209

قصر الشوق

قصر الشوق

ژانرونه

رفع ياسين رأسه دون أن ينظر إلى شيء بالذات، وقال بسرور عجيب: الله ...، الله، النفس شعشعت واستحالت أغنية، وانقلبت الأعضاء آلات طرب، والدنيا حلوة، والكائنات حبيبة للقلب، والجو عذب، والحقيقة خيال، والخيال حقيقة، أما المنغصات فأسطورة، الله ... الله، ما أجمل الخمر يا كمال! الله يطول عمرها ويديمها علينا، ويعطينا الصحة والعافية لنشربها حتى آخر العمر، ويخرب بيت الذي يمسها بسوء أو يتقول عليها بغير الحق، تأمل هذه النشوة الحلوة، تأمل، أغمض عينيك، هل وجدت لذة كهذه؟ الله ... الله ... الله، (ثم وهو يخفض رأسه ناظرا إلى كمال) ... ماذا قلت يا ولدي؟ الإنسان مخلوق قذر؟ أساءك ما قلت عن المرأة؟ لم أتكلم لأثير اشمئزازك منها، الواقع أني أحبها، أحبها بكل ما فيها، ولكني أردت أن أبرهن لك على أن المرأة الملاك لا وجود لها، بل لا أدري إن كنت أحبها إن وجدت! فإني مثلا - كأبيك - أحب الأرداف الثقيلة، ولو كان الملاك ذا أرداف ثقيلة لتعذر عليه الطيران. افهمني جيدا ولا تسئ فهما وحياة أبينا السيد أحمد.

وما لبث كمال أن شاركه نشوته، فقال: لشد ما تبدو الدنيا محبوبة إذا سرت الخمر في الروح. - يسلم فمك، حتى النغمة المألوفة يترنم بها شحاذ الطريق تقع من الأذن موقع السحر. - حتى أحزاننا تبدو كأنها أحزان شخص آخر. - بخلاف نساء الشخص الآخر ، فإنها تبدو وكأنها نساؤنا. - هما شيء واحد يا ابن أبي. - الله ... الله، لا أريد أن أفيق. - من رذالة الحياة أنها لا تمكننا من الاستمرار في السكر كما نهوى. - ليكن في معلومك أنني لا أرى في السكر لهوا، ولكن غاية سامية كالمعرفة والمثل الأعلى. - إذن فأنا فيلسوف كبير! - عندما تؤمن بما قلت وليس قبل ذلك. - الله يطول عمرك يا أبي، فقد أنجبت فلاسفة مثلك. - لم يبدو الإنسان تعيسا مع أنه لا يطلب أحسن من كأس وما أكثر القوارير، وامرأة وما أكثر النساء؟ - لمه؟ ... لمه؟ - سأجيبك عندما أشرب كأسا أخرى. - كلا!

قال ياسين ذلك بصوت وشى بصحوة طارئة، ثم استطرد محذرا: لا تفرط، إني شريكك الليلة فأنا مسئول عنك، كم الساعة الآن؟

وأخرج ساعته فنظر فيها، ثم هتف: منتصف الواحدة! وقع المحذور يا بطل، كلانا قد تأخر، وراءك أبونا، وورائي زنوبة، قم بنا.

ولم تمض دقائق حتى غادرا البار، فاستقلا عربة انطلقت بهما صوب العتبة. دارت العربة حول سور الأزبكية في طريق يسوده الظلام. وبين آونة وأخرى يرى عابرا مهرولا أو مترنحا، وكلما مرت العربة بشارع مقاطع ترامى إليهما صوت غناء تحمله نسمة رطيبة، أما فوق المباني وأشجار الحديقة الباسقة، فقد تألقت النجوم اليواقظ. قال ياسين ضاحكا: أستطيع الليلة أن أحلف غير متحرج بأنني لم آت منكرا.

فقال كمال في شيء من القلق: أرجو أن أصل إلى البيت قبل أبي. - الخوف شر أنواع التعاسة، لتحيا الثورة! - أجل لتحيا الثورة! - لتسقط الزوجة المستبدة. - ليسقط الأب المستبد.

37

طرق كمال الباب في خفة حتى فتح عن شبح أم حنفي، ولما عرفته قالت بصوت هامس: سيدي الكبير على السلم.

فانتظر وراء الباب حتى يطمئن إلى وصول أبيه إلى الدور الأعلى، غير أن صوته جاء من داخل السلم وهو يسأل بشدة: من الطارق؟

فخفق قلبه ولم ير بدا من التقدم وهو يجيبه: أنا يا بابا.

ناپیژندل شوی مخ