وتحسنت صحة الباشا، واستطاع أن ينتقل من السرير إلى الأريكة دون أن يبرح الغرفة، واستطاع أن يلقى إخوته بين حين وحين، على أن يتباعد ما بين الحين والحين، واستطاع أيضا أن يذكر آخر حديث له مع سهير قبيل مرضه، وأن يذكر أن الحديث قد مرت عليه أسابيع، فهو ينتهز فرصة تخلو به الغرفة وبابنته فيسألها: هيه يا سهير، أمصممة أنت على قبولك لسليمان؟ - نعم يا أبي. - أواثقة أن هذه رغبتك بلا أي تأثير؟ - نعم يا أبي. - شأنك يا ابنتي، ولكن اذكري حياتك كلها أنك أنت من اخترت ، فإذا مت فاذكري أني سألتك رأيك، وألححت في السؤال، أنت وحدك المسئولة عن حياتك منذ هذه اللحظة. - أطال الله عمرك يا أبي! - على بركة الله!
وعلم الباشا أن سليمان بالقصر، فأمر أن يخلى الطريق إلى حجرته من الحريم، وأن يصعد سليمان إليه.
وقصد سليمان إلى عمه الذي استقبله في محاولة هزيلة للبشر، وقال له: مبروك يا سليمان، مبروك عليك سهير يا ابني.
وهوى سليمان على يد عمه يقبلها، فتركها له الباشا، فهي قبلة ابن اختار يد أبيه موضعا لها، وقال الباشا لسليمان وهو لا يزال مكبا على يده: يا ابني الشكر يكون بمعاملتها هي معاملة ترضيني، ترضيني وأنا في قبري، إنها ابنتي، قطعة مني، وهي أحب بناتي إلي، أحبها هي، أحبها هي يا سليمان، فهي - بغير كل ما حولها من مال وجاه - جديرة بالحب، والله على ما أقول شهيد، أكرمها يا سليمان تكرم أباك وعمك.
ولم يقل سليمان شيئا في غمرة فرحته إلا جملة واحدة ظلت تتردد على لسانه، دون أن يفكر فيها، ودون أن يجد لها في نفسه صدى: أطال الله عمرك يا عمي! أطال الله عمرك يا عمي!
لم يكن تفكيره في الثروة التي انهملت عليه ليسمح له أن يفكر في شيء آخر، ولم يكن ليسمح له أيضا أن يستمع إلى كلام عمه حتى يفهمه، وإنما هي جملة تعلقت بلسانه، فراح لسانه يرددها وكأنها أسطوانة وضعت على حاك خرب.
الفصل الثامن
كانت الأيام التالية أيام أفراح، أو هي إن شئت الحق الخالص أيام زيجات، فقد تزوج عبد البديع من محبوبة، وقد كانت هذه هي أولى الزيجات، وقد كانت ناحية الأفراح فيها مترعة خالصة لا يشوبها إلا الهناء والسعادة.
فقد عاد عبد البديع إلى القرية وبلغها في الهزيع الأخير من الليل، فما رده التأخير أن يقصد إلى بيت عمه، وطرق الباب في شيء من التهيب ولكن في إصرار، وجاءه صوت عمه جازعا غاضبا بعض الغضب من هذه اليد العابثة التي تطرق عليه الباب في بهيم الليل، فهو يثوب من نومه العميق: من؟ - أنا عبد البديع يا عم، لا مؤاخذة. - خير يا ابني. - خير وكل الخير يا عم، افتح.
وقال العم وهو يفتح الباب غير مطيق أن يفتح عينيه: يا ابني الصباح رباح، خير، متى جئت من مصر؟ - الآن يا عم، الآن. - وكيف حال الباشا؟ عسى الله أن يكون بخير! - بخير يا عم الحمد لله، أبقاه الله لنا ومد في عمره!
ناپیژندل شوی مخ