6
وفض الغلاف متعجبا وقرأ ما يأتي:
حضرة الشاب الفاضل محجوب أفندي عبد الدايم:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد، فإنه يؤسفنا أن نخبركم بأن والدكم العزيز مريض وملازم الفراش، ونسأل الله أن يجعل العواقب سالمة، ولكن لا بد من حضورك في أقرب وقت لتطمئن عليه بنفسك، وقد طلبوا إلي أن أكتب هذا إليك فلا تتأخر، والسلام.
شلبي العفش (صاحب بقالة القناطر الخيرية)
هذا يعني أن أباه في حالة عجز تمنعه من أن يمسك بالقلم، فماذا أصابه؟ وقرأ الكتاب للمرة الثانية وقد لاح الوجوم في وجهه الشاحب، وجعل يشد حاجبه الأيسر بأنامله، ومن عجب أنه لا يذكر أن أباه شكا المرض يوما ما. كان دائما متين البنيان ثقيل الخطوات؛ فلا شك أن مرضا خطيرا غدر به وأعجزه. ترى ما الذي يخبئه الغيب؟ ... وماذا يدخر له ولوالدته؟
ولكن لا يجوز أن يضيع الوقت سدى، أو أن يؤخر سفره دقيقة، وكتب كلمة لمأمون رضوان يشرح سبب سفره المفاجئ، ولف جلبابه في جريدة قديمة، ثم غادر الدار. لم يمض إلى الشارع العزبة كما كان يرجو منذ دقائق، ولكنه أخذ في شارع رشاد باشا أو شارع علي وإحسان كما يدعوه ساخرا، ومضى يحدث نفسه قائلا: «لو انتهى أجل الرجل لوئدت آمالي جميعا ... رباه! أيمكن أن يحدث هذا وما عاد بيني وبين الامتحان النهائي سوى أربعة أشهر؟!» وجد في الطريق المقفرة الغارقة قصوره في جلال الصمت لا يسمع إلا وقع قدميه، حتى بلغ الجيزة، واستقل الترام، تظلل الكآبة وجهه وعينيه، وفي جلسته المحزونة سرح به فكره إلى صاحبيه المقربين، مأمون رضوان وعلي طه، فنفس عليهما ما يتمتعان به من طمأنينة وثقة. مأمون رضوان أبوه مدرس بالمعاهد، ذو مرتب حسن؛ فلا تعيش أسرته في ظل الخوف، وهو يعطي الشاب ما يكفيه وأكثر، ولولا حمق مأمون الذي جعله يوقف حياته على العلم والعبادة لكانت له لذات الحياة، ولكنه أحمق، والحمقى دائما مجدودون. أما علي طه فأبوه مترجم ببلدية الإسكندرية ذو مرتب ضخم، والشاب يقبل على التمتع بالحياة في حدود مثله؛ فهو شاب سعيد، وحسبه إحسان كي يكون سعيدا، ولعل إنسانا ما لم يثر حسده كما يثيره هذا الشاب الجميل الموفق، هو هو البائس! ... أبوه - ترى ألا يزال أباه؟ - كاتب بشركة الألبان اليونانية بالقناطر، خدمة خمسة وعشرين عاما ومرتب ثمانية جنيهات، وإذا انقطع عن العمل فمكافأة أشهر معدودات، وكان الرجل يبذل له من مرتبه ثلاثة جنيهات شهريا أثناء السنة الدراسية، فنهضت بالضرورات من مسكن ومأكل وملبس، ورضي بها الشاب رضاء المتمرد المغلوب على أمره، وجعل يرمق ملاذ القاهرة من بعيد، ويسترق السمع إلى أخبارها بنهم وألم. كان ينطوي على شهوة جامحة بقدر ما يضيق بطموح جشع. تواردت عليه هذه الخواطر، فساءته تلك الساعة أكثر من أي وقت مضى، ثم فكر في العلاقة التي تربطه بهما، وفيما يسمونه بالصداقة، غافلا عن مشاهد الحقول والمياه التي يطويها الترام في جريه السريع. أله صديق حقا؟ كلا، وما الصداقة إلا إحدى الفضائل التي كفر بها؟! حقا إنه يميل إليهما كثيرا؛ فنقاش مأمون يستهويه، وروح علي تجذبه إليه، ويلذه أن يجتمع بهما يتحادثون ويتحاورون، ولكن ما شأن ذلك كله بما هو معروف عن الصداقة؟! إنه مع ذلك يحسدهما ويمقتهما؟ ولا يتردد عن إبادتهما لو وجد في ذلك نفعا. ومضى يقول لنفسه بلهجة التحريض: «الحرية المطلقة ... طظ المطلقة ... ليكن لي أسوة حسنة في إبليس ... الرمز الكامل للكمال المطلق ... هو التمرد الحق، والكبرياء الحق، والطموح الحق، والثورة على جميع المبادئ! وانتهى الترام إلى محطة الإسعاف، فتركه واستقل تراما آخر إلى ميدان المحطة، ومن ثم إلى المحطة نفسها، ثم انطلق إلى شباك تذاكر الدرجة الثالثة، وابتاع تذكرة. ولما تحول عن الشباك وجد نفسه أمام شاب في الثلاثين، متوسط القامة مع ميل إلى القصر والبدانة، مثلث الوجه كبيره، كثيف الحاجبين، حاد البصر، مستدير العينين، يلقي على ما حوله نظرة متعالية كلها ثقة وزهو، فعرفه، ودنا منه مادا إليه يده باحترام هاتفا: الأستاذ سالم الإخشيدي! ... السلام عليكم ...
فالتفت إليه دون أن تتغير ملامح وجهه، ونادرا ما يتغير وجهه؛ فهو لا يندهش ولا ينزعج، ولا يبدو عليه سرور ولا حزن؛ فإذا أراد أن يعلن غضبه - وكثيرا ما يفعل - استعان بنبرات صوته الغليظ. التفت نحو محجوب وقال بهدوء ورزانة: كيف أنت يا محجوب؟ - شكرا لك والحمد لله ... ولكن ما الذي جاء بالأستاذ إلى المحطة؟
فقال الإخشيدي بصوته الرزين: مسافر إلى بلدتنا القناطر لزيارة والدي، ولكن ما الذي جاء بك أنت وليس الوقت بموسم إجازات؟
فقال محجوب بأسف ظاهر: إلى القناطر أيضا لعيادة والدي المريض. - عبد الدايم أفندي مريض؟ ... كتب الله له السلامة. بلغه تحياتي.
ناپیژندل شوی مخ