لهذا جلس هناك، في هذا الجو الداعي إلى الخمول في مساء أحد أيام فصل الربيع بقرية صغيرة ينصب فيها سوق على نحو منتظم، محدقا في آخر رقعة من ضوء الشمس على مكتبه (وهو مكتب من خشب الماهوجني مطعم بنحاس أصفر كان جده قد صدم العائلة لما أحضره إلى المنزل من باريس) وفكر في العودة إلى المنزل. في تلك الرقعة من ضوء الشمس تستقر صينية شاي، وقد جرت العادة في مكتب بلير وهيوارد وبينيت أن الشاي ليس مجرد صينية معدنية مطلية بالإينامل الأسود، وأي كوب من المطبخ. في الساعة الثالثة وخمسين دقيقة بالتمام من كل يوم عمل كانت الآنسة تاف تحمل إلى مكتبه صينية مطلية يغطيها مفرش أبيض أنيق، عليه فنجان شاي من الخزف الصيني المنقوش بنقش أزرق، وعلى طبق من نفس نوعية الفنجان، قطعتان من البسكويت؛ بسكويت بيتي بير في أيام الاثنين والأربعاء والجمعة، وبسكويت دايجستف في أيام الثلاثاء والخميس والسبت.
وبينما هو يتأمل الأمر في تلك اللحظة، بذهن شارد، فكر كم أنه جسد استمرارية مكتب بلير وهيوارد وبينيت. حيث يتذكر وجود طقم الخزف الصيني هذا منذ زمن بعيد. والصينية التي، لما كان صبيا صغيرا، كان يستخدمها الطاهي في المنزل حتى يحمل فيها الخبز من المخبز، ثم انتشلتها أمه الشابة وأحضرتها إلى المكتب لتحمل عليها الفناجين المنقوشة بنقش أزرق. أما المفرش فقد جاء بعد سنوات مع قدوم الآنسة تاف. الآنسة تاف هي نتاج وقت الحرب؛ فهي أول سيدة تجلس على مكتب في مكتب محاماة شهير في ميلفورد. وقد مثلت الآنسة تاف ثورة شاملة من حيث إنها نحيفة عزباء لها شخصية جادة وغير لبقة. لكن المكتب قد صمد في وجه الثورة بدون عناء، والآن، بعد ما يقرب من ربع قرن، لا يمكن تصور أن الآنسة تاف، النحيفة الموقرة ذات الشعر الرمادي، قد مثلت أي تأثير واسع النطاق. وكان، في الواقع، الإخلال الوحيد الذي أخلته بالنظام الروتيني العتيد هو تقديم مفرش للصينية. في منزل الآنسة تاف لا يوضع طعام قط مباشرة على صينية؛ إذا استدعى الأمر، لا يقدم أي كعك أبدا مباشرة على طبق؛ فلا بد من وضع مفرش صينية أو منديل مائدة. لهذا نظرت الآنسة تاف شزرا إلى الصينية العارية. بل وقد ارتأت، علاوة على ذلك، أن النقش المطلي على الصينية مشتت، وغير مثير للشهية، و«غريب». ومن ثم في أحد الأيام أحضرت مفرشا من المنزل؛ كان أنيقا، بلا نقش عليه، وذا لون أبيض، باعتباره مناسبا لشيء عرضة للتآكل. ووالد روبرت، الذي كان قد أبدى إعجابه بالصينية المطلية، نظر إلى المفرش الأبيض النظيف فأثر فيه توافق شخصية الآنسة تاف الشابة مع مصالح المكتب، فظل المفرش باقيا، وصار الآن جزءا لا يتجزأ من حياة المكتب مثله كمثل صناديق حفظ الوثائق، واللوحة النحاسية، والزكام السنوي الذي يصيب السيد هيزيلتاين.
في الوقت الذي وقعت عيناه على الطبق الأزرق حيث وضع البسكويت، انبعث في صدر روبرت شعور غريب مرة أخرى. لم يكن لهذا الشعور أي علاقة بقطعتي بسكويت دايجستف؛ على الأقل، ليست علاقة مادية. إنما كانت له علاقة بحتمية روتين تقديم البسكويت؛ الحقيقة الراسخة بأن بسكويت دايجستف يقدم يوم الخميس والبيتي بير يوم الإثنين. حتى السنة الأخيرة أو ما يقاربها، لم يكن يرى عيبا في هذه الحقيقة أو كونها راسخة. لم يرد قط أي حياة أخرى سوى هذه الحياة؛ هذه الحياة اللطيفة الهادئة في المكان الذي قد نشأ فيه. وظل لا يسعى إلى أي حياة أخرى. لكن لمرة أو مرتين مؤخرا، جالت بخاطره فكرة غريبة، لم يعهدها؛ خاطرة عارضة، وعفوية. إن جازت صياغتها إلى أقرب معنى ممكن، فهي: «هذا كل ما ستحصل عليه في حياتك». ومع هذه الخاطرة يأتي ذلك الانقباض اللحظي في صدره. على الأغلب انفعال هلع؛ مثل اعتصار القلب ألما عند تذكر ما قد يثيره في صدره موعد طبيب أسنان عندما كان في العاشرة من عمره.
ضايق وحير هذا الشعور روبرت، الذي عد نفسه شخصا سعيدا ومحظوظا ، وناضجا في تلك اللحظة. لم اقتحمته هذه الخاطرة الغريبة وأثارت هذا الانقباض المحير تحت أضلعه؟ ماذا كان ينقصه في حياته ومن المفترض أن يفتقده رجل؟
أهي الزوجة؟
لكن كان بإمكانه أن يتزوج لو أراد ذلك. على الأقل هو يظن أنه يقدر؛ كان في المنطقة الكثير من الفتيات العازبات، ولم يظهرن دلائل على عدم الإعجاب به.
أهي الأم المخلصة؟
لكن أي إخلاص ربما منحته أم لن يكون أعظم مما قدمته إليه العمة لين؛ العمة لين العزيزة المتيمة.
أهي الثروة؟
ما الشيء الذي اشتهته نفسه من قبل وعجز عن شرائه؟ وإن لم يكن هذا هو مفهوم الثروة، فهو لا يعلم ما هو مفهومها.
ناپیژندل شوی مخ