فقال كمال بلهجة دلت على أنه لم يرحب بهذا التحقيق: اليوم طويل جدا، وقراءة ساعات لا يمكن أن تتعب إنسانا، ليست إلا نوعا من التسلية، وإن تكن تسلية مفيدة.
فقالت بعد تردد: أخاف أن تكون القراءة سبب ما يبدو عليك كثيرا من الصمت والشرود.
كلا ليست القراءة، القراءة ملاذ من التعب لو تعلمين، شيء آخر يشغل عقله طيلة الوقت ولا يسلم منه وقت القراءة نفسه، شيء لا علاج له لا عندها ولا عند غيرنا من البشر، إنه مرض قلب يتعبد حائرا، ولا يدري ماذا وراء عنائه يروم! قال بمكر: القراءة كالقهوة لا ضرر منها، ألا تحبين أن أصير «عالما» كجدي؟
فشاعت البهجة والفخار في الوجه المستطيل الشاحب، وقالت: بلى، إني أود ذلك بكل قلبي، ولكنني أحب أن أراك دائما منشرح الصدر.
قال باسما: إني منشرح الصدر كما تحبين، فلا تشغلي البال بمحض أوهام.
كان يلاحظ أن رعايتها له ازدادت في السنوات الأخيرة أكثر مما ينبغي. وأكثر مما يود، وأن تعلقها به، وحدبها عليه، وإشفاقها مما يضره - أو مما تتوهم أنه يضره - باتت شغلها الشاغل إلى حد ضايقه واستفزه للذود عن حريته وكرامته، بيد أنه لم تغب عنه أسباب هذا التطور الذي بدا عقب مصرع فهمي، وابتلائها بفقده، فلم يجاوز أبدا في ذوده عن حريته حدود اللطف والأدب: يسرني أن أسمع هذا منك وأن يكون حقا وصدقا، لست أبغي إلا سعادتك، ولقد دعوت لك اليوم في سيدنا الحسين دعاء أرجو أن يمن الله باستجابته. - آمين.
ونظر إليها وهي ترفع الكنجة لتملأ فنجانها للمرة الرابعة، فانفرج ركنا فيه عن ابتسامة خفيفة ... ذكر كيف كانت زيارة الحسين لديها أمنية في حكم المستحيل، ها هي اليوم تزوره كلما زارت القرافة أو السكرية، ولكن ما أفدح الثمن الذي دفعته نظير هذه الحرية الضئيلة! هو نفسه له أمانيه التي في حكم المستحيل، فأي ثمن تقتضيه كي تتحقق؟ ألا إن أي ثمن - وإن جل - يهون في سبيل ذلك. عاد يقول ضاحكا ضحكة مقتضبة: إن لزيارة الحسين ذكريات لا تنسى.
تحسست ترقوتها بيديها، وهي تبتسم قائلة: وأثر باق لا يزول.
فقال كمال في شيء من الحماس: لست اليوم حبيسة البيت كما كنت قديما، أصبح من حقك أن تزوري خديجة وعائشة أو سيدنا الحسين كلما أردت، تصوري أي حرمان كنت تمنين به نفسك لو لم يفك أبي قيودك!
رفعت إليه عينيها فيما يشبه الارتباك أو الخجل، كأنما كبر عليها أن تذكر بامتياز نالته نتيجة لثكلها، ثم أطرقت في وجوم ولسان حالها يقول: «ليتني بقيت كما كنت وبقي لي فقيدي.» غير أنها تحاشت الإفصاح عما جاش به صدرها إشفاقا من تكدير صفوه، وقنعت بأن تقول وكأنها تعتذر عما حظيت به من حرية: ليس خروجي بين حين وآخر فرجة أستمتع بها؛ إني أزور الحسين لأدعو لك، وأزور أختيك لأطمئن عليهما، ولأحل مشكلات لا أدري من كان غيري يحلها.
ناپیژندل شوی مخ