أما شيوع الطرافات العلمية فهو فيما نعنيه هنا شيء غير شيوع المباحث العلمية التي يمحصها العلماء ويمتحنونها على أصول التجربة والتطبيق الأمين، فهذه المباحث العلمية تفيد الفن والفنان وتؤدي إلى قيام المدارس الفنية التي تثبت في تاريخ العلم والثقافة، ولا تظهر ثم تغيب كما تغيب البدع والأزياء.
إن الطرافات العلمية شيء غير هذه المباحث والدراسات، فإنها لا تعدو القشور التي تستهوي النظر العاجل، ويتخطفها المتندرون في الأندية لما فيها من غرابة تجري في نسق واحد مع غرابة الأقاصيص والبدوات، ومنها ما يحسن فهمه ويساء تطبيقه لسوء التمييز بين موضوع العلم وموضوع الفن، وبين مسائل التفكير ومسائل الشعور والخيال، وأشهر هذه التطبيقات الخاطئة في بدع الفنون دعوة المدرسة الطبيعية في القرن التاسع عشر
Naturalism
وهي من أصح المدارس الأدبية في نظرتها، وأسرعها إلى الخطأ في تطبيقاتها لسوء التمييز بين أساليب العلم وأساليب الآداب.
كان مبعث هذه الدعوة أن أصحابها أرادوا أن يميزوا أنفسهم على غيرهم من الكتاب والشعراء بالتزام الأمانة العلمية في وصف أحوال الناس والتعبير عن عواطفهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وقالوا: إن الكاتب ينبغي أن يتجرد من أهوائه وآرائه عند الكتابة كما يفعل العالم عند دراسة الظواهر الطبيعية، وأن تعبيره عن الحقائق الاجتماعية والنفسية ينبغي أن يصاغ في قالب كقالب التعبير العلمي أو قالب المسائل الرياضية.
ومن الحسن ولا شك أن يلتزم الكاتب أمانة العلم إذا كان المقصود بهذه الأمانة أن يتجنب الزخرف الكاذب والأباطيل الخرافية، ولكنه لا يكون أمينا بمعنى الأمانة العلمية ولا الفنية إذا عبر عن نفسه تعبيرا آليا يتجرد من الملامح الشخصية؛ لأن الفن كله قائم على وجهة نظر الفنان وملكاته الشخصية التي لا تتشابه بين كاتب وكاتب، ولا بين شاعر وشاعر، ولا بين مصور ومصور، ولا تأتي مقرراتها متشابهة أبدا كما تتشابه مقررات العلماء، ولهذا كانت الصورة اليدوية مفضلة على الصورة الشمسية بالغة ما بلغت هذه من الصدق والإتقان، ولو كان المقصود بالأمانة العلمية مطابقة الصورة لأصولها المحسوسة لكانت الصورة الشمسية أرفع شأنا من كل صورة تبدعها ريشة الفنان الصناع، ولكن الأمانة العلمية في الفنون شيء غير الأمانة الآلية؛ لأن العلم يقول لنا: إن الآلة غير الإنسان، فلا يجوز لنا أن ننتظر - باسم العلم - تصويرا إنسانا يشبه صناعة الآلات، ولا تتحقق أمانة العلم وأمانة الفن معا بغير هذا الاختلاف، بل يصدق هذا على الفرق بين الصورة الشمسية الممتازة والصورة الشمسية المجردة من المزية، فإننا إذا أعجبتنا صورة شمسية بارعة لمسنا على الأثر براعة المصور الذي التقطها في اختيار الموقع، واختيار الوجهة، واختيار الألوان والظلال، واختيار اللمحات البادية على الوجوه، وعلى صفحات الأشياء.
ومن الواجب أن نفهم معنى الأمانة العلمية حين نطبقها على بدائع الفنون، فهي لا توصف بوصف الأمانة إلا إذا حسبت حسابا للفارق بين عمل الآلة وعمل الإنسان.
ويهون سوء التطبيق في الدعوة إلى المدرسة الطبيعية إذا قيس إلى التطبيقات السيئة التي ابتليت بها دراسات علم النفس بين الحربين العالميتين، فتسربت إلى الفنون والآداب من كلمات الوعي الباطن ومركبات النقص والعقد النفسية وما شابهها من مصطلحات فقدت معناها لكثرة استعمالها في غير مواضعها، وخلقت من أفانين الأوهام ما لم تخلقه خرافة من الخرافات التي ماتت قبل أن تبلغ القرن العشرين.
وقد نسي دعاة البدع التي نبتت من كلمة الوعي الباطن أن هذا الوعي الباطن لم يخترعه فرويد، ولم يزعم أن الفنانين من قبله جهلوه وأهملوه، بل قرر غير مرة أنه يعتمد في تفسيره على أعمال أولئك الفنانين وأقوالهم من كتاب وشعراء ومصورين، وما من أحد ذي بصر ينظر إلى صورة من صور الأقدمين ومن تلاهم في عصر النهضة وتلاميذهم المبرزين من أبناء العصور الحديثة إلا أدرك لأول وهلة أنهم أحسوا الوعي الباطن من وراء الظواهر، وعرضوه لنا على قسمات الوجه وحركات الأعضاء، ودلوا على قدرتهم بهذا العرض الذي يرينا الخفايا كما يرينا الظواهر بلمسة من لمسات الريشة وخفقة من خفقات النور واللون، وتركوه لنا نفسره كما يفسر كل سر من أسرار النفس البشرية قد ينطوي عن صاحبه كما ينطوي عن الناظرين إليه، ولذلك كان وعيا باطنا ينقله الفنان القدير على غموضه أو جلائه نقل الأمانة الملهمة والإدراك الخفي والحس المشترك بين الوضوح والغموض.
وينسى هواة الطرائف العلمية أن علماء النفس لم يكشفوا الوعي الباطن ليلغوا به الوعي الظاهر ويبطلوا به عمل الحواس؛ لأن معرفتنا بعقولنا الخفية لا تمنعنا أن ننظر بأعيننا، ونسمع بآذاننا، بل تساعدنا على محو الضلالة والتثبيت من حقائق المنظور والمسموع.
ناپیژندل شوی مخ