قواعد المرام في علم الكلام تصنيف المولى الأعظم العلامة كمال الملة والدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني تغمده الله بغفرانه
مخ ۱۷
بسم الله الرحمن الرحيم (عونك يا قيوم) الحمد لله الولي الحميد، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، عالم الغيب والشهادة، المتفرد باستحقاق العبادة، أحمده والحمد من نعمه، وأستزيده من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا هو مخلصا له الدين، مسلما لأمره في كل حين.
وأشهد أن محمدا رسوله الأمين، المبعوث بلسان عربي مبين. صلى الله عليه وآله الطيبين وأصحابه الأكرمين وسلم عليهم أجمعين.
وبعد:
فلما كان شرف العلم بشرف المعلوم، وكلما كان المعلوم أجل وأعلى كان العلم به بالرعاية أولى، وكانت ذات الباري سبحانه أشرف المعلومات فكانت معرفته أتم المهمات، إذ كان المتوجه إليها هو المتوجه إلى أعلى الكمالات
مخ ۱۹
والفائز بها هو الفائز بأقصى مراتب السعادات.
وإذا كان المتكفل ببيانها هو العلم المسمى في عرف المتكلمين ب (أصول الدين) وكنت ممن وسم فيه بالتحصيل وإن لم أحصل منه إلا على القليل، أشار إلي، من إشارته غنم وتلقى أوامره العالية حتم، وهو المولى المكرم الملك المعظم العالم العادل الفاضل الكامل الذي فاق ملوك الآفاق باستجماع مكارم الأخلاق، وفاق في حلبة السباق أهل الفضائل بالإطلاق الذي ملأ الأسماع بأوصافه الجميلة وأفاض أوعية الأطماع بألطافه الجزيلة حتى أنسى بضروب النعم من سلف من أهل الكرم وأمت كعبة جوده وجوه الهمم من سائر طوائف الأمم، عز الدنيا والحق والدين غياث الإسلام المسلمين أبو المظفر عبد العزيز ابن جعفر خلد الله إقباله وضاعف جلاله وأبد فضله وأفضاله وحرس عزه وكماله إذ كانت همته العلية مقصورة على تحصيل السعادة الأبدية، أن اكتب له مختصرا في هذا العلم يجمع بين تحقيق المسائل وإبطال مذهب الخصم بأوضح الدلائل المميزة للحق من الباطل.
فلم استجز مخالفة الواجب من الأمر مع قلة البضاعة وظهور العذر، فشرعت في ذلك معتصما بواهب العقل وملهم العدل.
ورتبت تلك المقاصد على عدة قواعد:
مخ ۲۰
القاعدة الأولى (في المقدمات) وفيها أركان:
الركن الأول وفيه أبحاث:
البحث الأول:
حصول صورة الشئ في العقل إما أن يتجرد عن الحكم ويسمى ذلك الحصول معرفة وتصورا، وإما أن يكون مع الحكم عليه ويسمى ذلك الحكم سواء كان بنفي أو إثبات تصديقا أو علما. فمن شرائطه إذن تعقل محكوم عليه ومحكوم به ونسبة بينهما.
مخ ۲۱
البحث الثاني:
كل واحد من التصور والتصديق: إما أن يكون بديهيا مطلقا وهو باطل، وإلا لعلم كل عاقل كل العلوم. أو كسبيا مطلقا هو باطل، وإلا لزم الدور أو التسلسل أو يكون بعضه بديهيا وبعضه كسبيا وهو الحق.
وحينئذ فالبديهي من التصورات هو الذي لا يكون حصوله في العقل موقوفا على تجشم كسب، كتصور معنى الوجود والوحدة. والكسبي منه ما يقابل ذلك كتصور معنى الملك والجن.
والبديهي من التصديقات هو الذي يكون تصور طرفيه - أعني المحكوم عليه والمحكوم به - كافيا في الجزم باثبات أحدهما للآخر، كقولنا " الكل أعظم من الجزء " أو بنفي أحدهما عن الآخر كقولنا " النفي ليس باثبات ". والكسبي منها ما لم يكن كذلك، بل نحتاج في إثبات أحدهما للآخر أو نفيه عنه إلى وسط كقولنا " العالم حادث " و " الإله ليس بحادث ".
البحث الثالث:
التصديق إما أن يكون جازما أو لا يكون، والجازم إما أن يكون مطابقا أو فلا يكون، والمطابق إما أن يكون جزم العقل به لسبب أو لا يكون.
فالذي يكون لسبب فسببه إما الحس وحده وهي الأحكام الحاصلة عن الحواس الخمس، أو العقل وحده، فأما بأوليته، وهي البديهيات أو بنظره وهي النظريات، أو العقل والحس معا فإما إلى الحس الباطن وهي الوجدانيات كاللذة والألم أو الحس الظاهر، فأما الحس الظاهر فإما حس السمع وهي
مخ ۲۲
المتواترات أو سائر الحواس وهي المجربات ونحوها.
وأما الجازم المطابق الذي لا لموجب فهو التقليد، وأما الجازم الغير المطابق فهو الجهل المركب.
وأما الذي لا يكون جازما فإما أن يتساوى طرف الاثبات والنفي منه عند الذهن وهو الشك، أو يرجح أحدهما فالراجح ظن والمرجوح وهم.
البحث الرابع:
لما بينا أن من التصورات والتصديقات ما هو مكتسب فلا بد له من طريق، فوجب أن نشير إلى الطرق الموصلة إلى كل منهما إشارة مجملة.
وقد جرت العادة بأن تسمى الطرق الموصلة إلى التصور المكتسب قولا شارحا، فمنه ما يسمى حدا ومنه ما يسمى رسما. وأن تسمى الطرق الموصلة إلى التصديق حجة، فمنها ما يسمى قياسا ومنها وما يسمى استقراء ومنها ما يسمى تمثيلا، ويخصه الفقهاء والمتكلمون باسم القياس.
وهذه الطرق إنما وضعت ليأمن السالك بها في العلوم من الغلط في فكره إذا راعى الشرائط التي يجب أن يكون عليها.
ويجب أن نقدم الكلام في الفكر والنظر لأنه كالآلة في وجودها.
مخ ۲۳
الركن الثاني (في النظر وأحكامه) وفيه أبحاث:
البحث الأول:
قال بعض العلماء: النظر والفكر عبارة عن ترتيب مقدمات علمية أو ظنية ليتوصل بها إلى تحصيل علم أو ظن آخر. مثاله: إن من أراد أن يعلم أن العالم له مؤثر قال: " العالم ممكن وكل ممكن له مؤثر " فترتيب الحدود الثلاثة على الوجه المخصوص يسمى نظرا وفكرا.
والحق أن النظر عبارة عن انتقال الذهن من المطلوب إلى مبادئه التي يحصل منها طالبا لها ثم منها إلى المطلوب.
وتحقيقه في المثال المذكور: إن من كان مطلوبه العلم بأن العالم ممكن فنظره لتحصيله هو انتقال ذهنه منه إلى مقدمات دليله المذكور بأجزائها وترتيبها المستلزم لانتقال ذهنه إلى النتيجة التي نسميها قبل النظر مطلوبا، فمجموع تلك الانتقالات هو المسمى فكرا ونظرا، وحينئذ يتبين أن الترتيب المذكور من لوازم النظر لا حقيقته.
البحث الثاني:
النظر المفيد للعلم موجود.
مخ ۲۴
وأنكره السمنية 1) مطلقا واعترف به جماعة من المهندسين في علمي الحساب والهندسة وأنكروه في الإلهيات. وزعموا أن الغاية في المسائل الإلهية الأخذ بالأولى والأخلق دون الجزم، فإنه لا سبيل إليه.
لنا إن النظر في المثال المذكور استلزم العلم، فالنظر المفيد للعلم موجود.
احتج المنكرون مطلقا بوجوه:
(الأول) إن العلم بكون النتيجة الحاصلة عن النظر علما غير ضروري، لأن كثيرا ما ينكشف الأمر بخلافه، ولا نظري وإلا لدار أو تسلسل.
(الثاني) إن المطلوب إن كان معلوما استحال طلبه ، لأن تحصيل الحاصل محال. وإن كان مجهولا فكيف يعلم إذا وجده أنه هو الذي كان مطلوبه.
(الثالث) إن الإنسان قد يجزم بصحة دليل زمانا مديدا ثم يظهر له بعد حين فساده بدليل آخر، والاحتمال في الثاني قائم وكذا في الثالث والرابع، ومع قيام الاحتمال لا يحصل اليقين.
واحتج المنكرون للنظر في الإلهيات بوجهين:
(أحدهما) أن الحقائق الإلهية غير متصورة، فاستحال الحكم عليها، فامتنع طلبها.
(الثاني) إن أظهر الأشياء وأقربها من الإنسان هويته، وللناس فيها اختلافات لا يمكن الجزم بواحد منها، وإذا كان حاله في معرفة أقرب الأمور إليه كذلك فما ظنك بأبعدها عنه مناسبة.
(والجواب عن الأول) أنه ضروري، وكل من رتب مقدمات تعينية ترتيبا منتجا علم بالضرورة كون الحاصل عنها علما ولم ينكشف الأمر بخلافه البتة.
مخ ۲۵
(وعن الثاني) أنه مجهول التصديق معلوم التصور، فإذا وجده ميزه عن غيره بالتصور المعلوم.
(وعن الثالث) أن غلط العقل في بعض الأدلة لا يوجب رد أحكامه مطلقا، واحتمال غلطه فيما يجزم به لا يبقى مع جزمه.
وأيضا فهو معارض بغلط الحس مع اعترافكم بصحة حكمه.
(وعن الرابع) أن التصديق يكفي فيه التصور بحسب العوارض، وتلك الحقائق متصورة بحسب عوارضها المشتركة بينها وبين المحدثات، فأمكن الحكم عليها.
(وعن الخامس) أنه يدل على صعوبة هذا العلم لا على امتناعه.
البحث الثالث:
الدليل إن طابق ما عليه الأمر في نفسه من صدق المقدمات العلمية أو الظنية وصحة ترتيبها المستلزم للمطلوب، كان ذلك النظر نظرا صحيحا وإلا كان فاسدا.
ثم الفساد إن كان من جهة المقدمات مع صحة الترتيب على الوجه المنتج كما سنذكره كان ذلك النظر مستلزما للجهل المركب، وإن كان الفساد من جهتيهما أو من جهة الترتيب فقط لم يستلزم الجهل، وإن كان قد يعرض بسببه جهل لكن لا على وجه اللزوم لجواز انفكاكه عنه وقتا آخر وفي ذهن آخر.
وحينئذ يعلم أن الخلاف الجاري بين المتكلمين في أن النظر الفاسد هل يولد الجهل أم لا، خلاف من غير تحقيق محل النزاع.
البحث الرابع:
حصول العلم عقيب النظر الصحيح المجرى العادة عند الأشعرية.
مخ ۲۶
ويجوز خرقها فلا بوجد العلم عنه، وعلى سبيل التولد عند المعتزلة كتولد الألم عن الضرب.
والحق أنه مستلزم للعلم بالضرورة كما سبق، فإن من علم أن العالم حادث وإن كان حادث مفتقر إلى المؤثر لزم بالضرورة عن هذين العلمين على الترتيب المذكور العلم بأن العالم مفتقر إلى المؤثر.
البحث الخامس:
قال أصحابنا: شرط حصول العلم عن النظر أن يكون الناظر عالما بالدليل من الوجه الذي يدل، ولا يستلزم المطلوب مع الشك أو الظن أو الجهل به من ذلك الوجه، وكان العلم به من ذلك الوجه هو التفطن، لاندراج الحد الأصغر تحت الأوسط والأوسط تحت الأكبر، كما سنبين معنى هذا المفهومات. فإن الإنسان قد يعلم أن هذا الحيوان بغلة وأن كل بغلة عاقر وربما رأى بغلة منتفخة البطن فظنها حبلى، فلا يكفي حصول المقدمتين في الذهن بدون التفطن المذكور في حصول المطلوب.
البحث السادس:
شرط وجود النظر أن لا يكون الناظر عالما بالمطلوب، لأن لك يكون تحصيلا للحاصل. وأن لا يكون جاهلا به جهلا بسيطا مطلقا. لأن نفسه تكون إذن غافلة عنه من كل وجه فيمتنع طلبه. وأن لا يكون جاهلا به جهلا مركبا، لأن ذلك يمنعه عن الطلب. بل يكون عالما به باعتبار ما، فيتنبه من ذلك الاعتبار لطلب القدر المجهول منه.
مخ ۲۷
البحث السابع:
النظر في معرفة الله تعالى واجب عقلا، خلافا للأشعرية.
لنا: إن النظر شرط لحصول أمر واجب، وما كان شرطا للواجب كان واجبا:
أما المقدمة الأولى: فلأنه شرط لمعرفة الله تعالى وهي واجبة: أما إنه شرط للمعرفة فلأنها من الأمور الكسبية، والضرورة قاضية بأنه ما لم يحصل في الذهن وسط جامع بين حدي المطلوب لم يحصل العلم به. وقد عرفت أن تحصيل الوسط لا يمكن إلا بالنظر، فإذن المعرفة لا تحصل إلا به فكان شرطا لها.
وأما أنها واجبة فمن وجهين:
(الأول) إن دفع الضرر المظنون الذي يلحق بسبب الجهل بمعرفة الله واجب عقلا، ووجوب دفع ذلك الضرر مستلزم لوجوب المعرفة.
بيان الأول: إن المكلف الجاهل بالله يجوز أن يكون له صانع أراد منه معرفته وكلفه بها، وأنه إذا لم يعرفه عاقبه، سواء كان ذلك التجويز بخاطر خطر له أو بحسب سماعه اختلاف الناس في الديانات وإثبات الصانع، فإنه يجد من نفسه خوف عقاب مظنون لعله يلحقه على ترك المعرفة وذلك ضرر واجب الدفع عن النفس.
بيان الثاني: إن دفع ذلك الضرر لا يحصل إلا بالمعرفة، فكان وجوبه مستلزما لوجوبها.
(الثاني) لو لم يجب معرفة الله تعالى عقلا لما وجب شكر نعمه عقلا، واللازم باطل فالملزوم مثله.
مخ ۲۸
بيان الملازمة: إن بتقدير عدم معرفة المنعم لا يمكن شكره، وما لا يمكن أولى بأن لا يجب. بيان بطلان اللازم: إن العاقل إذا فكر في خلقه وجد آثار النعمة عليه ظاهرة، وقد تقرر في عقله وجوب شكر المنعم فيجب عليه شكره فيجب إذن معرفته.
بيان الثاني: إنه لو لم يجب الشرط لوجوب مشروطه لكان التكليف به تكليفا بما لا يطاق وأنه قبيح عقلا، وسيأتي الكلام فيه في مسألة الحسن والقبح إن شاء الله.
فإن قيل: لا نسلم وجوب المعرفة، ولم لا يكفي التقليد أو الظن الغالب، فإن من اعتقد المنعم وإن لم يعلمه صح منه أن يشكره، وكذلك إذا خاف يندفع خوفه بالفرع إلى الاعتقاد الجازم وإن لم يكن يقينا. سلمناه لكن لم قلتم إنه لا طريق إلى المعرفة سوى النظر. ثم إنا نتبرع بذكر طرق أخر: منها قول المعصوم. ومنها الإلهام. ومنها تصفية الخاطر كما يقوله بعض المتصوفة. وإنما يجب لو لم يكن غيره طريقا. سلمناه لكن لم قلتم إن ما كان شرطا للواجب كان واجب. قوله: يلزم تكليف ما لا يطاق. قلنا: ولم لا يجوز أن تكون التكاليف بأسرها كذلك.
والجواب عن الأول:
قوله " لا نسلم وجوب المعرفة " قلنا: بينا ذلك.
قوله " ولم لا يكفي التقليد أو الظن الغالب " قلنا: لأن الاعتقاد الحاصل بالتقليد غير كاف في دفع خوف الضرر المظنون في ترك المعرفة، لا المقلد لا يأمن خطأ من قلده ويستوي عنده الصادق والكاذب، ومتى ميز بينهما لم يكن مقلدا. وأما الظن فممكن الزوال، وفي زواله خطر عظيم، فلا يندفع به خوف
مخ ۲۹
الضرر المظنون في ترك معرفة الله. ولا يكفيان أيضا في صحة شكره، لجواز أن يأتي المكلف بالشكر على الوجه غير اللائق فيقع في الضرر، كشكر المجسمة ونحوهم.
وعن الثاني:
قوله " لم قلتم إنه لا طريق إلى المعرفة سوى النظر " قلنا: بينا ذلك فأما قول المعصوم فلا يمكن أن يستفاد معرفة الله تعالى منه، لتوقف العلم بكونه حجة على المعرفة، فلو استفيدت المعرفة من قوله لزم الدور.
وأما الإلهام فلو ثبت وقوعه لم يأمن صاحبه أن تكون من غير الله إلا بالنظر وإن لم يتمكن من العبارة عنه.
وأما تصفية الباطن فهي عبارة عن حذف الموانع الداخلة والخارجة عن القلب، وغايتها أن تقبل النفس معا السوانح الإلهية على طريق الإفاضة والإلهام ولن يعلم إن تلك الإفاضة والخواطر من الله أو من غيره إلا بالنظر.
وعن الثالث: إنا سنبين إنشاء الله تعالى في مسألة الأفعال أن القول بتكليف ما لا يطاق محال.
الركن الثالث (في الطرق الموصلة إلى التصور) وهي الأقوال الشارحة، وفيه أبحاث:
البحث الأول:
الحقائق منها بسيطة وهي ما لا يلتئم عند العقل من عدة أمور، ومنها مركبة
مخ ۳۰
وهي ما كان كذلك.
ثم لما كان المعرف للشئ هو الذي يلزم من تصوره تصور ذلك الشئ وامتيازه عن غيره لم يجز أن يعرف الشئ بنفسه، لعدم إفادته تميز نفسه، ولأن المعرف يجب كونه معلوما قبل المعرف، فلو عرفنا الشئ بنفسه لزم تقدم العلم به على العلم به، فلزم تقدمه على نفسه، ولا بما هو أعم منه لأن تصور العام لا يستلزم تصور الخاص، ولا بما هو أخص لكونه أخفى، بل وجب أن يكون التعريف بما يساويه في العموم والخصوص. فذلك المساوي إما أن يكون مجموع أجزاء الشئ ويسمى حدا تاما كالحيوان الناطق للانسان، أو بعض أجزائه ويسمى حدا ناقصا كالجسم الناطق له، أو بعض أجزائه المشتركة مع أمر خارج عنه مساو له ويسمى رسما تاما كالحيوان الضاحك له. وكذلك مجموع أمور خارجة عن ماهيته مساو لها إذا ميزها عن كل ما عداها، أو مجموع أمور يميزها عن بعض ما عداها ويسمى رسما ناقصا كالحيوان البادي البشرة له.
البحث الثاني:
ظهر مما قررنا أن البسائط لا تعرف بحد، إذ لا أجزاء لها، بل تعرف بالأمور الخارجة عنها الخاصة بها البينة لها إن كانت.
ثم إن كانت أجزاء لغيرها أخذت في حده وإلا فلا يعرف بها أيضا تعريفا حديا.
وأما المركبات فتعرف بحدودها، إذ لها أجزاء لغيرها أخذت في حده أو عرضية له جاز أن تؤخذ في رسومها.
مخ ۳۱
البحث الثالث:
الترتيب في الأقوال الشارحة أن يقدم الأعم ثم يقيد بالأخص، لأن الأعم أعرف في الذهن وأكثر وقوعا فيه من الأخص، وتقديم الأعرف هو الترتيب الطبيعي، فكان أولى كما قرر ذلك في موضع أليق به.
البحث الرابع:
الاحتراز عن تعريف الشئ بما يساويه في المعرفة والخفاء وعن تعريفه بالأخفى منه ربما لا يعرف إلا به في مرتبة أو مراتب.
الركن الرابع (في الطرق الموصلة إلى التصديق) وفيه أبحاث:
البحث الأول: في الخبر وأنواعه ثلاثة:
لأن الخبر إما أن يكون تركيبه تركيبا أولا من محكوم عليه ومحكوم به ويسمى تصديقا وقضية حملية، كقولنا " العالم حادث ".
وإما تركيبا ثانيا يقع من مركبات أولى، وحينئذ لا بد بين المركبين من نسبة فهي إما لزوم أحدهما للآخر ويسمى ذلك المركب شرطيا متصلا وأدواته
مخ ۳۲
حروف الشرط والجزاء كقولنا " إن كان العالم حادثا فليس بقديم "، ويسمى الجزء الأول من هذا المركب ملزوما ومقدما والثاني لازما وتاليا.
وإما أن تكون عناد أحدهما للآخر ومنافاته ويسمى ذلك المركب شرطيا منفصلا، وأدواته إما وما في حكمها، كقولنا " المعلوم إما موجود وإما معدوم ".
البحث الثاني: في تعريف الحجة وأقسامها الحجة قول مؤلف من أقوال يقصد بها تحصيل مطلوب مجهول، وأقسامها ثلاثة:
(الأول) ما يسمى قياسا، وحده أنه قول مؤلف من أقوال إذا سلمت لزم عنها بالذات قول آخر ضرورة، وهو إما أن لا يكون اللازم عنه ولا مقابله مذكورا فيه بالفعل، ويسمى قياسا اقترانيا، كقولنا " كل جسم مؤلف وكل مؤلف محدث " فإنه يلزم بالضرورة من تسليم هذين القولين الحكم بأن كل جسم محدث.
فهذا قياس، وكل واحد من القولين المركب منهما يسمى مقدمة، وأجزاؤها تسمى حدودا.
ولا بد من مشترك بين المقدمتين يذكر فيهما، فما اختص بالمقدمة الأولى سمي حدا أصغر كالجسم في مثالنا، وسميت المقدمة صغرى لاشتمالها عليه، وما اختص بالثانية سمي أكبر كالمحدث فيه، وسميت الكبرى لاشتمالها عليه، وما كان مشتركا بينهما سمي أوسط كالمؤلف.
وهذا القياس يقع على وجوه أربعة من التركيب: لأن الأوسط إما أن يكون محكوما به على الأصغر محكوما عليه بالأكبر ويسمى الشكل الأول، أو بالعكس ويسمى الشكل الرابع، أو محكوما به عليهما ويسمى الشكل الثاني، أو بهما عليه ويسمى الشكل الثالث. وأجلى الأربعة وأكثرها استعمالا في تحصيل المطالب
مخ ۳۳
هو الأول كما في مثالنا المذكور هذا.
وإما أن يكون اللازم عنه أو مقابله مذكورا فيه بالفعل ويسمى قياسا استثنائيا وهو مركب من شرط واستثناء، فأما من شرط يقتضي اللزوم ويلزم من استثناء عين الملزوم فيه عين اللازم، كقولنا " إن كان العالم حادثا فله صانع لكن العالم حادث " فيلزم أن له صانعا، ومن استثناء نقيض اللازم نقيض الملزوم، كقولنا " إن كان العالم قديما فهو غني عن المؤثر لكنه ليس بغني عنه " فيلزم أنه ليس بقديم.
وإما أن يكون التركيب من شرطي يقتضي العناد الحقيقي ويلزم من استثناء عين كل جزء منه نقيض الآخر، كقولنا " هذا العدد إما زوج وإما فرد لكنه زوج فليس بفرد " أو " لكنه فرد ليس بزوج "، ومن استثناء نقيض كل جزء منه عين الآخر، كقولنا في المثال " لكنه ليس بزوج فهو فرد " أو " لكنه ليس بفرد فهو زوج ".
(القسم الثاني) من أقسام الحجة ما يسمى استقراء، وهو حكم على كلي بما وجد في جزئياته، كقولنا " كل واحد واحد من الحيوانات التي رأيناها يحرك فكه الأسفل عند المضغ "، فوجب أن يكون كل حيوان كذلك . وهو غير مفيد لليقين لاحتمال أن يكون حال من لم نشاهد من الحيوان خلاف ما شاهدناه كما نقل في التمساح.
(القسم الثالث) منها ما يسمى تمثيلا ويسميه الفقهاء والمتكلمون قياسا، وهو إلحاق جزئي بما يشبهه في إثبات مثل حكمه له، ويسمى المشبه به أصلا والمشبه فرعا وما فيه المشابهة علة وجامعا، وهو يفيد ظنا يتفاوت بالشدة والضعف بحسب جودة التمثيل، وأقواه ما اشتمل على علة وجودية. وعلى كل حال لا يفيد القطع لجواز اختصاص العلة بالأصل.
مخ ۳۴
ثم إن صح التعليل بها مطلقا كان ذلك برهانا لا حاجة به إلى أصل وفرع.
البحث الثالث:
القياس إن كانت مقدماته يقينية يسمى برهانا، ورسمه أنه قياس من يقينيات ينتج يقينا بالذات اضطرارا، وأصول المقدمات اليقينية البديهيات كالعلم بأن النفي والاثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان.
ثم المحسوسات إما بالحس الظاهر كالعلم بأن الشمس مضيئة، أو الباطن كالعلم بأن لنا لذة وألما، وما عداها كالمجربات والمتواترات ونحوها ففرع عليها كما علمته.
ثم قد يكون أوسطه مع كونه علة لوجود الأكبر في الأصغر في الذهن علة لوجوده له في نفس الأمر، كقولنا " هذه الخشبة مستها النار وكل خشبة مستها النار فهي محترقة فهذه الخشبة محترقة "، ويسمى هذا برهان لم. وقد لا يكون كذلك ويسمى برهان ان، ويخص منه ما كان أوسطه معلولا لوجود الأكبر في الأصغر في نفس الأمر باسم الدليل كقولنا " هذه الخشبة محترقة وكل محترق مستها النار فهذه الخشبة مستها النار ".
البحث الرابع:
الدليل في عرف المتكلمين هو الذي يلزم من العلم به العلم بالمدلول، والأمارة هي التي يلزم من العلم بها ظن المدلول، وتتركب عن المقدمات الظنية وعنها مع العلمية، وإنما لزمها الظني مطلقا لأن الحكم بثبوت الأكبر للأصغر أو نفيه عنه موقوف على حكم ظني، والموقوف على الحكم الظني لا يمكن الجزم به.
مخ ۳۵
ثم كل منهما إما أن يكون عقليا محضا وهو ما يتركب عن مقدمات كلها عقلية وهو ظاهر، أو سمعيا محضا كقولنا " شرب الخمر حرام وكل حرام متوعد بالعقاب على فعله " أو مركب منهما كقولنا " الباري سميع بصير وكل سميع بصير حي ".
ومنع الإمام فخر الدين وجود الدليل السمعي المحض، مفسرا له بأنه ما لم يستند صدق قائله إلى العقل أصلا وحينئذ لا يفيد علما ولا ظنا، فلا يصدق عليه اسم الدليل ولا الأمارة.
ومنعه صحيح على تفسيره، والخلاف لفظي.
البحث الخامس:
قال الإمام فخر الدين رحمه الله: الدليل اللفظي لا يفيد اليقين، واحتج بأن إفادته له يتوقف على تيقن أمور عشرة: عدم خطأ رواة الألفاظ في نقل جواهرها وإعرابها وتصريفها وعدم الاشتراك والمجاز والتخصيص والنسخ والاضمار والتقديم والتأخير والمعارض العقلي الذي لو كان لرجح على النقل. وظاهر أن حصول هذه الأمور في الدليل اللفظي مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا، فكانت نتيجة ظنية.
والحق إنه قد يفيد اليقين، والشرط في إفادته اليقين لا كون الأمور المذكورة حاصلة في ذهن المستفيد ومتيقنة له كما زعم الإمام بل كونها حاصلة في نفس الأمر فإنا قد نتيقن المراد من اللفظ المنقول وإن لم يسبق إلى ذهننا شئ من هذه الشرائط، كقوله تعالى " لم يلد ولم يولد " فإنا نتيقن أن المراد منه نفي كونه والدا أو مولودا. لكن إذا حصل في ذهننا هذا التيقن استدللنا به على أن تلك الشرائط كانت حاصلة في نفس الأمر. والله أعلم.
مخ ۳۶
البحث السادس:
المطلوب إما أن يستقل العقل بدركه أو لا يستقل، والأول فإما أن يتوقف العلم بصدق النقل على العلم به كالعلم بوجود الصانع، ومثل هذا لا يمكن معرفته بالنقل والا لزم الدور، أو لا يتوقف كالعلم بوحدانية الصانع ويمكن معرفته بالعقل والنقل معا.
وأما الثاني فكل ما كان أمرا ممكنا في نفسه محتملا في أذهاننا ولا يتمكن العقل من الحكم فيه، وهو إما عام كالعاديات أو خاص كالإخبار عن القيامة وأحوال أهل الجنة والنار. والطريق إلى ذلك ليس إلا السمع فقط.
مخ ۳۷