فركبه الغيظ حتى لم يتمالك من أن يقول: إذا كان السهر يستوجب كل هذا الإنكار، فلماذا يواظب هو عليه؟
حال الظلام دون رؤية ما ارتسم على وجهها من دهش وإنكار، لكنه سمعها تضحك من أنفها لتوهمه بأنها لم تحمل قوله على محمل الجد، وقالت: كل الرجال يسهرون، وسوف تصير رجلا عما قريب، أما الآن وأنت طالب ...
فقاطعها قائلا بلهجة من يود الفراغ من الحديث: مفهوم ... مفهوم، لم أقصد بقولي شيئا، لماذا تعبت نفسك بالمجيء إلي؟ عودي مصحوبة بالسلامة.
قالت برقة: خفت أن تكون متكدرا، سأتركك الآن ولكن عدني بأن تنام صافي النفس، اقرأ الصمدية حتى يأتيك النوم.
وشعر بابتعادها، ثم سمع الباب وهو يغلق وصوتها يقول: «مساء الخير!» نفخ مرة أخرى، وراح يمسح صدره وبطنه وهو يحملق في الظلام، أما مذاق الحياة كلها فكان مرا. أين ذهبت نشوة الخمر الساحرة؟ وما هذا الكرب الحانق الذي حل محلها؟ ما أشبهه بخيبة الحب التي ورثت أحلامه السماوية، ومع ذلك فلولا الأب ما انقلب حاله. هذه القوة الجبارة التي يخافها كل الخوف، يخافها ويحبها معا، ما كنهها؟ ليس إلا رجلا لولا مرحه الذي خص به الغرباء لم يكن شيئا، فكيف يخافه؟ وحتى متى يذعن لقوة هذا الخوف؟ إنه وهم كسائر الأوهام التي امتحن بها، ولكن ما جدوى المنطق في مقاومة العواطف الثابتة؟ وقد قرعت يداه يوما أبواب عابدين في المظاهرة الكبرى التي تحدت الملك هاتفة «سعد أو الثورة»، فتراجع الملك واستقال سعد من الوزارة ... أما حيال أبيه فإنه يصير لا شيء، كل شيء تغير مدلوله ومعناه؛ الله ... آدم ... الحسين ... الحب ... عايدة نفسها ... الخلود، قلت الخلود؟ نعم، فيما يجري على الحب وفيما جرى على فهمي. ذلك الأخ الشهيد الذي استضافه الفناء إلى الأبد. أتذكر التجربة التي قمت بها وأنت في الثانية عشرة من عمرك لتعرف مصيره المجهول؟ ... يا للذكرى المحزنة! ... اقتنصت عصفورة من عشها ثم خنقتها، وكفنتها، وحفرت لها قبرا صغيرا في فناء البيت على كثب من البئر القديم ثم دفنتها فيه. وبعد أيام أو أسابيع نبشت القبر وأخرجت الجثة، فماذا رأيت؟ وماذا شممت؟ وذهبت إلى أمك باكيا تسألها عن مصير الميت، كل ميت، ومصير فهمي خاصة فلم يصدك عنها إلا إفحامها في البكاء، فماذا بقي من فهمي بعد سبع سنوات؟ وماذا سيبقى من الحب؟ وعم تمخض الأب الجليل؟
ألفت عيناه ظلام الحجرة فتراءى المكتب، والمشجب، والكرسي، والصوان أشباحا قائمة، وندت عن الصمت نفسه أصوات مبهمة، وامتلأ رأسه بالأرق المحموم، أما مذاق الحياة فازداد مرارة، وتساءل: هل غط ياسين في نومه؟ وعلى أي حال كان لقاء زنوبة له؟ وهل آوى حسين إلى فراشه الباريسي؟ وعلى أي جانب تنام عايدة الآن؟ وهل تكور بطنها وانداح؟ وماذا يفعلون في نصف الكرة الآخر الذي تتربع الشمس في كبد سمائه؟ والكواكب المنيرة، أليس ثمة حياة تعمرها خالية من التعاسة؟ وهل يمكن أن يسمع أنينه الخافت في ذلك الأوركسترا الكوني اللانهائي؟
أبي! دعني أكاشفك بما في نفسي. لست ساخطا على ما تكشف لي من شخصك، فإن ما كنت أجهله منك أحب إلي مما كنت أعرف. إني معجب بلطفك وظرفك، ومجونك وعربدتك، ومغامراتك، ذلك الجانب الدميث منك الذي يعشقه جميع عارفيه، وهو إن دل على شيء فعلى حيويتك وهيامك بالحياة والناس، ولكني أسائلك لم ارتضيت أن تطالعنا بهذا القناع الفظ المخيف؟ لا تعتل بأصول التربية؛ فأنت أجهل الناس بها، وآي ذلك ما ترى وما لا ترى من سلوك ياسين وسلوكي، فما فعلت إلا أن آذيتنا كثيرا، وعذبتنا كثيرا بجهل لا يشفع لك فيه حسن نيتك. لا تجزع فإني ما زلت أحبك وأعجب بك، وسأبقى على الدوام مخلصا لحبك والإعجاب بك، غير أن نفسي تضمر لك لوما شديدا يعادل ما جرعتني من ألم. لم نعرفك صديقا كما عرفك الغرباء، ولكن عرفناك حاكما مستبدا شرسا طاغية، كأنما كنت أول مقصود بالمثل القائل: «عدو عاقل خير من صديق جاهل»؛ لذا سأكره الجهل أكثر من أي شيء في الحياة؛ فهو المفسد لكل شيء حتى الأبوة المقدسة. خير منك أب له نصف جهلك ونصف حبك لأبنائك، وأني أعاهد نفسي - إذا صرت يوما أبا - أن أكون لأبنائي الصديق قبل أن أكون المربي، غير أني ما زلت أحبك وأعجب بك حتى بعد أن زايلتك صفات الألوهية التي توهمتها فيما مضى عيناي المسحورتان. أجل لم تعد قوتك إلا أسطورة، فلست مستشارا كسليم بك ولا غنيا كشداد بك، ولا زعيما كسعد زغلول، ولا داهية كثروت، ولا نبيلا كعدلي، ولكنك صديق محبوب وحسبك هذا، وما هو بالقليل. فليتك لم تضن علينا بصداقتك، ولكن لست وحدك الذي تغيرت فكرته، الله نفسه لم يعد الله الذي عبدته قديما، إني أغربل صفات ذاته لأنقيها من الجبروت، والاستبداد، والقهر، والدكتاتورية، وسائر الغرائز البشرية، ولست أدري أين ينبغي أن أشكم الفكر، ولا إن كان من الفضيلة أن أشكمه! بل إن نفسي تحدثني بأني لن أقف عند حد، وبأن النضال على عذابه خير من الاستكانة والنوم - قد لا يهمك هذا بقدر ما يهمك أن تعلم أني قررت أن أضع حدا لاستبدادك، استبدادك الذي يغشاني كما يغشاني هذا الظلام المحيط، والذي يؤلمني كما يؤلمني هذا الأرق اللعين، أما الخمر فلن أذوقها جزاء خيانتها لي، وا أسفاه! إذا كانت الخمر أيضا وهما خادعا فما بقي للإنسان؟ أقول لك: إني قررت أن أضع حدا لاستبدادك، لا بالتحدي والعصيان، فإنك أكرم على نفسي من أن أفعل بك هذا، ولكن بالهجرة! أجل لأهاجرن من بيتك حال أقف على قدمي، وفي أحياء القاهرة متسع لكل مضطهد، أتدري ماذا كانت عواقب حبي لك رغم استبدادك بي؟ إني عبدت مستبدا آخر طالما ظلمني بظاهره وباطنه معا، استبد بي دون أن يحبني، ورغم ذلك كله عبدته من أعماقي ولا زلت أعبده، فأنت أول مسئول عن حبي وعذابي. ترى ما نصيب هذه الفكرة من الحقيقة؟ لست مرتاحا إليها ولا متحمسا لها، ومهما يكن من واقعية الحب فلا شك أنه يرجع إلى أسباب أعمق أصالة في النفس، فلنتركها الآن معلقة حتى نعود إليها بالدرس فيما بعد، وعلى أي حال فأنت يا أبي الذي هونت علي الإحساس بالظلم بمداومتك على الاستبداد بي. وأنت يا أمي لا تحملقي في وجهي بإنكار، أو تتساءلي: ما ذنبي وما جنيت على أحد؟ إنه الجهل، هو جنايتك، الجهل ... الجهل ... الجهل ... أبي هو الفظاظة الجاهلة، وأنت الرقة الجاهلة، وسوف أظل ما حييت ضحية هذين الضدين. وجهلك أيضا هو الذي ملأ روحي بالأساطير، فأنت همزة الوصل بيني وبين عالم الكهوف، وكم أشقى اليوم في سبيل التحرر من آثارك، كما سأشقى غدا في سبيل التحرر من أبي، وما كان أحراكما أن توفرا علي هذا الجهد المضني؛ لذلك أقترح - وظلام هذه الحجرة شهيد - أن تلغى الأسرة - هذه الحفرة التي يتجمع فيها الماء الآسن - وأن تزول الأبوة والأمومة. بل هبني وطنا بلا تاريخ، وحياة بلا ماض. ولننظر الآن في المرآة فماذا نرى؟ هذا الأنف الضخم، وهذا الرأس الكبير. أعطيتني أنفك يا أبي دون مشورة أو رحمة؛ فأنت تستبد بي حتى قبل أن أولد، ومع أنه يبدو في وجهك مهيبا جليلا، فإنه - بذاته وشكله - يلوح مضحكا في صفحة وجهي الضيقة كأنه جندي إنجليزي في حلقة ذكر. وأعجب منه رأسي لأنه لا إلى فصيلة رأسك ينتمي، ولا إلى فصيلة رأس أمي، فعن أي جد بعيد انحدر إلي؟ فليظل ذنبه معلقا فوق رأسيكما حتى يتضح لي الحق. قبيل النوم يجب أن نقول: «الوداع»، فقد لا يطلع الصبح علينا، إني أحب الحياة رغم ما فعلته بي على طريقة حبي إياك يا أبي، وفي الحياة أشياء جديرة بالحب وصفحة وجهها مليئة بعلامات الاستفهام مثيرة للشغف. غير أن النافع فيها لا نفع فيه، وما لا نفع فيه عظيم الشأن، والراجح أني لن أعود إلى تقبيل الكأس، فقل وداعا أيتها الخمر، ولكن مهلا، أذكر ليلة غادرت بيت عيوشة عاقدا العزم على ألا أقرب النساء ما حييت، وكيف انقلبت بعد ذلك زبونها الأثير، ويخيل إلي أن الإنسانية تئن مثلي من الخمار والغثيان، فادع لها بالشفاء العاجل.
38
فتر حماس ياسين حال انفراده بنفسه في العربة بعد ذهاب كمال، وبدا كالمتفكر رغم سكره؛ إذ جاوزت الساعة الواحدة، ودخل الوقت منذ كثير في الهزيع المريب من الليل، وسوف يجد زنوبة إما يقظى تنتظر وتغلي، وإما أنها ستستيقظ حين دخوله، وعلى أي حالين فلن تمر الليلة بسلام، بسلام كامل على الأقل.
غادر العربة عند منعطف قصر الشوق، ومضى يخوض الظلام الدامس وهو يهز كتفيه العريضين في استهانة، ويقول لنفسه بصوت هامس: «ليس ياسين الذي يعمل حسابا لامرأة.» وكرر هذا القول وهو يرقى في الدرج مسترشدا في الظلام بالدرابزين، غير أن تكراره إياه لم ينم عن طمأنينة قاطعة، وفتح الباب ودخل، ثم مضى إلى حجرة النوم على ضوء مصباح الصالة، وألقى على الفراش نظرة فرآها نائمة، فرد الباب ليحول دون تسرب الضوء الخافت الآتي من الصالة، وراح يخلع ملابسه في هدوء وحذر وهو يزداد اطمئنانا إلى استغراقها في النوم، ويرسم في ذهنه خطة للتسلل إلى موضعه في الفراش دون أن يحدث صوتا. - أشعل المصباح لأكحل عيني برؤيتك!
ناپیژندل شوی مخ