وإنما منعهنَّ أن يكنَّ رويًا أنَّهنْ ليس لهنَّ أصول في الكلام، وإنّما هنّ مزيداتٌ على ما قبلهنّ لتمام الشعر. وإنّما زادوهنّ من بين الحروف لأنّ الشعر وضع للغناء والترنّم والحداء. وأكثر ما يكون ذلك في آخر البيت. فزادوا حروفًا يجري فيها الصوت. وذلك أنّ الصوت لا يجري إلاّ في حروف المدّ واللّين، وهن الياء والواو الساكنتان والألف.
وأمّا الهاء نحو هاء حمزة، وهاء الإضمار نحو غلامه وغلامها، والهاء التي تبين بها الحركة، نحو هاء آرمه وأغزه وعمّه، تريد ارم واغز وعمّ، فإنما أدخلت الهاء لتبين بها حركاتهن فجعلوهنَّ وصلًا إذا تحرّك ما قبلهن بحركة هاء الإضمار. شبهوهنَّ بالياء والواو والألف. وإن كانت الهاء لا يجري فيها الصوت، فلأنها حرفٌ ضعيفٌ خفيّ المخرج. فأشبهه بخفائه حروف اللّين. ومع ذا أنَّ مخرجها ومخرج الألف واحد. وقد أجريت الألف مجراها، فبينوا بها حركة نون أنا في الوقف، كما بينوا حركة ميم عمّه في الوقف بالهاء.
وقد بلغَ من خفائها أنّهم إذا كانت هاء الإضماء التي للمذكر بعد حرف مجزوم أو ساكن ضمّوه في الوقف، فقالوا: اضربه ومنه، ولم تضربه. وقال بعضهم فكسر: ضربته وشتمته سمعنا ذلك من العرب في تاء التأنيث خاصة. فهذا يدلّك على خفاء الهاء وغموضها.
فإذا سكن ما قبل الهاء التي للإضمار، والتي لم تبين بها الحركة، نحو هاء هناة وسعلاة، والتي للتأنيث، كنَّ رويًا ولم يكنّ وصلًا، لأنَّ الساكن لا يكون له وصل، إنما الوصل للحرف المتحرك يولّد مثل حركته. وذلك أنَّ مثل القطاة والقناة، ومثل فيه وفيها، الهاء في جميع هذا حرف الرّويّ. وقد جاء مثل يغزوها ويرميها في قصيدة. وهي قول الشاعر:
أمّا القطاة فإني سوف أنعتُها ... نعتًا يوافقُ نعتي بعضَ ما فيها
وقال:
لانَ حتى لو مشى الذَّ ... رُّ عليه كادَ يُدميه
وقال:
قسْ بالتجارِبِ أغفالَ الأمور كما ... تقيسُ نعلًا بنعلٍ حين تحْذوها
وقال:
أموالُنا لذَوي الميراثِ نجمعُها ... ودورُنا لخرابِ الدهر نبنيها
فجمع الواو والياء لأنَّ الياء ساكنةٌ، ولا يكون للساكنِ وصل ولا مجرى. ألا ترى أن قول الشاعر:
وقاتم الأعماقِ خاوي المخترق
ليس فيه مجرى ولا وصلٌ لمّا قيّد. وكذلك كلُّ ما قيّد لا وصل له. ألا أنَّ بعض العرب قد يدخله الغلوّ والغالي كما وصفت لك. وقد تجري الهاء التي من نفس الكلمة هذا المجرى، تجعل هاء منبه وأبله وصلًا، فيكون أبله مع عبله، ومنبّه مع شربه، ولا تكونُ وصلًا إذا سكن ما قبلها، نحو وجه وشبه. ولا تكون الهاء منها إلاَّ رويًا. وإذا تحرك ما قبلها فإنّها أن تكون رويًا أجود. قال رؤبة:
قالتْ أبيْلي لي ولم أسبهِ
ما العيشُ إلا غفلةُ المدّلَّهِ
فجعل الهاء رويًا.
هذا باب
ما يجوز من الساكن مع المتحرك في ضرب واحد
فمن ذلك فعلن في السريع يجوز مع فعلن إذا كان مقيّدًا، ولا يجوز في الإطلاق. وإنّما جاز في المقيّد لأنَّه إذا سكن اعتمد الساكن على حرف قبل الرّويّ لا يزول، نحو تعلم، تعتمد العين على اللام فتقوى. ولو كانت اللام هي الرّويّ، وكانت بعدها حرف وصل، كانت العين تعتمد على الرّويّ.
وحرف الرّويّ أضعف، لأنّه قد يزول من الرفع إلى الجرّ، ومن الجرّ إلى النصب. ويدخله الحذف والإعلال. ألا ترى أن آخر البيتِ لا يدخله الزّحاف أبدًا، ولا يكاد يزاحف في الجزء الذي فيه القافية.
وكان الخليل يقول: إنّما يجوز فعلن مع فعيلن، لأن هذا الجزء أصله مفعولات. ففعلن هو مفعو، وفعيلن هو معلا، لأنّ الفاء والواو يفعان للزّحاف.
قال أبو الحسن: وهذا مذهب ضعيف، لأنه لا يدري أن العرب أرادت هذا بعينه، أو أخرجت شعرًا من شعر، وإن كان قد يقول الرجل منهم أعاريض لم يقلها أحد قبله. ولم نسمع بما زعم الخليل أنّها خرجت منه.
وقد أجازوا فعلن مع فعلن في الكامل إذا قيّد. أخبرني من أثق به عن المفضّل أنه سمعه من العرب. وأنشدني غيره قصيدة لعدي بن زيد، قال:
من آل ليلى دمنةٌ وطللْ ... قد أقفرتْ، فيها النعامُ زجلْ
ولقد غدوتُ بسابحٍ مرحِ ... ومعي شبابٌ كلّهمْ أخيلْ
معطي الجراءِ كأنّهُ وعلٌ ... نهدٌ ممرٌّ خلقُه مكمَلْ
1 / 13