154

قصر الشوق

قصر الشوق

ژانرونه

فخفق قلب كمال رغم فتوره، وقال: على أن قلبي يحدثني بأنك لن تحتمل الغربة إلى الأبد. - هذا هو الراجح، ولكنك ستفيد من رحلتي بما سأرسله لك من كتب، سنواصل أحاديثنا بالرسائل والكتب.

هكذا يتكلم حسين كما لو كان السفر قد بات أمرا مفروغا منه، هذا الصديق الذي يسعد بلقياه سعادة فاتنة، فحتى الصمت يستمتع به في محضره، ولكن عزاء فذهاب المعبودة سيعلمه كيف يستهين بالخطب وإن جل، هكذا هانت وفاة جدته المحبوبة على النفس التي اكتوت بنار الحزن على فهمي، غير أنه ينبغي أن يذكر دائما أنه في جلسة الوداع كي يملأ عينيه من الورود والأزهار الثملة بالنضرة لا تبالي في أي حزن يهيم، وثمة مشكلة ينبغي أن يجد لها حلا: كيف يسمو بشر إلى معاشرة المعبود؟ أو كيف يهبط المعبود حتى يعاشره بشر؟ فإذا لم يجد لذاك حلا فسوف يسير في طريقه بقدمين ترسفان في الأغلال وفي حلقه شجا، والحب حمل ذو مقبضين متباعدين خلق لتحمله يدان ... فكيف يحمله وحده؟ وكان الحديث يطرد ويتفرع وهو يتابعه بعينيه، وهزات رأسه، وكلمات يثبت بها أن الخطب لم يقض عليه بعد، وكان الأمل معقودا بأن قاطرة الحياة تسير، وأن محطة الموت في الطريق على أي حال، وها هي ساعة الغروب ... ساعة الظلام والهدوء ... تحبها كما تحب الفجر، وعايدة والألم لفظان لمعنى واحد؛ فينبغي أن تحب الألم وأن تطرب للهزيمة منذ اليوم، ولا تزال عجلة الحديث في دوران غير منقطع، والأصدقاء يتضاحكون ويتناظرون كأن واحدا منهم لم يعرف الحب قلبه، حسين ضحكة الصحة والصفاء، وإسماعيل ضحكة العربدة والعدوان، وحسن ضحكة التحفظ والاستعلاء، ويأبى حسين إلا أن يتحدث عن رأس البر، أعدك بأن أحج إليها يوما، وأن أسأل عن الرمال التي وطئتها أقدام المعبودة لألثمها ساجدا، الآخران يتغنيان بسان استفانو، ويتحدثان عن أمواج كالجبال، حقا؟ تصور جثة تقذف بها الأمواج إلى الشاطئ وقد امتص البحر الرهيب جمالها ونبلها؟ ولنعترف بعد هذا كله بأن الملل يطوق الكائنات، وأن السعادة ربما كانت وراء أبواب الموت. وتواصل السمر حتى آن للجمع أن يتفرق، فتصافحوا بحرارة، شد كمال على يد حسين، وشد حسين على يد كمال، ثم مضى وهو يقول: إلى اللقاء ... في أكتوبر.

كان في مثل هذا الموقف من العام الماضي وما قبله يتساءل في لهفة متى يعود الأصدقاء؟ الآن ليست أشواقه رهينة بعودة أحد، ستظل مستعرة جاء أكتوبر أو لم يجئ، عاد الأصدقاء أو لم يعودوا. لن يلوم شهور الصيف بعد الآن لأنها تباعد بينه وبين عايدة، فالهوة التي تفصل بينهما أعمق من الزمن، وقد كان يعالج الزمن بجرعات الصبر والأمل، ولكنه يخاصم اليوم عدوا مجهولا، وقوة خارقة غامضة لا يدري من تعاويذها ورقاها حرفا واحدا، فليس أمامه إلا الصمت والتعاسة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، تراءى له حبه معلقا فوق رأسه كالقدر، يشده إليه بأسلاك من الألم المبرح، أشبه ما يكون في جبريته وقوته بالظاهرة الكونية، فتأمله بعين ملؤها الإكبار والحزن.

افترق الأصدقاء الثلاثة أمام سراي آل شداد: فسار حسن سليم إلى شارع السرايات، واتجه كمال وإسماعيل نحو الحسينية في طريقهما المعهود الذي يفترقان في نهايته، فيمضي إسماعيل إلى غمرة، ويمضي كمال إلى الحي العتيق. وما إن انفردا حتى ضحك إسماعيل ضحكة عالية طويلة، فسأله كمال عما أضحكه، فقال في خبث: ألم تفطن بعد إلى أنك كنت في الأسباب الجوهرية التي دعت إلى الإسراع في إعلان الخطبة؟ - أنا؟!

ندت عن كمال وعيناه تتسعان في ذهول، فقال إسماعيل في استهانة: نعم أنت، لم يكن حسن يرتاح إلى صداقتكما، هذا يبدو لي محققا رغم أنه لم ينبس لي عنه بكلمة، إنه ذو كبرياء شديد - كما تعلم - ولكني أعرف كيف أصل إلى ما أريد، أؤكد لك أنه لم يكن يرتاح إلى صداقتكما، أتذكر ما نشب بينكما ذلك اليوم؟ الظاهر أنه طالبها بأن تحد من حريتها في الاختلاط بالأصدقاء، والظاهر أنها ذكرته بأنه لا حق له في مطالبته؛ فأقدم على هذه الخطوة الكبيرة ليكون من أصحاب الحقوق.

قال كمال وخفقان قلبه يكاد يعلو على صوته: لكنني لم أكن الصديق الوحيد! كانت عايدة صديقتنا جميعا.

فقال إسماعيل متهكما: ولكنها اختارتك أنت لتثير قلقه! ربما لأنها آنست في صداقتك حرارة لم تجدها عند غيرك، على أي حال، إنها لا تلقي الأمور ارتجالا، وقد صممت منذ قديم على الظفر بحسن؛ فجنت أخيرا ثمرة صبرها. «الظفر بحسن»؟ «ثمرة صبرها»! ما أشبه هاتين العبارتين بقول مأفون «شروق الشمس من الغرب!» قال وقلبه يتأوه: ما أسوأ ظنك بالناس! إنها ليست على شيء مما تتصور.

فقال إسماعيل دون أن يفطن إلى شعور صاحبه: لعل الأمر وقع اتفاقا، أو لعل حسن كان واهما، على أي حال جاءت العواقب في صالحها.

هتف كمال غاضبا: صالحها! ماذا تظن؟ سبحان الله! إنك تتحدث عنها كما لو كانت خطبتها لحسن تعتبر ظفرا لها لا له!

فحدجه إسماعيل بنظرة غريبة، ثم قال: إنك فيما يبدو غير مقتنع بأن أمثال حسن قليلون؟ أسرة ومركز ومستقبل، أما مثيلات عايدة فلسن قليلات، هن أكثر مما تتصور، ترى هل تقدرها أكثر مما تستحق؟ إن أسرة حسن ارتضت زواجه منها لثروة أبيها الهائلة فيما أعتقد، إنها فتاة ... (ثم بعد تردد) ... ليست بارعة الجمال على أي حال.

ناپیژندل شوی مخ