وبعد أن أتمت دورة صغيرة في الحديقة عادت إلى مكانها، وقد فارق ملامحها الاكتئاب، فرأت فريدا جالسا مكفأ الوجه، كسير القلب، تكاد الأحزان تقطع أحشاءه، وتذيب لفائف قلبه.
فاقتربت منه مشفقة، ونادته باسمه مجردا من الألقاب، وكان يمازج نغمتها شيء من الرقة والحنان.
فرفع رأسه ونظر إليها نظرة تترجم عن حزنه ويأسه، وأجابها بانطلاق مدامعه، وتصاعد زفراته، ثم كأنه خجل من نفسه لما أظهر من الضعف، فغطى وجهه بيديه وجعل يكفكف دموعه.
فذاب قلب روزه شفقا عليه، ولا سيما أنها سبقت فعلمت تأثير الحب، واستبداد أحكامه في القلوب، فأمست ترثي لحال المحبين، ولكنها مع ذلك لم تجد من قلبها مجيبا لهتاف فؤاده، فحاولت تلطيف أحزانه بما حضرها من العبارات الرقيقة، ولكن لم يزده ذلك إلا شغفا بها، وولوعا بعذوبة منطقها، فعاد إلى الحديث بصوت تمازجه الرزانة والوقار، فقال: اعلمي يا سيدتي أنني لم أكن أقصد تعكير صفو راحتك بمثل حديثي، وطالما كتمت عندك جواي، ولم أشرك أحدا من المخلوقات في آلام نفسي، ولو لم يطفح الكيل في فؤادي، ويذهب الغرام برشادي، لما تجرأت الآن على التلفظ أمامك بما قد يؤلمك سماعه، ومع ذلك فإذا كنت ترين بعض الخطأ فيما فعلت، فلك أن تبعديني من مجلسك، وأنا أعدك بالامتثال، ولو كان في ذلك تلفي وموتي. - إني بالعكس أيها الصديق أجد بقربك عزاء وسلوة، غير أني آسفة لما سببت لك من الآلام عن غير عمد، وليتني قادرة أن أخفف بعض أشجانك أو أقابل عواطفك الشريفة بمثلها، ولكن ذلك لا يكون مطلقا، فإن القلب كالجواد الحرون لا يخضع لقيادة العقل، ولا تؤثر فيه قوة اليد، وغاية ما يمكنني صنعه هو أن أكون صديقة لك. - إنه ليكفيني منك ذلك، فسترين مني صديقا يبذل مهجته في سبيل مرضاتك، ويجود بحياته للذود عنك، وفوق ذلك فإني أعد بألا أكرر على مسامعك لفظة حب، أو كلمة تخرج عن دائرة الصداقة الأكيدة.
وقد بر فريد بوعده، وكأن المودة الخالصة التي وقف لها قلبه، وخلو فؤاد روزه من هواها قد تغلبا على عواطف وجده، فأصبح لا يهمه إلا مؤانستها، ولا يبتغي إلا سرورها ورضاها.
وكانت تقابل معاملته بالامتنان معجبة بصفاء قلبه وصدق وده، وهكذا كانت تمر الأيام بهما، والصداقة الخالصة تنمو وتتفرع في قلبيهما.
وكان التعب والقلق قد أثرا على جسم يوسف أثناء مرض ابنته، فاعتراه على أثر ذلك مرض ثقيل أعيا الأطباء، فلم ينجح فيه دواء، وكانت تلك ضربة على قلب روزه المدنف، فإنها لم تكد تنجو من فتكات الغرام حتى أصيبت بأعز الناس لديها، ومن كان لها عضدا دون سائر الأنام، فشق عليها ذلك ، لا سيما أنها رأت العلة تزيد استحكاما من والدها رغما عن المداواة وحسن الخدمة، فكادت تفقد رشادها حزنا ولوعة، وكان فريد ملازما لها قائما على مساعدتها في خدمة والدها، فرأت منه في آن الضيق صديقا مخلصا يوثق بشهامته، فسمت منزلته عندها، ولم تعد تسمح له بمفارقة منزلها، ولا سيما في مثل تلك الحال التي كانت أحوج فيها إلى صديق يشاطرها الحزن والتعب، ويخفف عنها غصص الوحدة والكرب.
وما لبث الداء أن اشتد بذلك الشيخ المسكين؛ حتى لم يبق منه إلا رمق خفيف، فدعا ابنته وفريدا إليه وباركهما، وأراد مخاطبتهما، فخانه الضعف وعقد لسانه الداء.
فجزعت روزه وحملقت إلى والدها وهي تذرف دموعا سخية، تأثرا لما صارت إليه حالة ذلك الوالد الحنون من السقام، واعتقادها أنها هي السبب فيما ناله من الحزن فالداء العقام.
وكان هذا الفكر يعذبها ويؤلمها، إلى حد أنها كانت تتمنى أن تفتديه بروحها، وتصل ما بقي من أيامها بحياته.
ناپیژندل شوی مخ