وقبل أن يختفي عبد البديع وأسرته الصاخبة في الباب الداخلي سمع ضجة سيارة تقف عند باب القصر، فالتفت وعرف فيها سيارة سميحة هانم، فقال لزوجته: أسكتي السيد، واذهبي لتسلمي على الست سميحة وتهنئيها بوليد أختها.
ثم انفتل عبد البديع إلى داخل المنزل، ولم يطع السيد أوامر أبيه، ولم يجد في إسكاته جهد أمه، ولكن هذا لم يمنعها أن تتقدم من سميحة هانم التي كانت تسير وئيدة الخطى، يمنعها عن الإسراع أنها تحمل هي الأخرى وليدا غائبا في ظلمات أحشائها، وقالت محبوبة: الحمد لله على سلامة الست سهير يا ستي سميحة هانم. - الله يسلمك يا محبوبة، أهذا ابنك؟ - نعم يا ستي، العقبي لك، نفرح بالمحروس، وتقومين بالسلامة مجبورة الخاطر إن شاء الله. - لا، في هذه المرة أريد بنتا يا محبوبة. - بنت يا ستي! لا قدر الله! - ولماذا يا محبوبة؟ أنا عندي حسام، ألا يكفي ولد واحد؟ - لا يكفي أبدا يا ستي، ولد يا ستي، إن شاء الله ولد! - يا شيخة اسكتي، فإني أخشى أن يسمع الله دعاءك، بنت يا رب، بنت. - لا حول ولا قوة إلا بالله، أمرك يا ستي، بنت يا رب! نولها ما تريد يا رب، واجبر خاطرها! - ألم تري سهير بعد؟ - لا والله يا ستي، كنت داخلة ورأيتك فجئت أسلم عليك. - تعالي نصعد معا.
وصعد ثلاثتهم، وسيد لا يكف عن صراخه إلا بمقدار ما يلقف في حلقومه بضع شهقات من الهواء، ما يلبث أن يخرجها عالية الضجيج، تنقض على الهدوء الذي كان يسود القصر فتمزقه تمزيقا.
الفصل الحادي عشر
كانت الكلمات لا تكاد تستقيم على شفتي أحمد، حين دخل إلى حجرة يجلس فيها أبوه إلى أمه وقال: بابا ... هات لي شوكولاتة. - ولماذا؟ أليس عندك شوكولاتة؟ - عندي، ولكن هات لي أنت. - ولماذا أنا؟ - لأن نينة تحب أختي هناء، وأنا لا أحب نينة. - ومن أدراك أنها تحب هناء؟ - كل يوم، كل ساعة أراها تحتضنها، وتجعلها تبوسها في صدرها، بوسة طويلة، طويلة، وتقول إنها ترضعها، وأنا لا أبوسها إلا بوسة قصيرة فقط، وبعد ذلك تتركني لتجعل هناء تبوسها!
وكانت الأم غارقة في الضحك، بينما أكمل الأب نقاشه مع ولده: طيب وما شأن هذا بالشوكولاتة؟ - الشوكولاتة التي عندي من عند نينة، هات لي أنت شوكولاتة. - ومن أدراك أنها من عند نينة؟ - كل ما عندي من عند نينة، هات لي أنت شوكولاتة. - طيب يا سي أحمد، أمرك.
ويخرج الطفل مطمئنا إلى وعد أبيه، فقد كان طفلا، ولم يكن قد عرف أباه بعد.
وكانت الأم لا تزال في ضحكها من حديث ولدها حين قال سليمان: ألا يجب علينا أن نذهب اليوم إلى وصفي لنهنئه؟
وفجأة تجمد الضحك على شفتيها، فقد كان اسم وصفي لا يزال ذا رنين في نفسها، واستطرد سليمان: يجب أن نذهب لتهنئته. - ولماذا؟ - لأنه ابن عمنا. - إنه ابن عمنا منذ ميلادنا، ولم نفكر في زيارته أو تهنئته قبل اليوم، فما الذي جعلك تذكر هذا الآن؟ - كنت مخطئا، وأريد أن أصحح خطئي. - سليمان، قل الحقيقة، إنك تريد منه شيئا. - لا والله، ولكن ... - ولكن ماذا؟ إنه رزق بجعفر ولم تهنئه، بل إنك حتى لم تشكره على الهديتين اللتين أحضرهما عند مولدي أحمد وهناء، واليوم تريد أن تهنئه لأنه أصبح سكرتيرا لمجلس النواب، ولا أرى المنصب كبيرا عليه، فهو عضو نواب من سنوات، وشخصية ظاهرة في الحزب، وليس غريبا أن يكون في هذا المنصب. - ولكنه فاز بثقة إخوانه، ويجب أن نهنئه بذلك. - قل لي يا سليمان، ألم تحصل على الدرجة بعد؟ - وما شأن هذا بالموضوع؟ - إن هذا هو الموضوع. - وبعدين معك يا سهير، أما تريدين أن تساعديني في شيء؟ - والله أنا كرامتي لا تسمح لي بأن أزور ابن عمي متظاهرة بالتهنئة، بينما أنا أريد منه شيئا آخر؟ - يا ستي ما لكرامتك وهذا؟! - إن الكرامة هي هذا.
ثم تنهدت سهير، وكأنما أفاقت إلى أنها تحدث شخصا لا شأن له بموضوع الحديث، فقالت: وعلى كل حال أنت تعرف أنني لا أقابله. - نعم أعرف، ولو أني غير موافق على هذا الحجاب، على كل حال اصعدي أنت إلى زوجته، وأقابله أنا. - يا أخي، أتريدني واسطة إلى زوجته؟ لا يا سيدي، اذهب أنت وهنئه، ولن أذهب أنا إلى زوجته. - ولماذا؟ إنك لا تزورينها أبدا. - إنها ست غريبة عن العائلة، وزيارتي لها لا تكون إلا ردا على زيارتها هي. - لقد زارتك عندما ولدت هناء، ولم تردي الزيارة. - لم تأت المناسبة، ولو زرت كل اللواتي زرنني في الولادة لما انتهيت. - ها هي ذي المناسبة، اذهبي إليها وهنئيها. - سليمان. - نعم. - لن أذهب. - أمرك.
ناپیژندل شوی مخ