القاهرة
القاهرة: نسيج الناس في المكان والزمان ومشكلاتها في الحاضر والمستقبل
ژانرونه
لماذا يتجشم الناس مخاطر إضاعة الوقت في شارع الجلاء؟ رواد هذا الشارع في غالبيتهم العظمى مضطرون لذلك؛ لأن الشارع يكاد أن يكون حكرا على أبنية عامة للناس فيها مصالح متعددة. ففي البداية عمارة تشمل مكاتب الشهر العقاري لشمال القاهرة وعدة محاكم متخصصة، ثم يأتي قسم شرطة الأزبكية المحاصر تماما من جهاته المختلفة؛ مما يعوق الحركة السريعة المطلوبة من الشرطة. ثم مستشفى السكة الحديد والبنك الصناعي ومجمع محاكم شمال القاهرة، وأبراج مؤسسة الأهرام، وغير بعيد عنها مؤسسة أخبار اليوم، ثم مستشفى الولادة، ثم معهد ليوناردو دافنشي، وعدة أبنية حكومية، وبيوت فقيرة إلى أن نصل إلى هيلتون رمسيس وميدان الشهيد عبد المنعم رياض، وكل هذه الأبنية على الجانب الغربي من الشارع، أما الجانب الشرقي: فتطل عليه الواجهات الخلفية لأبنية عامة ضخمة على شارع رمسيس مثل: مصلحة الكيمياء، وسنترال رمسيس الضخم، وجمعية الإسعاف، ونقابة المهندسين، وغيرها كثير.
كم من الناس لهم مصالح يومية أو أسبوعية في هذه الأبنية العامة؟ وكم من الموظفين العاملين في هذه المؤسسات مضطرون للحركة اليومية صباحا ومساء. لماذا كل هذا التكدس الذي يفوق تكدس وزارات لاظ أوغلي.
حتى أوائل الخمسينيات كان شارع الجلاء مليء بالمساحات الفارغة، ضعيف الحركة بالقياس إلى شارع رمسيس الموازي له، وكانت أكثر أماكنه الممتلئة بالنشاط هي تلك عند تقاطعه مع شارع فؤاد - 26 يوليو - المؤدي بواسطة الترام من العتبة إلى بولاق والزمالك وإمبابة، وكذلك كان التقاطع مع نفق شبرا. بهذا استغلت ناصيتي التقاطعين في بناء مستشفى فؤاد - للولادة - ومعهد دافنشي، ثم مستشفى السكة الحديد، وحين أرادت جريدتي الأخبار والأهرام أن تتوسعا بنت كل منهما إنشاءاتها الكبيرة في متسع من الأراضي الفضاء.
سبب هذا التكدس بالنسبة لشارعي الجلاء ورمسيس أن كلا منهما كان مسارا لترعتين متجاورتين تأخذان من النيل شمال كنيسة كل القديسين محل ميدان عبد المنعم رياض حاليا، وقد ردمتا في آخر القرن الماضي غالبا مع ردم مسار الخليج المصري من فم الخليج حتى غمرة عام 1899؛ ترعة الإسماعيلية بعد ردمها وإنشاء مأخذها الحالي شمال شبرا أصبحت مسارا لشارع عباس؛ «الملكة نازلي ثم رمسيس حاليا». أما الترعة البولاقية: فقد استخدمت أرضها بعد ردمها لمد خط حديدي من باب الحديد إلى ثكنات الجيش الإنجليزي في قصر النيل، وظل الخط الحديدي قائما إلى نحو نهاية الأربعينيات، وكان الطريق المجاور للخط يسمى شارع فم الترعة البولاقية حتى تقاطعه مع 26 يوليو، ومن ثم كان شارع الترعة البولاقية موازيا لشارع آخر باسم سيدي المدبولي الذي كان يبدأ من باب الحديد ويتصل بشارع الترعة خلف السنترال. وبعد فترة من جلاء الإنجليز عن الثكنات عام 1947 ضم شارعي سيدي المدبولي وفم الترعة، وأصبح الطريق المستقيم الجديد هو شارع الجلاء الحالي، وعلى طول شارع رمسيس بنت الدولة مباني حديثة كحمام وزارة المعارف ومصلحة الكيمياء وجمعية الإسعاف ومعهد الموسيقى وسنترال تليفونات القاهرة وسجن الأجانب؛ وبذلك ظل شارع الجلاء شارعا خلفيا لفترة طويلة، ومع تحويل خط مترو مصر الجديدة من عماد الدين إلى الجلاء بدأت حركة نشطة للبناء والتعمير في شارع الجلاء؛ فصار شديد الازدحام للدرجة التي رفع معها خط المترو إلى كوبري الليمون كحل لأزمة شارع الجلاء، ولكن بدون نتائج حاسمة.
وللآن ليس واضحا ماذا يمكن عمله للتخفيف عن هذا الشارع المحوري. هل يعود المرور إلى اتجاهين في الجلاء ورمسيس؛ بحيث يخفف الضغط عليهما فلا يضطر العابر للجلاء دون مصلحة فيه أن يسلكه مرغما، ويتحول عنه إلى رمسيس في اتجاه التحرير، وكذلك يسلكه القادم من التحرير إذا كان صاحب مصلحة في شارع الجلاء بدلا من التزاحم والعنت في شارع رمسيس؟ ربما يتم التثبت من جدوى هذا المقترح بواسطة متخصصي المرور بناء على دراسة واقع سيولة الحركة بأجهزة العد الآلي التي تقام في الشوارع، واستبيان يطرح على المستفيدين من الحركة في الشارعين. أو هل يوجد أي اقتراح آخر يخفف آلام الحركة؟
أما مشروع محطة الترجمان المركزية للنقل البري والمطروح الآن للتنفيذ بعد الدراسة؛ فإنه لا شك مشروع هندسي جيد أو ممتاز، ولكن على الورق. غير الجيد فيه موقعه السيئ غير المناسب لحركة مركزية، وقد يسبب كارثة مرور فوق الكارثة المرورية الحالية في وسط البلد. فالترجمان تقع وسط ما ذكرناه من مناطق شعبية كثيفة داخل إطار من الأبنية الإدارية والحكومية والتجارية والفندقية، ولكل من هذه الأبنية وظائف لها متطلباتها من حيث انسياب وسيولة حركة المرور إليها، ويحد هذه المنطقة من الشرق شارع الجلاء، ومن الجنوب شارع 26 يوليو، ومن الغرب كورنيش النيل، ومن الشمال خط حديد الصعيد وشوارع السبتية المكتظة. كلها إذن شوارع مكدسة بلغت الحركة فيها أضعاف طاقتها المرورية مهما بلغ تنظيم المرور فيها مبلغه. فكيف يمكن للسيارات والأتوبيسات السياحية وأتوبيسات الأقاليم اختراق هذه الشوارع إلى محطة الترجمان؟ هل ستحفر أنفاق تحت النيل وشبرا وباب الحديد والتحرير؛ لكي تصل السيارات إلى المحطة؟
كيف يمكننا أن نوفق بين خطتين متعارضتين؛ أولاهما: إبعاد محطات النقل الإقليمي من أحمد حلمي - الذي هو في موقع أفضل من الترجمان - إلى عبود وشبرا الخيمة من أجل تخفيف العبء المروري عند باب الحديد، والخطة الثانية: تركيز المحطات الإقليمية في واحدة هي الترجمان الذي يقع داخل أعتى الأماكن ازدحاما فتزيد السوء سوءا؟! أليس لدينا منهاج واحد ثابت لمدة عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن حتى تستقر الأمور، ونرى ما تسفر عنه خطة أو توجه من اعتياد الناس للحركة، على ألا نحيد عن الخطة خلال تلك الفترة لمجرد تغير المسئولين؟ أليس الهدف حركة مرورية أرحم من الانسدادات الحالية من أجل قاهرة أحسن؟ وهنا أعيد التذكير أن المدينة التي تتعقد فيها حركة المرور هي مدينة مريضة تحتاج حلا. (4-2) لاظ أوغلي الجديد في ميدان العباسية
لاظ أوغلي هو الميدان الذي أعطى اسمه لحي الإدارة والحكم في مصر خلال نحو قرن من الزمان. كانت تلتف حوله وقربه رئاسة الوزراء ووزارات المالية والحقانية والداخلية والصحة العامة ومجلسا النواب والشيوخ، وليس بعيدا عنه وزارت المعارف العمومية والحربية والمواصلات والأشغال العامة والشئون الاجتماعية، والكثير من الأبنية الحكومية التابعة لوزارات الداخلية والمالية والصحة كمصلحة تحقيق الشخصية ومصلحة الأملاك الأميرية وخزانة الدولة ومصلحة الطبيعيات - الأرصاد ومياه النيل - في شارع منصور ومصلحة الطب الشرعي ومصلحة الضرائب وغير ذلك مما لا تعيه الذاكرة، وفي الحي ذاته كانت هناك أبنية عامة معظمها علمي؛ كالجمعية الملكية الجغرافية والمعهد العلمي المصري والجامعة الأمريكية التي كانت أصلا مقرا للجامعة الأهلية المصرية قبل أن تصبح جامعة فؤاد الأول، وتنتقل إلى متسع من الأرض في الأورمان، وأبنية أخرى أبرزها: ضريح سعد، وقصر الأميرة شويكار الذي أصبح مقرا لمجلس الوزراء حتى الآن، ومتحف الشمع الذي يشغل مكانه الآن مركز دعم اتخاذ القرار.
وبطبيعة الحال كانت حركة المشاة هي الغالبة؛ لكثرة وسائل النقل العامة من ترام وأوتوبيس وعربات الحنطور والقليل من التاكسي. وكانت الشوارع ظليلة بأشجار على الجانبين رعايتها من قبل مصلحة التنظيم مستمرة من أجل راحة المشاة، ومن ثم لم يكن هناك ازدحام وتكدس مروري وما والاه من تلوث معروف الآن، فكل موظف أو طالب خدمة حكومية كان يأتي راجلا أو راكبا وسيلة نقل، ثم يتجه إلى الوزارة المعنية ويغيب داخلها؛ لهذا لم تكن هناك حاجة إلى مواقف للسيارات. أما الآن فالأمر قد اختلف وشوارع هذا الحي الذي يحكم إدارة مصر قد اكتظت بالسيارات على جانبيه عدا أمام مجلسي الوزراء والشعب. وأصبحت المعاناة مريرة لكل من يذهب ليقضي مصلحته من مبنى حكومي. فالترام قد اختفى بعد أن كان وسيلة نقل تحمل أعدادا من الناس أكبر من الأتوبيسات التي زادت أعدادها لكنها تزيد حركة المرور ارتباكا بضخامتها، فضلا عن الميكروباصات التي تتداخل بشكل مزر في حركة المرور لرعونة السائقين.
ونتيجة للنمو السكاني الكبير ونمو احتياجات الحكم من إدارات ومصالح جديدة وخلق وزارات جديدة؛ فقد بدأت هجرة لأجهزة حكومية من حي لاظ أوغلي التقليدي نتيجة لتشبعه القاتل بالأبنية المضافة إلى الأبنية الأنيقة السابقة، واتجهت الهجرة الحكومية إلى عدة اتجاهات؛ أبرزها الاتجاه إلى الدقي، وإمبابة غرب النيل، والاتجاه إلى العباسية ومدينة نصر في شرق القاهرة التقليدية.
ناپیژندل شوی مخ