لا شك أنها تفكر الآن في الجفاء الذي قوبلت به في بيت أبيه عقب وفاة فهمي؛ فاضطرها إلى الانقطاع عن أسرته بعد معاشرة دامت العمر كله. يا له من جفاء! بل يا لها من عداوة صامتة! لم يكن إلا أن أعلنت امرأة أبيه يوما أن «شعورها» يحدثها بأن مريم وأمها لم يصدقا في حزنهما على فهمي. لم كفى الله الشر؟ قالت إنه من غير المعقول أن يكون رفض السيد لخطبة مريم لم يبلغهما في حينه عن طريق أو آخر أو حتى استنتاجا، ومن غير المعقول أن يعلما به ولا يضطغناه عليهم! ورددت كثيرا أنها سمعت أن مريم تندب فهمي في المأتم فتقول: «أسفي على شبابك الذي لم تتمتع به.» وزادت على ذلك ما شاء لها حزنها وقهرها، ولم تنفع معها حيلة في تحولها عن «شعورها»، وسرعان ما تغير سلوكها نحو مريم وأمها حتى كانت القطيعة. قال وهو لم يزل تحت تأثير الحياء والحرج: لعن الله الشيطان!
فقالت بهيجة مؤمنة على قوله: ألف لعنة. طالما ساءلت نفسي عما جنيت حتى ألاقي ما لاقيت من الست أم فهمي، ولكني أعود فأدعو لها بالصبر ... المسكينة. - جزاك الله كل خير على نبل خلقك وطيبة قلبك، حقا إنها مسكينة وفي حاجة إلى الصبر. - ولكني ما ذنبي أنا؟ - لا ذنب لك، إنه الشيطان لعنة الله عليه!
هزت المرأة رأسها هزة الضحية البريئة، وصمتت قليلا، حتى حانت منها التفاتة إلى فنجال القهوة الذي بدا كالمنسي على صينية القهوة، فقالت وهي تومئ إليه: ألم تشرب قهوتك بعد؟
فرفع ياسين الفنجال إلى فيه، وحسا الحسوة الأخيرة، ثم أعاده إلى الصينية، وتنحنح قليلا، ثم أنشأ يقول: شد ما ساءني ما انتهت إليه صداقة الأسرتين، ولكن ما باليد حيلة، على أي حال ينبغي أن نتناسى ذلك تاركين أمره للزمن، والواقع أنني لم أكن أحب أن أثير أسيف الذكريات، فما لهذا جئت، إنما جئت لغرض آخر هو أبعد ما يكون عن الذكريات الأسيفة.
هزت المرأة رأسها هزة كأنما تطرد بها الذكريات الأسيفة، ثم ابتسمت ابتسامة استعداد لسماع الجديد، كانت تهز رأسها وابتسامتها كالآلة الموسيقية المصاحبة للمغني إذا غيرت عزفها تمهيدا لدخول المغني في طبقة جديدة من النغم، قال ياسين مستمدا من ابتسامتها طلاقة: أنا نفسي لا تخلو حياتي من ذكريات أسيفة تتصل بحياتي الماضية ... أعني تجربتي الأولى في الزواج الذي لم يوفقني الله فيه إلى بنت الحلال. ولكني لا أريد أن أرجع إلى ذلك، الواقع أنني جئت بعد أن عزمت - متوكلا على الله - على فتح صفحة جديدة مستبشرا الخير كله فيما اعتزمت.
التقت عيناهما على الأثر فطالع فيهما الترحيب الجميل ... ترى هل كان موفقا في الإشارة إلى زواجه الأول؟ ترى ألم يترام إلى سمع هذه المرأة شيء عن الأسباب الحقيقية لفشل ذلك الزواج؟ لا تشغل بالك، إن ملامحها الجميلة توحي بالتسامح إلى غير حد، ملامحها الجميلة. أليس كذلك؟ بلى، لولا فارق السن لكانت أجمل من مريم، كانت بلا مراء أجمل من مريم في شبابها الذاهب ... كلا! إنها أجمل من مريم رغم فارق السن ... إنها لكذلك. - أظنك فطنت إلى مقصدي، أعني إلى أنني جئت طالبا يد كريمتك مريم هانم.
أضاء الوجه الرقراق بابتسامة بثت فيه حيوية جديدة، وقالت: لا يسعني إلا أن أقول أهلا وسهلا، نعم الأسرة ونعم الرجل، أمس أوقعنا سوء الحظ فيمن لا خلاق له، اليوم يسعى إلى مريم رجل جدير حقا بإسعادها، وستكون بفضل الله جديرة بإسعاده، ونحن - مهما فرق بيننا سوء التفاهم - أسرة واحدة من قديم الزمن.
اغتبط ياسين حتى راحت أصابعه تسوي البابيون بلمسات سريعة غير مقصودة، ثم قال وقد تورد وجهه الأسمر الجميل: أشكرك من صميم قلبي، جزى الله عني لسانك الحلو، نحن أسرة واحدة كما قلت رغم أي شيء، ومريم هانم فتاة يزدان بها حينا كله أصلا وخلقا، أرجو أن يعوضها الله من صبرها خيرا وأن يعوضني بها من صبري خيرا.
غمغمت «آمين» وهي تنهض، ثم أقبلت بجسمها المفتخر نحو المنضدة، فتناولت صينية القهوة وهي تنادي ياسمينة، ثم استدارت حاملة إياها فأعطتها الخادم التي جاءت على عجل، ولفتت عنقها فجأة لتقول له «آنستنا»، فباغتته وهو يحملق في ردفيها الثقيلتين، وشعر لتوه بأنه «ضبط في حالة تلبس»، فبادر بخفض عينيه؛ ليوهمها بأنه كان ينظر إلى الأرض، ولكن بعد فوات الأوان. وارتبك، وجعل يسأل نفسه عما عسى أن تظن به، ثم اختلس منها نظرة بعد أن عادت إلى مجلسها فلمح على شفتيها ابتسامة خفيفة كأنما تقول له: «رأيتك!» لعن عينيه اللتين لا تعرفان الحياء، وتساءل عما يمكن أن يكون قد دار في رأسها، أجل إنها تحاول أن تبدو كأنها لم تر شيئا، ولكن هيئتها - بعد ابتسامتها - تقول له أيضا: «رأيتك!» لينس الهفوة فهذا خير حل، ولكن هل تصير مريم مثل أمها يوما ما؟ متى يجيء هذا اليوم؟ للأم مزايا لا يجود بها الزمان إلا في النادر، يا لها من امرأة! إن خير وسيلة لتغيير أفكاره وتبديد سحابة الشك هي أن يمزق الصمت، قال: إذا حاز طلبي القبول، فستجديني رهن إشارتك لمناقشة التفاصيل الهامة.
ضحكت ضحكة قصيرة، فبدا وجهها في إشراقتها لطيفا شابا، وقالت: كيف لا يجوز القبول يا ياسين أفندي؟ أصل وجوار على رأي المثل.
ناپیژندل شوی مخ