أما عزيز، فبعد مرور بعض دقائق أجال نظره في الغرفة فرأى نفسه منفردا، فأطلق لعبراته العنان، وكان صوت زفيره وشهيقه يرن في أنحاء الغرفة، ولبث على تلك الحال مدة لم ير في نهايتها مهربا له من ذلك العار سوى الانتحار، فصمم النية عليه، ونهض متثاقلا يقصد منزله، وكان يود حينئذ مشاهدة روزه والتزود منها بنظرة أخيرة، ولكنه رأى نفسه لا يقوى على المثول أمامها واحتمال احتقارها، فسار على غير هدى إلى مكان في الحديقة، كان يذهب إليه في ساعات الهناء، وجلس على صخر طالما جلس عليه مع حبيبته، وأخذ يستنشق نسيمات عطرتها أنفاسها، ويلثم أرضا وطئتها أقدامها، وهو يكاد يجن أسفا وحسرة على فقد سعادته، وخسارة آماله، ثم نهض مودعا تلك الرياحين والأزهار، محملا إياها كثيرا من القبلات والأسرار.
وبينما هو يدير نظره في تلك الأنحاء، إذ أبصر على مسافة قريبة منه جريدة مفتوحة تغطي جسما ممددا على الحضيض، لم يلبث أن عرف أنها حبيبته، فطار صوابه إذ رآها ملقاة على الأرض، وأسرع ليعلم ما الخبر! فنزع الجريدة عنها فظهر له وجهها مصفرا كالأموات، وليس بها حركة تدل على الحياة، فأدرك أنها لا بد أن تكون قد اطلعت على جريمته، ووقعت على خيانته منشورة في الجريدة التي كانت تقرؤها، فبحث عنها فوقع نظره في محلياتها على ما يأتي: سرق من خزينة الشهير يوسف رافائيل مبلغ خمسة آلاف جنيه، وقد وقعت الشبهة على أمين صندوقه، إذ يقال أنه ابتاع كمية من القطن في الأسبوع الغابر؛ آملا في صعود أثمانه فخانه الأمل، وقد خسر بسقوط الأسعار خمسة آلاف جنيه، وهي القيمة المفقودة من الخزينة، والتحقيق جار.
فزفر طويلا ثم انحنى فوق حبيبته، وأدنى أذنه من قلبها، فشعر بنبضات خفيفة فعلم أنها لا تزال حية، وما ذلك سوى إغماء بسيط، نتج عن شدة كدرها لدى تلاوة تلك الأسطر، فجعل ينضح وجهها بالماء، ويناديها بصوت خائر إلى أن عاد إليها الشعور فتنهدت تنهيدا عميقا، وفتحت عينيها، وحالما وقع نظرها على عزيز تصاعد الدم إلى وجنتيها، ومالت عنه بأنفة وازدراء، فتمتم المسكين قائلا: إنها تحتقرني.
فأجابت روزه وقد طفحت مقلتاها بالدموع، وخنق صوتها البكاء قائلة: قل لي إنك بريء مما اتهمت به، فتبدد عني غيوم هذه الأحزان.
فلم يجسر عزيز على الجواب، بل غطى وجهه بيديه وبكى.
فصاحت متأوهة: يا إلهي! ما هذا المصاب؟ إنه لا يجسر على دفع التهمة، فهو مجرم، آه ما أشقاني!
فقال لها: العنيني يا روزه، وابغضيني، واحتقريني ما شئت، ولكن لا يمكنك أن تمنعيني من محبتك وتحرميني عبادتك، فالوداع يا مالكة قلبي يا روزه، إن يدي أثيمة لا تطمع بمس يدك الطاهرة، ولساني مدنس لا يجسر على التلفظ أمامك بغير كلمة الوداع، وقلبي المعذب لا يأمل أن تسكب عيناك دمعة على لحدي، وهذا أخف جزاء أستحقه على إثمي، فالوداع الوداع ...
قال ذلك وأسرع هاربا نحو الباب وهو يقول: إلى الموت، إلى الموت.
الفصل الرابع عشر
شهامة المرأة
ناپیژندل شوی مخ