالدليل كالرحمن والفاضل والسخي والمتجوز ونحوها للمنع الشرعي وإن أسماء الله تعالى توقيفية والمراد بالثاني أن الواضع جوز استعمال اللفظ فيما يناسب معناه الحقيقي بأحد من العلائق المعهودة فالمجازات كلها قياسي لعدم مدخلية خصوص المادة والهيئة فيها بل المعتبر فيها هو معرفة نوع العلاقة بينها وبين المعاني الحقيقية وبعبارة أخرى لا يحتاج المجاز إلى نقل خصوصياته من العرب بل يكفي أن يحصل العلم أو الظن برخصة ملاحظة نوع العلاقة في الاستعمال فيها من استقراء كلام العرب فيقاس عليه كلما ورد من المجازات الحادثة وغيها ولا يتوقف على النقل وإلا لتوقف أهل اللسان في محاوراتهم على ثبوت النقل ولما احتاج المتجوز إلى النظر إلى العلاقة بل كان يكتفى بالنقل ولما ثبت التجوز في المعاني الشرعية المحدثة مع عدم معرفة أهل اللغة بتلك المعاني وبطلان اللوازم بين ومذهب جماعة إلى اشتراط نقل آحادها لوجهين أحدهما أنه لو لم يكن كذلك للزم كون القرآن غير عربي وقد قال الله تعالى إنا أنزلناه قرآنا عربيا توضيحه أن ما لم ينقل من العرب فهو ليس بعربي والقرآن مشتمل على المجازات فلو لم يكن المجازات منقولة عنهم يلزم ما ذكر وفيه أولا النقض بالصلاة والصوم وغيرهما على مذهب غير القاضي و ثانيا أن ما ذكر يستلزم كون مجازات القرآن منقولا عن العرب لا جميع المجازات وثالثا لا نسلم انحصار العربي فيما نقل بشخصه عن العرب بل يكفي نقل النوع ورابعا لا نسلم كون القرآن بسبب اشتماله على غير العربي غير عربي لان المراد كونه عربي الأسلوب مع أنه منقوض باشتماله على الرومي والهندي والمعرب كالقسطاس والمشكاة والسجيل وخامسا لا نسلم بطلان كونه غير عربي فإنه مسلم لو أريد بضمير أنزلناه مجموع القرآن لم لا يكون المراد البعض المعهود كالسورة التي هذه الآية فيها بتأويل المنزل أو المذكور لان القرآن مشترك معنوي بين الكل والبعض فيطلق على كل واحد من أجزائها وثانيهما أنه إن كان نقل نوع العلاقة كافيا لجاز استعمال النخلة في الحائط والجبل الطويلين للشباهة والشبكة للصيد وبالعكس للمجاورة والابن للأب وبالعكس للسببية و المسببية وهكذا والتالي باطل فالمقدم مثله وقد أجيب عن ذلك بأن ذلك من جهة المانع لا عدم المقتضي وإن لم يعلم المانع بالخصوص أقول الصواب في الجواب أن يقال أن المقتضي غير معلوم فإن الأصل عدم جواز الاستعمال لكون اللغات توقيفية إلا ما ثبت الرخصة فيه فنقول إن المجاز على ما حققوه هو ما ينتقل فيه عن الملزوم إلى اللازم فلا بد فيه من علاقة واضحة توجب الانتقال ولذلك
مخ ۲۵
اعتبروا في الاستعارة أن يكون وجه الشبه من أشهر خواص المشبه به حتى إذا حصل القرينة على عدم إرادته انتقل إلى لازمه كالشجاعة في الأسد فلا يجوز استعارة الأسد لرجل باعتبار الجسمية أو الحركة ونحوهما وكذلك الحال في المشبه فلا بد أن يكون ذلك المعنى أيضا فيه ظاهرا ولذلك ذهب بعضهم إلى كون الاستعارة حقيقية فإن التجوز في أمر عقلي وهو أن يجعل الرجل الشجاع من أفراد الأسد بأن يجعل للأسد فردان حقيقي وادعائي فالأسد حينئذ قد أطلق على المعنى الحقيقي بعد ذلك التصرف العقلي وهذا المعنى مفقود بين النخلة والحائط والجبل فإن المجوز لاستعارة النخلة للرجل الطويل هو المشابهة الخاصة من حصول الطول مع تقاربهما في القطر وهو غير موجود في الجبل والحائط وهكذا ملاحظة المجاورة فإن المجاورة لا بد أن يكون بالنسبة إلى المعنيين معهودا ملحوظا في الأنظار كالماء والنهر والميزاب لا كالشبكة والصيد فان المجاورة فيهما اتفاقية بل المستفاد من المجاورة المعتبرة هو المؤانسة والتنافر بين الشبكة والصيد واضح وأما الأب والابن فعلاقة السببية والمسببية فيهما أيضا خفية عرفا وليس أظهر خواص الابن والأب حين ملاحظتهما معا السببية والمسببية نعم التربية والرياسة والمرؤسية من الخواص الظاهرة فيهما مع أن التقابل الحاصل من جهة التضايف يوجب قطع النظر عن سائر المناسبات وبالجملة لما كان الغرض من المجاز الانتقال من الملزوم إلى اللازم فلم يظهر من العرب إلا تجويز العلاقة الظاهرة ألا ترى أن استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل ليس بمحض علاقة الجزئية والكلية بل لوحظ فيه كمال المناسبة بين الجزء والكل بأن يكون مما ينتفي بانتفاء الجزء كالرقبة للانسان والعين للربئية باعتبار وصف كونه ربئية وبالجملة الرخصة الحاصلة في النوع يراد بها الحاصلة في جملة هذا النوع وإن كان في صنف من أصنافها أو في أفرادها الشايعة الظاهرة وهكذا فالاستقراء في كلام العرب لم يحصل منه الرخصة في مثل هذه الافراد من الشباهة والسببية والمجاورة ونحوها لا أنه حصل الرخصة في نوعها بعمومه وخرج المذكورات بالدليل فلاحظ وتأمل إذا تقرر ذلك فنقول قد أورد على كون الاطراد دليل الحقيقة النقض بمثل أسد للشجاع فإنه مطرد ومجاز فيتخلف الدليل عن المدلول وعلى كون عدم الاطراد دليل المجاز النقض بمثل الفاضل والسخي فإنهما موضوعان لذات ثبت له الفضيلة والسخاء ولا يطلق عليه تعالى مع وجودهما فيه والقارورة فإنها موضوعة لما يستقر فيه الشئ ولا يطلق على غير الزجاجة وأجيب عن الثاني مضافا إلى ما ذكرنا بأن الفاضل موضوع لمن من شأنه الجهل والسخاء موضوع لمن من شأنه البخل فلا يشمله تعالى بالوضع والقارورة للزجاج لا كل ما يستقر فيه الشئ أقول والقارورة منقولة وقد ترك المعنى الأول وإلا لجاز الاطراد والتحقيق أن يقال إن أريد بكون عدم
مخ ۲۶
الاطراد دليل المجاز أنه يقتصر فيه بما حصل فيه الرخصة من نوع العلاقة ولو في صنف من أصنافه فلا ريب أن المجاز حينئذ ينحصر فيما حصل فيه الرخصة وهو مطرد وإن أريد أنه بعد حصول الرخصة في النوع غير مطرد فقد عرفت أنه ليس كذلك فنقول أن عدم جواز اسئل الجدار مثلا إنما هو لعدم مناسبة الأهل للجدار المناسبة الظاهرة المعتبرة في المجاز وكذلك اسئل الشجر واسئل الإبريق ونحو ذلك فذلك لعدم انفهام الرخصة فيه لا لوجود المانع كما نقلنا عن بعضهم ألا ترى انه يجوز أن يقال اسئل الدار واسئل البلدة واسئل الرستاق واسئل المزرعة واسئل البستان وغير ذلك ومثله اطراد الأسد لذات ثبت له الشجاعة وإن كان من سائر أفراد الحيوان غير الانسان وبالجملة المجاز أيضا بالنسبة إلى ما ثبت نوع العلاقة فيه مطرد ولو كان في صنف ذلك النوع قانون إذا تميز المعنى الحقيقي من المجازي فكلما استعمل اللفظ خاليا عن القرينة فالأصل الحقيقة أعني به الظاهر لان مبنى التفهيم والتفهم على الوضع اللفظي غالبا ولا خلاف لهم في ذلك وأما إذا استعمل لفظ في معنى أو معان لم يعلم وضعه له فهل يحكم بكونه حقيقة فيه أو مجازا أو حقيقة إذا كان واحدا دون المتعدد أو التوقف لان الاستعمال أعم المشهور الأخير وهو المختار لعدم دلالة الاستعمال على الحقيقة والسيد المرتضى رحمة الله عليه على الأول لظهور الاستعمال فيه وهو ممنوع والثاني منقول عن ابن جني وجنح إليه بعض المتأخرين لان أغلب لغة العرب مجازات والظن يلحق الشئ بالأعم الأغلب وهو أيضا ممنوع ولو سلم فمقاومته للظن الحاصل عن الوضع ممنوع والثالث مبني على أن المجاز مستلزم للحقيقة فمع الاتحاد لا يمكن القول بمجازيته وأما مع التعدد فلما كان المجاز خيرا من الاشتراك فيؤثر فيه ويترتب على ذلك لزوم استعمال إمارات الحقيقة والمجاز في التمييز وحيث لم يتميز فالوقف ورد بمنع استلزام المجاز للحقيقة بل إنما هو مستلزم للوضع كالرحمن والحقيقة مستلزم للاستعمال وإن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ثم إعلم أن عدم العلم بالوضع مع العلم بالمستعمل فيه يتصور على وجهين الأول أن يعلم لفظ استعمل في معنى واحد أو في معان متعددة ولم يعلم أنه موضوع لذلك المعنى أو المعاني أم لا فيحتمل عندنا أن يكون المستعمل فيه نفس الموضوع له ويحتمل أن يكون له معنى آخر وضع له ويكون هذا مجازا عنه فلا يعرف فيه الموضوع له أصلا لا معينا ولا غير معين وعلى هذا يترتب القول بكون مبنى القول الثالث على كون المجاز مستلزما للحقيقة لا على الوجه الآتي ولكن ذلك الفرض مع وحدة المستعمل فيه فرض نادر بل لم نقف عليه أصلا والثاني أن يعلم الموضوع له الحقيقي في الجملة وهو يتصور أيضا على وجهين أحدهما إنا نعلم أن له معنى حقيقيا ونعلم أنه استعمل في معنى خاص أيضا ولا نعلم أنه هل هو أو غيره وذلك
مخ ۲۹
الجهالة إنما هو بسبب جهالة نفس الموضوع له لا بسبب جهالة الوضع مثل أنا نعلم أن ليلة القدر موضوعة لليلة خاصة واستعمل فيها أيضا مثل قوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر ولكن لا نعلمها بعينها فإذا أطلقها الشارع على ليلة النصف من شعبان مثلا أو ليلة الإحدى والعشرين من رمضان مثلا فهل يحكم بمجرد ذلك الاطلاق انها هي الموضوع له اللفظ أو يقال أن الاستعمال أعم من الحقيقة إذ يمكن ان يكون إطلاقها عليها من باب الاستعارة ويكون نفس الموضوع له اللفظ شيئا آخر هذا إذا لم يكن من باب التنصيص أو الحمل الظاهر في بيان الموضوع له كما لو انحصر الاستعمال في الواحد وقال بأن ليلة القدر هي هذه وذلك مثل أن يقول إقرء في ليلة القدر (مثل)؟ الليلة فلانا ولو تعدد المستعمل فيه حينئذ فيتضح عدم دلالة الاستعمال على شئ ويلزم السيد ومن قال بمقالته القول بتعدد الموضوع له لو عمموا المقال حينئذ وهو كما ترى والثاني إنا نعلم أن اللفظ مستعمل في معنى أو أكثر ونعلم أن له معنى آخر حقيقيا معينا في نفس الامر أيضا ولكن نشك في أن المستعمل فيه أيضا حقيقة أم لا وذلك يتصور على وجهين أحدهما أن نشك في أنه هل هو فرد من أفراد المعنى الحقيقي أو مجاز بالنسبة إليه وثانيهما أن نشك في أن اللفظ هل وضع له أيضا بوضع على حدة فيكون مشتركا أم لا مثل انا نعلم أن للصلاة معنى حقيقيا في الشرع قد استعمل فيه لفظها وهو المشروط بالتكبير والقبلة والقيام فإذا استعملت في الافراد المشروطة بالطهارة والركوع والسجود منها أيضا نعلم جزما أنها من معانيها الحقيقية وإذا أطلقت على صلاة الميت فهل هذا الاطلاق علامة الحقيقة بمعنى أن المعنى الحقيقي للصلاة هو المعنى الأول العام لا المشروط بالطهارة والركوع والسجود أيضا أو أنها موضوعة بوضع على حدة لصلاة الميت أيضا أو الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز فالمشهور على التوقف لان الاستعمال أعم من الحقيقة والسيد يحملها على الحقيقة فإن ظهر عنده أنها من أفراد الحقيقة المعلومة فيلحقها بها وإلا فيحكم بكونها حقيقة بالوضع المستقل فيكون مشتركا لفظيا وكذلك إذا رأينا إطلاق الخمر على الفقاع ويظهر الثمرة في عدم إجراء حكم الحقيقة على المشكوك فيه على المشهور وإجرائه على مذهب السيد على الاحتمال الأول والتوقف في أصل حكم الحقيقة حتى يظهر المراد منها بالقرائن على الثاني مثلا إذا رأينا أن الشارع حكم بوجوب نزح تمام ماء البئر للخمر الخالية عن قرينة المراد مع علمنا بأن المسكر المأخوذ من العنب خمر حقيقة فيتردد الامر بين أن يكون المراد أن الفقاع مثل الخمر في الحرمة فيكون مجازا فلا يثبت جميع أحكام الحقيقة فيه ليتفرع على نزح جميع ماء البئر وبين أن يكون المراد منه الخمر الواقعي إما بمعنى أن الخمر هي اسم للقدر المشترك بينهما فيدخل الفقاع في الخمر المطلق المحكوم عليها بوجوب نزح الجميع أو بمعنى أن الخمر كما أنه موضوع للمتخذ من العنب المسكر فكذلك موضوع
مخ ۳۰
للفقاع أيضا فحينئذ يتوقف حتى يظهر من القرينة أن أي المعنيين هو المراد في الخمر المطلق المحكوم عليها بوجوب نزح الجميع فظهر بما ذكرنا أن المراد بالمعنى في قولنا أما إذا استعمل لفظ في معنى أو معان ماذا وإن المراد بالمعاني ماذا وإن الأول إنما يتم بالنظر إلى الوجه الأول إذا اتحد المستعمل فيه المعلوم وأما مثل كلمة الرحمن فهو خارج عن المتنازع فيه فإن المجازية فيه مسلمة إنما النزاع في أن له حقيقة أم لا وذلك لا ينافي القول بصيرورتها حقيقة عرفية فيه تعالى أو مما حققنا ظهر لك أنه لا منافاة بين قول مشهور بوجوب التوقف لان الاستعمال أعم من الحقيقة في صورة تعدد المستعمل فيه وقولهم بأن المجاز خير من الاشتراك أما في صورة التردد بين كون المستعمل فيه مجازا أو فردا من أفراد ما هو القدر المشترك بينهما فظاهر لعدم اشتراك لفظي هناك يرجح المجاز عليه وهو غالب موارد قولهم ان الاستعمال أعم من الحقيقة يعنون بذلك أنه لا يثبت حكم ما هو من أفراد الكلي حقيقة لهذا المشكوك فيه بمجرد إطلاق الاسم عليه وأما في صورة التردد بين كون المستعمل فيه حقيقة أو مجازا كما لو سلم كون صيغة إفعل حقيقة في الوجوب وشك في كونه حقيقة في الندب أيضا لأجل الاستعمال فمرادهم بقولهم أن الاستعمال لا يدل على الحقيقة وأنه أعم للرد على السيد ومن قال بمقالته فإذا قطعنا النظر عن غير الاستعمال فلا بوجب الاستعمال إلا التوقف لا أنه لا يمكن ترجيح المجازية بدليل آخر فلذلك يقولون بأن الصيغة في الندب مجاز ولا يتوقفون في ذلك فتبصر حتى لا يختلط عليك الامر ولا بأس أن نشير إلى بعض الغفلات فمنها ما وقع عن صاحب المدارك قال في منزوحات البئر واعلم أن النصوص إنما تضمنت نزح الجميع في الخمر إلا أن معظم الأصحاب لم يفرقوا بينه وبين سائر المسكرات في هذا الحكم واحتجوا عليه بإطلاق الخمر في كثير من الاخبار على كل مسكر فيثبت له حكمه وفيه بحث فإن الاطلاق أعم من الحقيقة والمجاز خير من الاشتراك إنتهى ونظير ذلك أيضا قال في رد من أوجب نزح الجميع للفقاع مستدلا بإطلاق الخمر عليه في الاخبار وأنت خبير بعدم صحة الجمع بين قوله فإن الاطلاق أعم وقوله والمجاز خير من الاشتراك ويظهر وجه بالتأمل فيما حققناه وأما نظر جمهور علمائنا رحمهم الله في الاستدلال بتلك الأخبار فليس إلى كون المسكرات خمرا حقيقة أو الفقاع خمرا كذلك بل وجه استدلالهم هو أن الاستعارة والتشبيه المطلق يقتضي إعتبار المشابهة في جميع الأحكام لوقوعه في كلام الحكيم أو الاحكام الظاهرة الشايعة ومنها حكم النجاسة ومقدار النزح فقد ذكروا في مثل ذلك وجوها ثلاثة أحدها الاجمال لعدم تعيين وجه الشبه و الثاني العموم لوقوعه في كلام الحكيم والثالث التشريك في الاحكام الشايعة وهو أظهر الاحتمالات ومن هذا القبيل قولهم الطواف في البيت صلاة قانون قد ذكرنا أن الأصل في التفهيم والتفهم هو الوضع
مخ ۳۱
وأيضا الأصل والظاهر يقتضيان عدم إرادة الزايد على المعنى الواحد وعدم وضع اللفظ لأكثر من معنى حتى يكون مشتركا أو منقولا وعدم إرادة معنى آخر من اللفظ غير المعنى الأول بسبب علاقة حتى يكون مجازا فحيث علم وجود هذه المخالفات وإرادة هذه الأمور من اللفظ بقرينة حالية أو مقالية فهو وإن احتمل إرادة هذه الأمور ولم يكن قرينة عليها فلا ريب أنه يجب الحمل على الموضوع له الأولى كما تقدم واما لو كان الاحتمال والتردد بين هذه الأمور المخالفة لأصل الموضوع له المتجددة الطارية له الحاصلة بسبب دواع خارجية فيتصور هناك صور عديدة يعبر عنها الأصوليون بتعارض الأحوال يحصل من دوران اللفظ بين بعض من الاشتراك والنقل والتخصيص والاضمار والمجاز وبعض أخر والتخصيص والاضمار وإن كانا قسمين من المجاز لكنه لما كان لهما مزيد اختصاص وامتيازا فردوهما من أقسام المجاز وجعلوهما قسيما له وذكروا لكل واحد منهما مرجحا على الاخر مثل أن المجاز أرجح من الاشتراك لكثرته وأوسعيته في العبارة وكونه أفيد لأنه لا توقف فيه أبدا بخلاف المشترك والاشتراك أرجح من المجاز من حيث أبعديته عن الخطأ إذ مع عدم القرينة يتوقف بخلاف المجاز فيحمل على الحقيقة وقد يكون غير مراد في نفس الامر وإن المجاز يصح من كل من المعنيين فيكثر الفايدة بخلاف المجاز والاشتراك أرجح من النقل لان النقل يقتضي الوضع في المعنيين على التعاقب ونسخ الوضع الأول بخلاف الاشتراك والنسخ يقتضي بطلان المنسوخ والاشتراك يقتضي التوقف فيكون أولى وإن الاشتراك أكثر من النقل والاضمار أرجح من الاشتراك لاختصاص الاجمال الحاصل بسبب الاضمار ببعض الصور وذلك حيث لا يتعين المضمر وتعميمه في المشترك وإن الاضمار أوجز وهو من محاسن الكلام والتخصيص أرجح من الاشتراك لأنه خير من المجاز وهو خير من الاشتراك والمجاز أرجح من النقل لاحتياج النقل إلى اتفاق أهل اللسان على تغيير الوضع والمجاز يفتقر إلى قرينة صارفة وهي متيسرة والأول متعسر والمجاز فوايده أكثر من النقل ويظهر من ذلك ترجيح الاضمار عليه أيضا والتخصيص أرجح من النقل لأنه أرجح من المجاز وهو أرجح من النقل والتحصيص أرجح من المجاز لحصول المراد وغيره مع عدم الوقوف على قرينة التخصيص والمجاز إذا لم تعرف قرينة يحمل على الحقيقة وهي غير مرادة والتخصيص أرجح من الاضمار لكونه أرجح من المجاز المساوي للاضمار إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكروها وفي كثير منها نظر إذ أكثرها معارض بمثلها والبسط في تحقيقها وتصحيحها لا يسعه هذا المختصر وحاصل غرض المستدل في الترجيح بهذه الوجوه إبداء كون صاحب المزية الكاملة أولى بالإرادة للمتكلم فلا بد من حمل كلامه على ما هو أكمل وأحسن وأتم فايدة فلا يختار المتكلم ما هو أخس وأنقص وأقل فايدة إلا في حال الضرورة وحال الضرورة نادرة بالنسبة إلى غيرها والظن يلحق
مخ ۳۲
الشئ بالأعم الأغلب وفيه أنا نمنع أن غالب المتكلمين في أغلب كلماتهم يعتبرون ذلك فإن قيل الحكماء منهم يعتبرون ذلك وما يجدي للأصولي هو ملاحظة كلام الشارع وهو حكيم فيقال أن الحكمة لا تقتضي ذكر الأتم والأحسن غالبا بل ربما يقتضي ذكر الأنقص نعم إذا كان المراد إظهار البلاغة للاعجاز ونحوه فيعتبر ما له مزيد دخل بموافقة مقتضى المقام والخلوص عن التعقيد اللفظي والمعنوي وما يرتبط بالمحسنات اللفظية والمعنوية ولكن مقتضى المقامات مختلفة وما هذا شأنه من كلامهم ليس له مزيد دخل في بيان الأحكام الشرعية الذي هو محط نظر الأصولي ومع تسليم ذلك فنمنع حجية مثل هذا الظن و التحقيق أن المجاز في نفس الامر أغلب من غيره من المذكورات في أكثر كلام المتكلمين ولا يمكن إنكار هذه الغلبة وكذلك التخصيص أغلب أفراد المجاز في العام لا مطلقا وأما حصول الغلبة في غيرهما فغير معلوم بل وندرتها معلومة وعلى هذا يقدم المجاز على الاشتراك والنقل بل ولا يبعد ترجيحه على الاضمار أيضا ويقدم التخصيص على غيره من أقسام المجاز وغيرها لان الظن يلحق الشئ بالأعم الأغلب وأما حجية مثل هذا الظن فيدل عليه ما يدل على حجية أصالة الحقيقة مع احتمال إرادة المجاز وخفاء القرينة فكما أن الوضع من الواضع فهذه الأمور المخالفة له الطارئة عليها أيضا من جانب الواضع ولذا يقال أن المعنى المجازي وضع ثانوي فكما يكتفى في المعنى المجازي بالقرائن المعهودة المعدودة فكذا يكتفى في معرفة أن ذلك اللفظ مجاز لا مشترك ولا منقول بقرينة الغلبة سيما والأصل عدم الوضع الجديد و عدم تعدده وعدم الاضمار وغير ذلك ولم نقف على من منع إعتبار مثل هذا الظن من الفقهاء وبالجملة فلا مناص عن العمل بالظن في دلالة الألفاظ خصوصا على قول من يجعل الأصل جواز العمل بالظن إلا ما خرج بالدليل مع أنه يظهر من تتبع تضاعيف الأحكام الشرعية والأحاديث إعتبار هذا الظن فلاحظ وتأمل وإن شئت أرشدك إلى موضع واحد منها وهو ما دل على حلية ما يباع في أسواق المسلمين وإن أخذ من يد رجل مجهول الاسلام فروى إسحاق بن عمار في الموثق عن العبد الصالح عليه السلام أنه قال لا بأس بالصلاة في فرو يماني وفيما صنع في أرض الاسلام قلت فإن كان فيها غير أهل الاسلام قال إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس ويدل على ذلك العرف أيضا فلاحظ قانون كل لفظ ورد في كلام الشارع فلا بد أن يحمل على ما علم إرادته منه ولو كان معنى مجازيا وإن لم يعلم المراد منه فلا بد من أن يحمل على حقيقة اصطلاحه سواء ثبت له اصطلاح خاص فيه أو لم يثبت بل كان هو اصطلاح أهل زمانه وإن لم يعلم ذلك أيضا فيحمل على اللغوي أو العرفي إن وجد أحدهما بضميمة أصالة عدم النقل فإذا وجد واحد منهما (واتحد) فهو إن تعدد فيتحرى في تحصيل
مخ ۳۵
الحقيقة باستعمال إماراتها أو القرينة المعينة للمراد ثم يعمل على مقتضاه من الترجيح أو التوقف وإن وجد كلاهما فإن كان المعنى العرفي هو عرف المتشرعة فهو محل النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية وإلا فالمشهور تقديم العرف العام لإفادة الاستقراء ذلك وقيل يقدم اللغة لأصالة عدم النقل والأول أظهر وأما ثبوت الحقيقة الشرعية ففيه خلاف والمشهور بينهم أن النزاع في الثبوت مطلقا والنفي مطلقا والحق كما يظهر من بعض المتأخرين التفصيل وتحرير محل النزاع هو أن كثيرا من الألفاظ المتداولة على لسان المتشرعة أعني بهم من يتشرع بشرعنا فقيها كان أو عاميا صار حقايق في المعاني الجديدة التي استحدثها الشارع ولم يكن يعرفها أهل اللغة مثل الصلاة في الأركان المخصوصة والصوم في الامساك المخصوص إلى غير ذلك فهل ذلك بوضع الشارع إياها في إزاء هذه المعاني بأن نقلها من المعاني اللغوية ووضعها لهذه المعاني الجديدة أو استعملها مجازا في هذه المعاني مع القرينة وكثر استعمالها فيها إلى أن استغنى عن القرينة فصارت حقائق أو لم يحصل الوضع الثانوي في كلامه بأحد من الوجهين وكان استعماله فيها بالقرينة ويظهر ثمرة النزاع إذا وجدت في كلامه بلا قرينة فإن قلنا بثبوت الحقيقة فلا بد من حملها على هذه المعاني وإلا فعلى اللغوي وقد طال التشاجر بينهم في الاستدلال ولكل من الطرفين حجج واهية و أقوى أدلة النافين أصالة عدم النقل وأقوى أدلة المثبتين الاستقراء فيدور الحكم مدار الاستقراء وقد يستدل بالتبادر بأنا إذا سمعنا هذه الألفاظ في كلام الشارع يتبادر في أذهاننا تلك المعاني وهو علامة الحقيقة وهذا الاستدلال من الغرابة بحيث لا يحتاج إلى البيان إذ من الظاهر أن المعتبر من التبادر هو تبادر المعنى من اللفظ عند المتحاورين بذلك اللفظ فإذا سمع النحوي لفظ الفعل من اللغوي وتبادر إلى ذهنه ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة لا يلزم منه كونه حقيقة فيه عند اللغوي أيضا وربما زاد بعضهم مصادرة وقال الظاهر أن ذلك التبادر لكثرة استعمال الشارع لا لأجل ألف المتشرعة بهذا المعنى ثم أغرب وقال أن التبادر معلوم وكونه لأجل أمر غير الوضع غير معلوم يعني وضع الشارع وهو مقلوب عليه بأن التبادر معلوم وكونه من أجل وضع الشارع غير معلوم وعلى المستدل الاثبات ولا يكفيه الاحتمال وكيف كان فالحق ثبوت الحقيقة الشرعية في الجملة وأما في جميع الألفاظ والأزمان فلا والذي يظهر من استقراء كلمات الشارع ان مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج والركوع والسجود ونحو ذلك قد صارت حقايق في صدر الاسلام بل ربما يقال إنها كان حقائق في هذه المعاني قبل شرعنا أيضا لكن حصل اختلاف في الكيفية وحصولها فيها وفي غيرها من الألفاظ الكثيرة الدوران في زمان الصادقين عليهما السلام ومن بعدهما مما لا ينبغي التأمل
مخ ۳۶