تورد وجه كمال حياء وألما وهو يستمع إلى رأي أبيه في المعارف والقيم السامية التي يقدسها، وكيف استنزلها إلى مستوى السخام وقرنها به، غير أنه لم يعدم عزاء فيما ورد ذهنه - في لحظته تلك - جليل دون شك، إلا أنه ضحية زمان ومكان ورفاق. ترى هل يجدي معه النقاش؟ هل يجرب حظه مرة أخرى مستعينا بمكر جديد؟ - الواقع يا بابا أن هذه العلوم تحوز أكبر التقدير في الأمم الراقية؟ إن الأوروبيين يقدسونها، ويقيمون التماثيل للنابغين فيها.
حول السيد وجهه عنه، ولسان حاله يقول: «اللهم طولك يا روح!» بيد أنه لم يكن غاضبا حقا، ولعله رأى الأمر كله مفاجأة مضحكة لم تخطر له ببال، ثم أعاد إليه وجهه، وهو يقول: بصفتي والدك، أريد أن أطمئن على مستقبلك، أريد لك وظيفة محترمة. هل يختلف اثنان في هذا؟ الذي يهمني حقا أن أراك موظفا مهابا لا مدرسا بائسا، وإن أقاموا له تمثالا كإبراهيم باشا أبي أصبع، يا سبحان الله! عشنا وشفنا وسمعنا العجب ! ما لنا نحن وأوروبا؟ أنت تعيش في هذا البلد، فهل هو يقيم التماثيل للمعلمين؟ دلني على تمثال واحد لمعلم؟ (ثم بلهجة استنكارية) خبرني يا بني: أتريد وظيفة أم تمثالا؟
ولما لم يجد إلا الصمت والارتباك، قال فيما يشبه الحزن: في رأسك أفكار لا أدري كيف اندست إليه، إني أدعوك إلى أن تكون واحدا من الرجال العظماء الذين يهزون الدنيا بجلالهم ومراكزهم، فهل عندك مثال تتطلع إليه لا أدريه؟ صارحني بما في نفسك حتى يرتاح بالي، وأدرك غرضك، الحق أني في حيرة من أمرك؟
فليتقدم خطوة جديدة يفصح بها عن بعض ما في نفسه وأمره لله، قال: هل من العيب يا بابا أن أتطلع إلى أكون كالمنفلوطي يوما ما؟
قال السيد بدهشة: الشيخ مصطفى لطفي المنفلوطي؟ رحمة الله عليه، رأيته أكثر من مرة في سيدنا الحسين، لكنه لم يكن معلما فيما أعلم، كان أعظم من هذا بكثير، كان من جلساء سعد وكتابه، ثم إنه كان من الأزهر لا من المعلمين، ولا شأن للأزهر نفسه بعظمته، كان هبة من الله. هكذا يقولون عنه. نحن نبحث في مستقبلك والمدرسة التي ينبغي أن تدخلها ولندع ما لله لله، فإن كنت أنت الآخر هبة من الله أيضا. فستكون في عظمة المنفلوطي وأنت وكيل نيابة أو قاض، لم لا؟
كمال، وهو يناضل في استماتة: لست أتطلع إلى شخص المنفلوطي فحسب، ولكن إلى ثقافته أيضا، ولا أجد مدرسة هي أقرب إلى تحقيق غرضي، أو في الأقل إلى تمهيد السبيل إليه من مدرسة المعلمين؛ لذلك آثرتها، ليس بي من رغبة خاصة في أن أكون معلما، بل لعلي لم أقبل هذا إلا لأنه السبيل المتاح إلى ثقافة الفكر.
الفكر! ... وردد مقطع أغنية الحامولي «الفكر تاه أسعفيني يا دموع العين» الذي طالما أحبه، واستعاده فيما مضى من زمانه، أهذا هو الفكر الذي يسعى وراءه ابنه؟ سأله بدهشة: ما هي ثقافة الفكر؟
لجت به الحيرة، فازدرد ريقه، وقال بصوت منخفض: لعلي لا أعرفها، (ثم يبتسم متوددا) لو كنت أعرفها لما كان بي حاجة إلى طلب تعلمها.
فسأله مستنكرا: إذا كنت لا تعرفها فبأي حق اخترتها؟ هه؟ هل تهيم بالضعة لوجه الله؟
تغلب على ارتباكه بجهد شديد، وقال مدفوعا باستماتته في الدفاع عن سعادته: إنها أكبر من أن يحاط بها، إنها تبحث فيما تبحث عن أصل الحياة ومآلها.
ناپیژندل شوی مخ