[مُقَدِّمَة الْكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ لِيُكَلِّفَهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَيَعْبُدُوهُ، وَيُقَدِّسُوهُ وَيُمَجِّدُوهُ وَيَشْكُرُوهُ وَلَا يَكْفُرُوهُ، وَيُطِيعُوهُ وَلَا يَعْصُوهُ، وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولَهُ ﷺ لِيُعَزِّرُوهُ وَيُوَقِّرُوهُ وَيُطِيعُوهُ وَيَنْصُرُوهُ؛ فَأَمَرَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ بِكُلِّ بِرٍّ وَإِحْسَانٍ، وَزَجَرَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ عَنْ كُلِّ إثْمٍ وَطُغْيَانٍ وَكَذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالطَّغْوَى. وَحَثَّهُمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ، كَمَا زَجَرَهُمْ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالِابْتِدَاعِ. وَكَذَلِكَ أَمَرَ عِبَادَهُ بِكُلِّ خَيْرٍ؛ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ، وَوَعَدَهُمْ بِالثَّوَابِ عَلَى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧] . وَنَهَاهُمْ عَنْ كُلِّ شَرٍّ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى مَحْظُورٍ جَلِيلِهِ وَحَقِيرِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٨]، وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأنبياء: ٤٧] . وَكَذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِتَحْصِيلِ مَصَالِحِ إجَابَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِ مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ؛ إحْسَانًا إلَيْهِمْ، وَإِنْعَامًا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ طَاعَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ. فَعَرَّفَهُمْ مَا فِيهِ رُشْدُهُمْ وَمَصَالِحُهُمْ لِيَفْعَلُوهُ، وَمَا فِيهِ غَيُّهُمْ وَمَفَاسِدُهُمْ لِيَجْتَنِبُوهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ لَهُمْ لِيُعَادُوهُ وَيُخَالِفُوهُ، فَرَتَّبَ مَصَالِحَ الدَّارَيْنِ عَلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، فَأَنْزَلَ الْكُتُبَ بِالْأَمْرِ وَالزَّجْرِ وَالْوَعْدِ الْوَعِيدِ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَصْلَحَهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيْحُكُمْ مَا يُرِيدُ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.

1 / 3

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ جَلْبِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمَا] عَلَى الظُّنُونِ الِاعْتِمَادُ فِي جَلْبِ مُعْظَمِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمَا عَلَى مَا يَظْهَرُ فِي الظُّنُونِ. وَلِلدَّارَيْنِ مَصَالِحُ إذَا فَاتَتْ فَسَدَ أَمْرُهُمَا، وَمَفَاسِدُ إذَا تَحَقَّقَتْ هَلَكَ أَهْلُهُمَا، وَتَحْصِيلُ مُعْظَمِ هَذِهِ الْمَصَالِحِ بِتَعَاطِي أَسْبَابِهَا مَظْنُونٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ؛ فَإِنَّ عُمَّالَ الْآخِرَةِ لَا يَقْطَعُونَ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِنَاءً عَلَى حُسْنِ الظُّنُونِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ مَا يَعْمَلُونَ، وَقَدْ جَاءَ التَّنْزِيلُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٠]، فَكَذَلِكَ أَهْلُ الدُّنْيَا إنَّمَا يَتَصَرَّفُونَ بِنَاءً عَلَى حُسْنِ الظُّنُونِ، وَإِنَّمَا اُعْتُمِدَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهَا عِنْدَ قِيَامِ أَسْبَابِهَا؛ فَإِنَّ التُّجَّارَ يُسَافِرُونَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ يُسْتَعْمَلُونَ بِمَا بِهِ يَرْتَفِقُونَ، وَالْأَكَّارُونَ يَحْرُثُونَ وَيَزْرَعُونَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَغَلُّونَ، وَالْجَمَّالُونَ وَالْبَغَّالُونَ يَتَصَدَّرُونَ لِلْكِرَاءِ لَعَلَّهُمْ يُسْتَأْجَرُونَ، وَالْمُلُوكُ يُجَنِّدُونَ الْأَجْنَادَ وَيُحَصِّنُونَ الْبِلَادَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَنْتَصِرُونَ. وَكَذَلِكَ يَأْخُذُ الْأَجْنَادُ الْحَذَرَ وَالْأَسْلِحَةَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَ وَيَسْلَمُونَ، وَالشُّفَعَاءُ يَشْفَعُونَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ يُشْفَعُونَ وَالْعُلَمَاءُ يَشْتَغِلُونَ بِالْعُلُومِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ يَنْجَحُونَ وَيَتَمَيَّزُونَ. وَكَذَلِكَ النَّاظِرُونَ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْمُجْتَهِدُونَ فِي تَعَرُّفِ الْأَحْكَامِ، يَعْتَمِدُونَ فِي الْأَكْثَرِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ يَظْفَرُونَ بِمَا يَطْلُبُونَ، وَالْمَرْضَى يَتَدَاوَوْنَ لَعَلَّهُمْ يُشْفَوْنَ وَيَبْرَءُونَ. وَمُعْظَمُ هَذِهِ الظُّنُونِ صَادِقٌ مُوَافِقٌ غَيْرُ مُخَالِفٍ وَلَا كَاذِبٍ، فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ الْغَالِبَةِ الْوُقُوعُ خَوْفًا مِنْ نُدُورِ وَكَذِبِ الظُّنُونِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا الْجَاهِلُونَ.

1 / 4

[فَصْلٌ فِيمَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ] فِيمَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ لِمَا عَارَضَهُ أَوْ رَجَحَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ مَصَالِحَ مُتَجَانِسَةٍ وَأَخْرَجَ بَعْضَهَا عَنْ الْأَمْرِ، إمَّا لِمَشَقَّةِ مُلَابَسَتِهَا وَإِمَّا لِمَفْسَدَةٍ تُعَارِضُهَا، وَزَجَرَ عَنْ مَفَاسِدَ مُتَمَاثِلَةٍ وَأَخْرَجَ بَعْضَهَا عَنْ الزَّجْرِ إمَّا لِمَشَقَّةِ اجْتِنَابِهَا، وَإِمَّا لِمَصْلَحَةٍ تُعَارِضُهَا، وَيُعَبَّرُ عَنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالنَّفْعِ وَالضَّرِّ، وَالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ كُلَّهَا خُيُورٌ نَافِعَاتٌ حَسَنَاتٌ، وَالْمَفَاسِدَ بِأَسْرِهَا شُرُورٌ مُضِرَّاتٌ سَيِّئَاتٌ، وَقَدْ غَلَبَ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُ الْحَسَنَاتِ فِي الْمَصَالِحِ، وَالسَّيِّئَاتِ فِي الْمَفَاسِدِ. [فَصْلٌ فِيمَا تُعْرَفُ بِهِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَفِي تَفَاوُتِهِمَا] فِيمَا تُعْرَفُ بِهِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَفِي تَفَاوُتِهِمَا وَمُعْظَمُ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَفَاسِدِهَا مَعْرُوفٌ بِالْعَقْلِ وَذَلِكَ مُعْظَمُ الشَّرَائِعِ؛ إذْ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَنَّ تَحْصِيلَ الْمَصَالِحِ الْمَحْضَةِ، وَدَرْءَ الْمَفَاسِدِ الْمَحْضَةِ عَنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَعَنْ غَيْرِهِ مَحْمُودٌ حَسَنٌ، وَأَنَّ تَقْدِيمَ أَرْجَحِ الْمَصَالِحِ فَأَرْجَحِهَا مَحْمُودٌ حَسَنٌ، وَأَنَّ دَرْءَ أَفْسَدِ الْمَفَاسِدِ فَأَفْسَدِهَا مَحْمُودٌ حَسَنٌ، وَأَنَّ تَقْدِيمَ أَرْجَحِ الْمَصَالِحِ فَأَرْجَحِهَا مَحْمُودٌ حَسَنٌ، وَأَنَّ دَرْءَ أَفْسَدِ الْمَفَاسِدِ فَأَفْسَدِهَا مَحْمُودٌ حَسَنٌ، وَأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَرْجُوحَةِ مَحْمُودٌ حَسَنٌ، وَأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمَرْجُوحَةِ مَحْمُودٌ حَسَنٌ. وَاتَّفَقَ الْحُكَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، وَعَلَى تَحْصِيلِ الْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ. وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ

1 / 5

لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ فِي التَّسَاوِي وَالرُّجْحَانِ، فَيَتَحَيَّرُ الْعِبَادُ عِنْدَ التَّسَاوِي وَيَتَوَقَّفُونَ إذَا تَحَيَّرُوا فِي التَّفَاوُتِ وَالتَّسَاوِي. وَكَذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ يَدْفَعُونَ أَعْظَمَ الْمَرَضَيْنِ بِالْتِزَامِ بَقَاءِ أَدْنَاهُمَا، وَيَجْلِبُونَ أَعْلَى السَّلَامَتَيْنِ وَالصِّحَّتَيْنِ وَلَا يُبَالُونَ بِفَوَاتِ أَدْنَاهُمَا، وَيَتَوَقَّفُونَ عِنْدَ الْحِيرَةِ فِي التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتِ؛ فَإِنَّ الطِّبَّ كَالشَّرْعِ وُضِعَ لِجَلْبِ مَصَالِحِ السَّلَامَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَلِدَرْءِ مَفَاسِدِ الْمَعَاطِبِ وَالْأَسْقَامِ، وَلِدَرْءِ مَا أَمْكَنَ دَرْؤُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِجَلْبِ مَا أَمْكَنَ جَلْبُهُ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ تَعَذَّرَ دَرْءُ الْجَمِيعِ أَوْ جَلْبُ الْجَمِيعِ فَإِنْ تَسَاوَتْ الرُّتَبُ تُخُيِّرَ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ اُسْتُعْمِلَ التَّرْجِيحُ عِنْدَ عِرْفَانِهِ وَالتَّوَقُّفُ عِنْدَ الْجَهْلِ بِهِ. وَاَلَّذِي وَضَعَ الشَّرْعَ هُوَ الَّذِي وَضَعَ الطِّبَّ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضُوعٌ لِجَلْبِ مَصَالِحَ وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمْ. وَكَمَا لَا يَحِلُّ الْإِقْدَامُ لِلْمُتَوَقِّفِ فِي الرُّجْحَانِ فِي الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ الرَّاجِحُ، فَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِلطَّبِيبِ الْإِقْدَامُ مَعَ التَّوَقُّفِ فِي الرُّجْحَانِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الرَّاجِحُ، وَمَا يَحِيدُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إلَّا جَاهِلٌ بِالصَّالِحِ وَالْأَصْلَحِ، وَالْفَاسِدِ وَالْأَفْسَدِ، فَإِنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا جَاهِلٌ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ أَوْ أَحْمَقُ زَادَتْ عَلَيْهِ الْغَبَاوَةُ. فَمَنْ حَرَّمَ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ مِنْ الْكَفَرَةِ رَامٍ بِذَلِكَ مَصْلَحَةَ الْحَيَوَانِ فَحَادَ عَنْ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ مَصْلَحَةَ حَيَوَانٍ خَسِيسٍ عَلَى مَصْلَحَةِ حَيَوَانٍ نَفِيسٍ، وَلَوْ خَلَوْا عَنْ الْجَهْلِ وَالْهَوَى لَقَدَّمُوا الْأَحْسَنَ عَلَى الْأَخَسِّ، وَلَدَفَعُوا الْأَقْبَحَ بِالْتِزَامِ الْقَبِيحِ. ﴿فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [الروم: ٢٩]؟ فَمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَعَصَمَهُ أَطْلَعَهُ عَلَى دَقِّ ذَلِكَ وَجُلِّهِ، وَوَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ بِمُقْتَضَى مَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ فَقَدْ فَازَ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. قَالَ: وَقَدْ كُنَّا نَعُدُّهُمْ قَلِيلًا فَقَدْ صَارُوا أَقَلَّ مِنْ الْقَلِيلِ، وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْأَحْكَامِ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَعَصَمَهُ مِنْ الزَّلَلِ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الرَّاجِحَةِ، فَأَصَابَ الصَّوَابَ فَأَجْرُهُ عَلَى قَصْدِهِ وَصَوَابِهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَخْطَأَ الرُّجْحَانَ

1 / 6

فَإِنَّ أَجْرَهُ عَلَى قَصْدِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَيُعْفَى عَنْ خَطَئِهِ وَزَلَلِهِ. وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْخَطَأُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُصُولِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَصْلَحِ فَالْأَصْلَحِ وَدَرْءَ الْأَفْسَدِ فَالْأَفْسَدِ مَرْكُوزٌ فِي طَبَائِعِ الْعِبَادِ نَظَرًا لَهُمْ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَلَوْ خَيَّرْت الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ بَيْنَ اللَّذِيذِ وَالْأَلَذِّ لَاخْتَارَ الْأَلَذَّ، وَلَوْ خُيِّرَ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ لَاخْتَارَ الْأَحْسَنَ، وَلَوْ خُيِّرَ بَيْنَ فَلْسٍ وَدِرْهَمٍ لَاخْتَارَ الدِّرْهَمَ، وَلَوْ خُيِّرَ بَيْنَ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ لَاخْتَارَ الدِّينَارَ. لَا يُقَدِّمُ الصَّالِحَ عَلَى الْأَصْلَحِ إلَّا جَاهِلٌ بِفَضْلِ الْأَصْلَحِ، أَوْ شَقِيٌّ مُتَجَاهِلٌ لَا يَنْظُرُ إلَى مَا بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ مِنْ التَّفَاوُتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْخَالِصَةَ عَزِيزَةُ الْوُجُودِ، فَإِنْ الْمَآكِلَ وَالْمَشَارِبَ وَالْمَلَابِسَ وَالْمَنَاكِحَ وَالْمَرَاكِبَ وَالْمَسَاكِنَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِنَصَبٍ مُقْتَرِنٍ بِهَا، أَوْ سَابِقٍ، أَوْ لَاحِقٍ، وَأَنَّ السَّعْيَ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا شَاقٌّ عَلَى مُعْظَمِ الْخَلْقِ لَا يُنَالُ إلَّا بِكَدٍّ وَتَعَبٍ، فَإِذَا حَصَلَتْ اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ الْآفَاتِ مَا يُنْكِدُهَا وَيُنَغِّصُهَا، فَتَحْصِيلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ شَاقٌّ. أَمَّا الْمَآكِلُ وَالْمَشَارِبُ فَيَتَأَلَّمُ الْإِنْسَانُ بِشَهْوَتِهَا، ثُمَّ يَتَأَلَّمُ بِالسَّعْيِ فِي تَحْصِيلِهَا. ثُمَّ يَتَأَلَّمُ بِمَا يَصِيرُ إلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالْأَقْذَارِ وَمُعَالَجَةِ غُسْلِهِ بِيَدِهِ. وَأَمَّا الْمَلَابِسُ فَمَفَاسِدُهَا مَشَقَّةُ اكْتِسَابِهَا، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ آفَاتِهَا؛ كَالتَّخَرُّقِ وَالتَّفَتُّقِ وَالْبِلَى وَالِاحْتِرَاقِ. وَأَمَّا الْمَنَاكِحُ فَيَتَأَلَّمُ الْمَرْءُ بِمُؤَنِهَا وَنَفَقَتِهَا وَكُسْوَتِهَا وَجَمِيعِ حُقُوقِهَا. وَأَمَّا الْمَرَاكِبُ فَمَفَاسِدُهَا مَشَقَّةُ اكْتِسَابِهَا وَالْعَنَاءُ فِي الْقِيَامِ بِعَلَفِهَا وَسَقْيِهَا وَحِفْظِهَا وَسِيَاسَتِهَا، وَمَا عَسَاهُ يَلْحَقُهَا مِنْ الْآفَاتِ، وَكَذَلِكَ الرَّقِيقُ فِيهِ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ. وَأَمَّا الْمَسَاكِنُ فَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِكَدٍّ وَنَصَبٍ، وَتَقْتَرِنُ بِهَا آفَاتُهَا مِنْ الِانْهِدَامِ وَالِاحْتِرَاقِ وَالتَّزَلْزُلِ وَالتَّعَيُّبِ وَسُوءِ الْجَارِ، وَالضِّيقِ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ ضِيقَهَا، وَاتِّسَاعِهَا عَلَى مَنْ يَتَأَلَّمُ بِاتِّسَاعِهَا، وَسُوءِ صُقْعِهَا فِي الْوَخَامَةِ وَالدَّمَامَةِ وَالْبُعْدِ مِنْ الْمَاءِ وَمُجَاوَرَةِ الْأَتُّونَاتِ وَالْحَمَّامَاتِ وَالْمَدَابِغِ ذَوَاتِ الرَّوَائِحِ الْمُسْتَخْبَثَاتِ.

1 / 7

اصول - د اسلامي متنونو لپاره څیړنیز اوزار

اصول.اي آی د اوپنITI کورپس څخه زیات له 8,000 اسلامي متونو خدمت کوي. زموږ هدف دا دی چې په اسانۍ سره یې ولولئ، لټون وکړئ، او د کلاسیکي متونو د څیړلو کولو لپاره یې آسانه کړئ. لاندې ګډون وکړئ ترڅو میاشتني تازه معلومات په زموږ د کار په اړه ترلاسه کړئ.

© ۲۰۲۴ اصول.اي آی بنسټ. ټول حقوق خوندي دي.