ولما قضى خليل نحبه احتفل حبيب بدفنه احتفالا يليق بمقامه، وجعل همه بعد ذلك الاعتناء بسلمى، فكان يلاطفها ويواسيها ويبدي لها من الشفقة والحنو ما خفف مصابها، واستمال فؤادها إليه فوق ما كانت تضمر له من الصداقة والاحترام اللذين تأسسا في قلبها مدة وجوده بينهما، فكثيرا ما كانت حياة أبيها تستنير بمعارفه، وتتلذذ بأحاديثه الرقيقة، ثم استدعى أقاربها وفض وصية أبيها، وتلاها على مسمع منهم، فرأوا أن الفقيد خص ابنته سلمى بجميع الممتلكات والنقود، وأنه عين حبيب قيما عليها، فخرجوا من لدنها صفر اليدين مقطبي الوجوه، ولما أيقنت سلمى أنها أصبحت وحيدة لا أنيس لها يذود عنها سوى حبيب سلمت إليه مقاليد الأمور، وكاشفا بعضهما الحب، فتعاهدا على الاقتران، وبعد أن صفى الأشغال جمع ثروته وثروة خطيبته التي كانت قد بلغت قدرا عظيما، واقترن بها بحفلة بسيطة لداعي الحداد، ولبثا مدة يرتشفان فيها كئوس السعادة والهناء، ويتمتعان برغد العيش والصفاء، إلى أن أتى العام الأول على زفافهما فتمت لهما حينئذ السعادة بمولود جميل الطلعة، دعواه فريدا، فكانت آمالهما معقودة عليه، وأفكارهما منصرفة إلى الاعتناء به.
وهكذا توالت عليهما الأيام، وانقضى العام الثاني والثالث وهما مع ذلك الطفل في نعيم دائم، ورزقهما الله طفلة جميلة سمياها ماري، فتضاعفت أفراحهما وتعاظمت مسراتهما، وما كان أهنأ تلك الأم وهي على فراش النفاس ترى قرينها جالسا لديها، وقد ضم الولدين إلى صدره وهو يقبلهما تارة وينظر إليها تارة أخرى، فتبسم له وتتحد أفكارهما مع رسل العيون، فتخرج من صدريهما تنهدات تصل بتوسلاتها إلى المبدع الوهاب أن يديمهما في ذلك الفردوس النضير، ويحفظ لهما ما أعطى من الخير الكثير.
ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فإنه لم يمض أسبوع على ولادة تلك الطفلة حتى أصيبت والدتها بحمى شديدة، أورثت زوجها الحزن، وأولادها اليتم، وألبست المنزل السواد بعد أن ملأت قلوب أهله بالحسرات.
فأثرت تلك الفاجعة على حبيب تأثيرا لم يجد معه سبيلا إلى الصبر والسلوان، ولا وسيلة لإطفاء نار لوعته إلا بمهاجرة ذلك المكان الذي قضى فيه أجمل أيامه، ودفن فيه منتهى آماله.
فصفى أشغاله وجمع ثروته، وسافر بولديه إلى الديار المصرية، حيث ابتاع مقدارا وافرا من الأطيان، فوكل بها بعض الشبان المجتهدين، ومكث مع ولديه بضع سنوات، عاملا على تربيتهما وتهذيبهما حتى بلغا السن الموافق لتعليمهما، ولم يكن في مصر إذ ذاك من المدارس ما يفي بالحاجة، فذهب بهما إلى باريز حيث أدخلهما في أشهر مدارسها، وأقام في منزل صغير قرب نهر السين لا شغل له سوى مطالعة الكتب والجرائد، والتنزه في الأماكن المنفردة، والتردد على ولديه من وقت إلى آخر.
وفي مدة العطلة كانا يأتيان إليه فيصحبهما إلى جميع الأماكن التي يلذ لهما التفرج عليها، ومشاهدة غرائبها، ولا يدع شيئا من عجائب الآثار وبدائع التحف، شارحا لهما ما يهمهما الوقوف عليه من الأحاديث والأخبار فوق ما كانا يتلقيانه في المدرسة من علم واختبار، وهكذا كانت تصرف أوقاتهما في اكتساب الآداب والمعارف، ومداركهما تتسع وتمتد لطلب المزيد منها.
وفي نهاية السنة الخامسة خرجت ابنته ماري من المدرسة، وقد أنهت دروسها فعادت إلى والدها، وقد زاد العلم جمالها إشراقا، وأعار الشباب لحاظها سحرا حلالا، فإذا تكلمت خالها السامع تنظم دررا، أو صمتت ظنها الناظر ملكا سماويا لما فطرت عليه من الحسن الرائع الممزوج بالرقة والآداب. أما أخوها فريد فلبث في المدرسة حتى نهاية السنة السادسة حيث أنهى دروسه ونال الشهادة، فخرج منها وانضم إلى والده وشقيقته، وقد شمل الجميع السرور والارتياح.
الفصل الثامن
وردة الحقل
وكان لماري صديقة في المدرسة تدعى روزه، وهي مصرية النشأة سورية الأصل، قد هاجر بها والداها الديار السورية؛ لأسباب أهمها تأخر البلاد، وتقهقر أشغالها، وكساد تجارتها، وقلة أرباحها، فاعتنيا بتهذيبها، وأرسلاها إلى تلك المدرسة حيث صادقت ماري فتحابا ولا غرو، فإن الطيور على أشكالها تقع، فقد كانتا متشابهتين بجمال الخلق والخلق، متماثلتين بالجنس والذوق، متعادلتين في المنزلة والثروة، ولم يكن من اختلاف في هيئتهما سوى أن ماري كانت سوداء العينين والشعر، وبيضاء الجبين وخفيفة الروح، وروزه كانت زرقاء العينين كستنائية الشعر ذات بشرة نقية مشربة احمرارا، وكانت هيئتها تدل على حسن الصحة، وتوفر الدم كالبنات القرويات، وكان أترابها في المدرسة يلقبنها بوردة الحقل.
ناپیژندل شوی مخ