لتكن عندنا إذن شجاعة النظريات العلمية لتفسير الظواهر المطردة في تواريخ الأمم، لا بل هو الواجب العلمي وليس بالشجاعة العلمية وكفى، إذ كان الواجب يأبى علينا أن ندع نظرية من النظريات دون أن يكون لإهمالها سند ثابت لا مراجعة فيه.
وأحرى بالمفكر العصري أن يتوسع في مذهب الفيلسوف الكبير وليام جيمس الذي شرحه قبل هذا القرن العشرين في مقاله البديع عن إرادة الاعتقاد (1897)، وسماها أحيانا بشجاعة الاعتقاد، وحجة المفكر العصري في ذلك أن الزمن قد تقدم بنا كثيرا في هذه الوجهة وفرض علينا شجاعة أدبية غير الشجاعة الأدبية التي كانت مفروضة علينا في عصور الحجر الظالم والتقليد الأعمى والاستسلام الذليل للخرافات والأوهام خوفا من إغضاب الطغاة أو إثارة الدهماء، ففي تلك العصور الغاشمة كان الشك واجبا عقليا، وكان إعلان الشك شجاعة أدبية نفسية، ولكن هذا الشجاعة في عصرنا هذا سيف يضرب في الهواء وحرب في ميدان خلو من الأعداء، وإنما الشبح الجديد الذي يتقاضانا شجاعتنا الأدبية هو شبح العناد في الإنكار والانطلاق إلى الطرف الآخر وهو طرف الأحجام عن إظهار الاعتقاد أو الميل إليه خوفا من مظنة التأخر والجحود، فأصبح الإنكار مجاراة للعرف أيام الجهالة والجمود.
يقول الفيلسوف الكبير وليام جيمس في مقاله عن إرادة الاعتقاد:
إن القضية التي أدافع عنها هي: إن طبيعتنا الوجدانية لا يحق لها، بل يجب عليها أيضا أن تفصل في مسألة الاختيار بين الآراء كلما كان الاختيار بينها داعية صدق لا تقبل الحل بالوسائل العقلية؛ لأننا إذا قلنا في هذه الحالة: دعونا نترك الباب مفتوحا، فهذه حالة وجدانية لا تختلف عن القول بنعم أو بلا، وفيها نفس المجازفة بفقدان الحقيقة.
ويقول في مقاله هذا، وهو قريب مما نسميه بشجاعة النظريات:
إن الاعتقاد - حين نقيسه بالمقياس العملي - لا بد أن يسبق الإثبات العلمي، ونزيد على ذلك أنه هناك طائفة من الحقائق يكون الاعتقاد عاملا من عواملها كما يكون معبرا عنها، وأن العقيدة بالنسبة إلى هذه الحقائق لا تعتبر جائزة أو مناسبة ولا زيادة، بل تعتبر مع ذلك جوهرية وضرورية لا غنى عنها، وأن هذه الحقائق لا تصبح حقائق حتى تكون عقيدتنا هي التي جعلتنا كذلك.
وعلى هذه السنة نكون علميين، ولا نقنع بالفلسفة وحدها إذا وضعنا النظرية العلمية مكان القانون العلمي المقرر، وفسرنا ظواهر التاريخ بمعنى القصد والغاية، ورأينا أن الاعتماد على الشجاعة العقلية هنا أولى بنا من الاعتماد على الراحة والقول بالمصادفة هربا من تكاليف الدعوى، وإسقاطا لمئونة التفسيرات.
ليكن هذا المذهب في دراسة التاريخ نظرية علمية تقيس المعلوم على المجهول، وتطرق أبوابا من الاحتمال المفتوح لا يجوز للعقل الأمين أن يوصدها، ويحرم النظر فيها بغير برهان.
ودعوانا أن نظرية التاريخ المفهوم، أو نظرية الغاية في التاريخ، تفسر لنا أمورا كثيرة لا تفسرها المصادفة البحتة بغير معنى، فضلا عن المصادفة التي تلغي المعنى، وتحسب الحوادث فوضى تخبط من ماضيها إلى مستقبلها خبط عشواء.
وعلينا أن نبني دعوانا على أساس صالح لإقامة البناء عليه، وهذا الأساس هو مطابقة الواقع للغاية التي يمكن أن نتخيلها إذا قررنا أن التاريخ تدبير يشير إلى وجهة، فما هي الغاية التي يتصورها العقل، ويتطلبها البحث من وراء حوادث العالم بالنسبة إلى النوع الإنساني، وبالنسبة إلى الإنسان الفرد، وبالنسبة إلى الطوائف والجماعات؟
ناپیژندل شوی مخ