هوامش
اللغات
ما من لغة كاملة، وما من لغة تستطيع أن تعبر عن أفكارنا كلها، وعن أحاسيسنا كلها؛ فظلالها أكثر من أن تحصى ومن أن تدرك. لا أحد يستطيع أن يعبر بدقة عن الإحساس الذي يمر به. المرء مجبر، على سبيل المثال، على أن يطلق أسماء عامة من قبيل «الحب» و«الكره» على ألف حب وعلى ألف كره، يختلف كل منها عن الآخر؛ والأمر نفسه هو ما يحدث مع متعنا وآلامنا؛ ومن ثم فاللغات مثلها مثلنا ناقصة.
اخترعت اللغات كلها تباعا، وبدرجات طبقا لحاجاتنا. إنها الغريزة المشتركة بين من صنعوا القواعد الأولى للغات دون أن يفهموها. احتاج اللابيون والزنوج، مثلهم مثل اليونانيين، أن يعبروا عن الماضي والحاضر والمستقبل، وقد فعلوا ذلك؛ لكن إذ لم تكن هناك قط مجموعة من المناطقة الذين شكلوا لغة، فلم تكن أي لغة قادرة على اكتساب خطة منتظمة على نحو كامل.
كل الكلمات في كل اللغات الممكنة هي بالضرورة صور الأحاسيس. لم يكن بمقدور الناس أن يعبروا عن أي شيء سوى ما شعروا به. هكذا غدا كل شيء مجازا، في كل مكان تنار النفس، ويحترق القلب، ويهيم العقل. وفيما بين كل الشعوب، صار اللانهائي هو نفي النهائي، والوافر هو نفي المقيس. من الثابت أن حواسنا الخمس أنتجت كل اللغات مثلما أنتجت كل أفكارنا. وما يبدو أقل نقصا هو القوانين؛ تلك التي يكون أقلها تعسفا هو أفضلها. أما الأكثر اكتمالا فهي بالضرورة تلك التي تنتمي للشعوب التي هذبت الفنون والمجتمع. لذلك فلا بد أن اللغة العبرية هي واحدة من أفقر اللغات مثل أولئك الذين درجوا على التحدث بها. فأنى كان للعبريين أن يمتلكوا مصطلحات بحرية وهم الذين لم يمتلكوا قاربا واحدا قبل سليمان؟ وكيف تكون لديهم مصطلحات فلسفية بينما كانوا غارقين في ذلك الجهل العميق حتى ذلك الوقت الذي بدءوا فيه تعلم شيء خلال سبيهم إلى بابل؟ لا بد أن لغة الفينيقيين التي استمد منها العبريون رطانتهم كانت متفوقة جدا؛ لأنها كانت اللغة التي يستخدمها قوم صناعيون وتجاريون أغنياء، منتشرون في كل بقاع الأرض.
لا بد أن أقدم اللغات المعروفة كانت لغة أقدم الأمم تجمعا في مكان واحد كجسد إنساني واحد. ولا بد أيضا أنها كانت لغة شعب كان هو الأقل خضوعا للاستعباد، أو أنه إن كان خضع للاستعباد هذب غزاته. وفي هذا الصدد، من الثابت أن الصينية والعربية هما أقدم اللغات التي نتحدثها اليوم.
ما من لغة أم. كل الشعوب المتجاورة استعار بعضها من بعض، ولكن تسمية «اللغة الأم» منحت لتلك اللغات التي اشتق منها بعض التعبيرات المعروفة. اللاتينية، على سبيل المثال، هي اللغة الأم للإيطالية والإسبانية والفرنسية؛ لكنها هي ذاتها مشتقة من التوسكانية؛ والتوسكانية بدورها اشتقت من الكلتية والإغريقية.
لا بد أن أجمل اللغات هي تلك التي تكون في آن واحد أكثرها كمالا، وأكثرها جهورية، وأكثرها تنوعا في لفتاتها، وأكثرها انتظاما في تقدمها، والتي تملك أكثر الكلمات المركبة ، وتعبر بجرسها عن حركات الروح البطيئة أو المندفعة أكثر من غيرها، وتشبه الموسيقى أكثر من غيرها.
تمتلك اليونانية كل تلك الميزات، فليست لديها فجاجة اللاتينية، التي ينتهي فيها كثير من الكلمات بمقاطع «أوم» و«أوس» و«أور»، ولديها كل أبهة الإسبانية، وعذوبة الإيطالية. وتمتاز على كل اللغات الحية في العالم بالتعبير عن الموسيقى بمقاطع لفظية طويلة وقصيرة، وبعدد اللهجات وتنوعها. لذا، فعلى الرغم من التشوهات التي حلت بها كما هي اليوم في اليونان، فما زال بإمكاننا أن نعتبرها أجمل لغة في الكون.
لا يمكن أن تكون أجمل لغة هي الأوسع انتشارا والشعب الذي يتحدث بهذه اللغة مقموع، صغير العدد، وبلا تجارة مع الأمم الأخرى، وبينما تكون الأمم الأخرى هذبت من لغاتها. ولهذا كان على اليونانية أن تصبح أقل انتشارا من العربية وحتى التركية.
ناپیژندل شوی مخ