صلى الله عليه وسلم
نصا، وجعل النهي عن مذهبه مفسرا، وذكر مقته له وبغضه إياه. (5) الخطابة ملكة كسبية وفطرية
الخطابة كالكتابة وقرض الشعر ملكة فطرية وملكة كسبية، إذا صاحبت فيها الكسبية الفطرية جاء من الخطيب كل قول عجيب، وقد كان دمر ستينوس وهو أخطب خطيب عند اليونان - كما أن شيشرون أخطب خطيب عند الرومان - خطب في الجمهور أول مرة ولم يحسن الإلقاء؛ لأنه كان ألثغ مثل واصل بن عطاء شيخ المعتزلة، وكان ضعيف الصوت، فحاول إصلاح ذلك وتمكن منه بوضع حصاة في فمه، وإنشاد أبيات وهو يركض على شاطئ البحر ويرتقي الروابي والآكام.
قال الجاحظ: أخبرني محمد بن عباد، وكان شاعرا راوية وطلابة للعلم علامة، قال: سمعت أبا داود بن جرير يقول وقد جرى شيء من ذكر الخطب وتحبير الكلام واقتضابه، وصعوبة ذلك المقام وأهواله فقال: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق من غير أهل البادية بغض، والنظر في عيون الناس عي، ومس اللحية هلك، والخروج مما بني عليه أول الكلام إسهاب، قال: وسمعته يقول: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام وحليها الإعراب، وبهاؤها تخير اللفظ، والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه.
وذكر محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بلاغة بعض أهله فقال: إني لأكره أن يكون مقدار لسانه فاضلا عن مقدار علمه، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلا على مقدار عقله. قال أبو عثمان الجاحظ: هذا كلام شريف نافع، فاحفظوا لفظه وتدبروا معناه، ثم اعلموا أن المعنى الحقير الفاسد والدني الساقط، يعشش في القلوب، ثم يبيض ثم يفرخ، فإذا ضرب بجرانه، ومكن بعروقه، استفحل الفساد وبزل، وتمكن الجهل وفرخ، فعند ذلك يقوى داؤه، ويمتنع دواؤه؛ ولأن اللفظ الهجين الرديء والمستكره الغبي أعلق باللسان وآلف للسمع، أشد التحاما بالقلب من اللفظ النبيه الشريف، والمعنى الرفيع الكريم، ولو جالست الجهال والنوكى والسخفاء والحمقى شهرا فقط، لم تنقذ من أوضار كلامهم وخيال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعقل دهرا؛ ولأن الفساد أسرع إلى الناس وأشد التحاما بالطبع، واللسان بالتعلم والتكلف، وبطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كتب الحكمة، يجود لفظه، ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخير.
قال معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش العبدي: ما هذه البلاغة التي فيكم قال: شيء تجيش به صدورنا، فتقذفه على ألسنتنا. فقال له رجل من عرض القوم: يا أمير المؤمنين هؤلاء بالبشر والرطب أبصر منهم بالخطب، فقال له صحار: أجل، والله إنا لنعلم أن الريح لتنقحه، وأن البرد ليعقده، وأن القمر ليصبغه، وأن الحر لينضجه.
قال أبو عثمان: قال صاحب البلاغة والخطابة وأهل البيان وحب التبيين: إنما عاب النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - المتشادقين والثرثارين، والذي يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة بلسانها، والأعرابي المتشادق هو الذي يصنع بفكيه وشدقيه ما لا يستجيزه أهل الأدب من خطباء أهل المدر ، فمن تكلف ذلك منهم فهو أعيب، والذم له ألزم، وقد كان الرجل من العرب يقف الموقف، فيرسل عدة أمثال سائرة، ولم يكن الناس جميعا يتمثلون بها إلا لما فيها من المرافق والانتفاع، ومدار العلم على الشاهد والمثل، وإنما حثوا على الصمت؛ لأن العامة إلى معرفة خطأ القول أسرع منهم إلى معرفة خطأ الصمت، ومعنى الصامت في صمته أخفى من معنى القائل في قوله، وإلا فالسكوت عن قول الحق في معنى النطق بالباطل، ولعمري، إن الناس إلى الكلام لأسرع؛ لأن في أصل التركيب أن الحاجة إلى القول والعمل أكثر من الحاجة إلى ترك العمل، والسكوت عن جميع القول، وليس الصمت كله أفضل من الكلام كله، ولا الكلام كله أفضل من السكوت كله، بل قد علمنا أن عامة الكلام أفضل من عامة السكوت، وقد قال الله - عز وجل:
سماعون للكذب أكالون للسحت ، فجعل سمعه وكذبه سواء.
وقال الشاعر:
بني عدي ألا ينهى سفيهكم
ناپیژندل شوی مخ