وأخذ السيد الجنيهات الأربعة، واستدار ليترك الغرفة، ولكن الباب فتح ودخل منه ضابط وشرطيان، ونظر السيد إلى أحمد يائسا، ونظر أحمد إليه دهشا، فقد كان يظن أنه يضفي على نفسه من الأهمية ما لا يتمتع به.
استقبل وصفي أحمد متجهما بعض الشيء، الأمر الذي عجب له أحمد، فما تعود منه هذا، وسأله وصفي: خير؟! - لقد قبض البوليس على السيد بن عبد البديع أفندي. - لماذا؟ أهو من الجماعة؟ - نعم. - هيه! ومتى سيقبضون عليك؟
وفغر أحمد فاه وانفرجت عيناه عن نظرة دهشة واسعة: علي أنا؟ - نعم أنت، أتظنني لا أعرف؟ ألا تفكر في أمك المسكينة؟ ألست إنسانا؟ ماذا جنت حتى تفعل بها هذا أنت وأختك؟ ألا تعلمان أنها مريضة بالقلب؟ ألا تخشى عليها أن تموت؟ - أنا، ماذا فعلت يا عمي؟ - أنت شيوعي يا سي أحمد!
ومست قلب أحمد فرحة أنه مثار اهتمام، وأن عمه وصفي باشا يعرف أهميته، ولكنه قال: من قال يا عمي؟ - لا تحاول أن تنكر! - ولكن يا عمي ... - وحياة والدك لا لزوم لهذه الطريقة الصبيانية، أرجوك، من أجل أمك، اشفق عليها يا أخي من أجل مرضها على الأقل، وثق يا أحمد أنه إذا قبض عليك، فإنه يصعب جدا أن تعتمد علي كما تريد أن تعتمد علي الآن في مسألة السيد. - والله يا عمي ... - والله يا بني أنا حذرتك وأنت حر ... اترك حكاية السيد، ولا تنتظر أن تنتهي بسرعة، أمامها مدة. - شكرا يا عمي. - الشكر يكون بمراعاة أمك يا سي أحمد ... مع السلامة.
الفصل الرابع والعشرون
كان القصر يرزح تحت رزء كبير، فقد كان زواج هناء خطبا فادحا حاول الأب أن يمنعه بسلطته المتهالكة فلم يستطع، فقد أفهمته سهير أن الزواج في البيت برضائهما خير من أن تخرج الفتاة عن طوعهما للتزوج وحدها، وتضعهما أمام الأمر الواقع، ولن يجديهما يومذاك أن يلوذا إلى القضاء، فأمامه ستعلن فضيحة ينبغي لها أن تستتر، بل إن سهير أفضت إلى سليمان بما يراودها من خوف أن تخرج الفتاة عنهما بلا زواج على الإطلاق، وما يراودها من خوف أن ينفرد بها هذا الصعلوك، وينتهز فرصة مقاطعتهما لها فلا يستطيعان لها عونا إن هي احتاجت لعون، فاقتنع سليمان.
وحاول وصفي أن يعين سهير في محنتها، وعرض عليها أن ينقل فوزي من وظيفته بالقاهرة إلى الأقاليم، ولكن الرأي استقر بينهما على أن هذا لن يجدي في شيء.
وهكذا تم عقد القران في مأتم بلا معزين، إلا أهل القاتل وأهل القتيل، فقد جاءت أم فوزي، واستطاعت أن تزيد النار اشتعالا في نفس سهير، وإن كانت لم تستطع أن تجعلها تخرج عن صمتها اليائس الحزين، فقد كانت أمه معجبة بنفسها، تحاول جاهدة أن تصبح ندا لهذا البيت الذي تناسبه، أما الأب فقد كان أكثر إدراكا للموقف، فاتخذ لنفسه مكانا قصيا، وصمت حتى انتهت المراسم، وغادر البيت وجلا كما دخله.
وأغضى سليمان على النار عرفها لأول مرة تنتاش فؤاده، وخجل أحمد من الهدية التي قدمها إلى القصر، ونسي حينذاك مبدأه وأفكاره وفلسفته، وكره هذا اللص الذي تسرب تحت وقاء من الصداقة، واختلس أخته في ضباب من النظريات والألفاظ البارقة، والغش الخادع الخسيس.
ولم يكن أحمد ليغبي أمر فوزي، وإن يكن قد قبل أن تتوطد بينهما الصداقة، ولم يكن يتوقع أن أخته تقبل أن تلتقط هذا الفتى من عرض الطريق لتجعل منه زوجا لها، وفي غفلة من عدم التوقع هذه لم ينتبه أحمد إلى الذئب يجوس في عقر داره، وقد عزم أحمد على أن يقطع علاقته بفوزي، ثم سمع هذا الحديث من أمه، فعزم على أن يجعل صلته بفوزي بحيث لا ينتبه أحد إلى انقطاعها، وأصر في نفسه على ألا يدخل بيت أخته مهما تكن الأسباب والدواعي.
ناپیژندل شوی مخ